الشارع المغاربي: رافق قرارات الاحالة على التقاعد الوجوبي الموقع من قبل وزير الداخلية توفيق شرف الدين والتي شملت 18 اطارا امنيا سبق لجلهم ان تقلدوا اعلى المناصب صلب الوزارة تكتم كبير وغياب تام لأية معطيات توضح خلفيات اعتماد هذه الالية التي جُربت وفشلت في مناسبتين سابقتين وخلفت شروخا صلب المؤسسة الامنية سواء عندما اقرها فرحات الراجحي ابان الثورة او تلك الموقعة من قبل علي العريض في حكومة الترويكا الاولى.
عودة توفيق شرف الدين الى وزارة الداخلية بعد اشهر من اقالته من المنصب كانت توحي بأنها ستكون عودة لاتمام «مشروع التطهير» الذي شرع فيه بتنسيق مع رئيس الجمهورية وأقيل بعد ساعات قليلة من الانطلاق فيه. شهادات عديدة تؤكد ان شرف الدين «أهين» بعد اقالته وأن تحقيقا شمله بطلب من هشام المشيشي بسبب تسريبات لوثائق سرية اخرج بعضها في سابقة من رحاب الوزارة. «عاد لينتقم» كانت جملة متداولة في الكواليس الامنية وفي الاوساط السياسية النافذة ايضا خاصة داخل هذه الوزارة منذ الاعلان عن تشكيلة حكومة بودن.
من هذا المنطلق تختلف الروايات حول خلفيات قرارات الاحالة على التقاعد الوجوبي بين من يعتبر انها «كانت ضرورة» وتأخرت لسنوات وبين من يراها آلية ظالمة وانتقامية وتعكس توجها خطيرا ستكون عواقبه وخيمة على الوزارة التي عانت من التدخل السياسي طيلة العشرية الاخيرة مما جعل من هذه المؤسسة التي كانت وبقيت القلب النابض للحكم أداة طيعة للسلط بمختلف الوانها السياسية بسبب بعض القيادات الذين مُكنوا سريعا من التدرج والوصول الى اعلى الرتب وغادروها «مكنوسين» بتغير موازين القوى وبات عددا منهم لا يُذكر الا بتصنيفات لا تخرج عن «بيادق الاحزاب» أو بتهم «الفساد» والرشوة والتواطؤ مع الارهاب والتهريب.
من هم ؟
يوم الجمعة 19 نوفمبر 2021 تلقى 18 من كبار اطارت وزارة الداخلية اتصالا هاتفيا من المديرة العامة للمصالح المشتركة المُعينة في هذا المنصب منذ اسابيع قليلة ( يوم 23 اكتوبر 2021) لاعلامهم بقرار الاحالة على التقاعد الوجوبي. البعض ممن شملهم القرار كان ينتظر هذا الاجراء بل وكان يستعد لاستباقه وآخرون نزل عليهم الخبر نزول الصاعقة ولم يستوعبوا سبب ادراجهم في قائمة يصعب وضع كل مكوناتها في خانة واحدة. الاجراءات تمت بسرعة وصفت بالفائقة. كما طلب من المعنيين إعادة السيارات الوظيفية في نفس اليوم واعلموا ايضا بأنه تم ايقاف كل الامتيازات التي كانوا يتمتعون بها.
ويمكن تقسيم الاسماء المعنية بالقرار الى 3 مجموعات: الاولى والاهم هي القيادات الامنية التي شغلت المسؤوليات مع تسلم النهضة الحكم اخر سنة 2011 وهي الفترة كان عنوانها العنف السياسي وبداية تغلغل الارهاب والتي شكلت منعرجا في مسار الانتقال الديمقراطي بتسجيل 3 اغتيالات سياسية وسقوط شهداء من المؤسستين الامنية والعسكرية :
عاطف العمراني: مدير عام المصالح المختصة من 2013 حتى 2 ديسمبر 2015 تاريخ اقالته من منصبه اثر عملية محمد الخامس الارهابية وحافظ على منصبه رغم صعود نداء تونس الى الحكم. عاد اسم العمراني ليطفو مجددا على سطح الاحداث عند تقديم شهادته لقاضي التحقيق عدد 12 في ما يعرف بقضية «الغرفة السوداء».
محرز الزواري: اكثر من تقلد منصب مدير عام المصالح المختصة اثارة للجدل والاسم المتداول ضمن ما يعرف بالامن الموازي لحركة النهضة وهو النواة الصلبة لمجموعة القيادات الامنية التي قادت وزارة الداخلية في احلك الفترات واسوئها ضمن ما يعرف بـ«مجموعة 7 نوفمبر» او خريجي دورة 92 والذين احتكر 8 منهم اهم الادارات العامة (هناك وثيقة تفصيلية صدرت بموقع «نواة» بتاريخ 31 جويلية 2013). ابعد الزواري وبقي اسمه الاكثر تداولا في جل التقارير والشهادات حول فترة تغلغل النهضة في الوزارة.
وحيد التوجاني: اول مدير عام للامن الوطني الذي يعين بعد انهاء عملية تطهير شملت آخر فلول بن علي وعرفت البلاد خلال تلك الفترة انفلاتا امنيا واحداثا دموية لم تشفع بتغييره على غرار احداث 9 افريل ثم الاعتداء على مقر الاتحاد العام التونسي للشغل وبداية انتصاب خيمات «انصار الشريعة» التي كانت بوابة للتسفير والاستقطاب وتنامي العنف السياسي المسلط على احزاب المعارضة من قبل رابطات حماية الثورة واحداث السفارة الامريكية واغتيال الشهيد شكري بلعيد.
مصطفى بن عمر: من رئيس مصلحة الى مدير عام للامن الوطني في غضون 8 اشهر فقط. بن عمر الذي تصدر الندوات الصحفية عقب اغتيال الشهيد محمد البراهمي طُرح اسمه في قضية الوثيقة الاستخباراتية التي نبهت من امكانية اغتيال البراهمي شهرا قبل وقوع العملية. غادر بن عمر منصبه باقالة كانت تهدف لاحتواء الغضب في الشارع والمطالب بتحييد فعلي للوزارة. وان نفى بن عمر اية مسؤولية عن التقصير وعدم التعاطي بجدية مع التهديدات التي طالت البراهمي فان ذلك لم يكن كافيا لدحضها وبقي اسمه مقترنا بالوثيقة ربما بالنظر الى المسؤولية الامنية التي كان يتقلدها وقتها. وشكل تعيين بن عمر في ديوان لطفي ابراهم مفاجأة أثارت الاستغراب وشكلت الحجة التي تكذب بالنسبة للبعض خصومة ابراهم للنهضة.
عبد الكريم العبيدي: اكثر الامنيين التصاقا بالنهضة وعرف خاصة بالمسؤولية التي كان يتقلدها في مطار تونس قرطاج مباشرة بعد الثورة والدور الذي لعبه في تلك الثورة ومنه شبهة تركيز أمن مواز.
فتحي البلدي: عين مستشارا بديوان وزير الداخلية من قبل علي العريض ثم تم تداول اخبار عن اقالته من قبل ناجم الغرسلي لكنه بقي فاعلا صلب الوزارة. وهو من الاسماء المصنفة بالفاعلة في ما يسمى بالامن الموازي وذكر اسمه ايضا في قضية الجهاز السري للنهضة.
حمزة بن عويشة : مدير عام المصالح المشتركة وهو منصب تقلده خلفا لتوفيق الديماسي بعد ان تحصل على ترقيتين في ظرف وجيز في اطار آلية كانت تستعمل من طرف النهضة لتصعيد «القيادات» وتمكينهم من شروط الامساك بأهم المسؤوليات صلب الوزارة. بن عويشة الذي تجمعه علاقة مصاهرة بالزواري هو ايضا محسوب على «الامن الموازي».
المجموعة الثانية: «مجموعة التوافق» وتضم القيادات الامنية التي عينت بعد خروج النهضة من الحكم وتسلم حكومة المهدي جمعة 2014 السلطة. مهام تلك الحكومة كانت مراجعة التعيينات وهي عملية لا تزال محل شكوك .
ويتصدر المجموعة عماد الغضباني الذي شغل بعد 2011 خطّة مدير حماية الشخصيّات والمنشآت. وبعد ذلك تقلّد خطّة مدير عام وحدات التدخّل سنة 2012 إلى أن تمّ تعيينه يوم 8 مارس 2014 مديرا عامّا للأمن الوطني حتى غادر المنصب بعد سنة بقرار من الوزير ناجم الغرسلي في مارس 2015 الذي الغى تماما هذه الخطة. ابتعد الغضباني من وقتها عن المشهد القيادي للوزارة وبقي مصنفا ضمن الامنيين القريبين من النهضة رغم انه كان من ابطال عملية سليمان الارهابية.
– سامي عبد الصمد : هو من اول التعيينات التي اقرها الغرسلي في مارس 2015 وتم تعيينه هو وتوفيق ابراهيم بوعون وعز الدين محمد الخلفي على رأس الإدارات العامة بالإدارة العامة للأمن الوطني. منصب اقيل منه نهاية شهر ديسمبر وعين متفقدا عاما اثر عملية محمد الخامس الارهابية وغادر المنصب في سبتمبر 2016.
رشاد بالطيب: عين يوم 3 مارس 2018 مديرا عاما للأمن الوطني خلفا لتوفيق الدبابي وهو المنصب الذي حافظ عليه حتى اقالته وتعيينه من قبل رئيس الحكومة وقتها يوسف الشاهد على راس اللجنة الوطنية لمكافحة الإرهاب اثر الانتخابات التشريعية والرئاسية قبل ان يقيله الياس الفخفاخ في اخر ايام حكومته وعللت الاقالة بانها كانت ضمن «موجة» شملت كل المحسوبين على النهضة .
مجموعة «ضحايا 25 جويلية» :
من المفارقات ان قائمة المحالين على التقاعد الوجوبي تضم ثنائيا تحصل على اعلى رتبة في تاريخ وزارة الداخلية، وهما زهير صديق مدير عام الامن الوطني الاسبق ومحمد علي بن خالد آمر الحرس الوطني السابق. الاول عين يوم 17 سبتمبر 2017 أي بعد ايام من تقلد هشام المشيشي منصب رئيس للحكومة بعد ان ظل صامدا خلال عشرية «التقلبات» والثاني عين يوم 20 فيفري 2019 من قبل الشاهد.
حافظ الثنائي على المنصب بل وساهم في انجاح «مسار 25 جويلية» وكانا حاضرين في الاجتماع الاول الممهد لهذا المسار. واعتُبرت ترقيتهما في شهر افريل عملية استقطاب في معركة بسط نفوذ على الوزارة دارت بين القصر والقصبة وكان فيهما الثنائي «حطب معركة» استعملا ثم «اطردا» بعد اقالة وتغييرات شملت كل الادارات العامة تقريبا.
وان كان البعض يعتبر ان قرار الابعاد كان «منتظرا» من «قادة انقلاب» لا يمكن ان يغامروا بالابقاء على «من تم استقطابهم لأهمية مسؤولياتهم بعد ان اداروا الظهر لأولياء نعمتهم» فان ذلك قد يكلف من وقّع على القرار وسانده ثمنا «باهظا» على الاقل في خسارة هامش الثقة داخل المجموعات المنضمة لسلطة ما بعد 25 جويلية وتقوم بخدمات «جليلة» في اعداد الملفات في محاولة لإعادة التموقع.
لطفي الصغير: مدير عام الحدود والاجانب منذ سنة 2016 والذي تمت اقالته من منصبه نهاية شهر اكتوبر المنقضي بسبب خلافات حول اجراءات التشديد في السفر والمنع عن طريق الاستشارة والتي شملت مئات الاشخاص واثارت انتقادات واسعة في الداخل والخارج وانتهى الامر بابعاد وزير الداخلية مع توسيمه واحالة لطفي الصغير على التقاعد الوجوبي.
لزهر لونقو: الامني المثير للجدل والمتلون حسب تغير موازين القوى اعاده يوسف الشاهد الى الصف القيادي بالوزارة وعينه في الاستعلامات وسط رفض من رئاسة الجمهورية ومن حزب نداء تونس ثم عُين ملحقا امنيا بسفارة تونس في فرنسا قبل ان يُعينه هشام المشيشي مديرا عاما للمصالح المختصة وكان سيكون مديرا عاما للامن الوطني لولا اجراءات 25 جويلية. تم تداول اسم لونقو في برلمان 2014 كـ«عنصر فاعل في الامن الموازي» ثم في برلمان 2019 عندما اتهمه نواب من حركة الشعب بالفساد في علاقة بانتداب زوجته باحدى المؤسسات التابعة لوزارة التعليم العالي.
وقع توفيق شرف الدين على اقالة لونقو ليقال هو قبله ويتم التراجع عن برقية الاقالة والابقاء عليه بل وترقيته بما اعتبر استفزازا لرئاسة الجمهورية التي عبرت صراحة عن رفضها لهذا التعيين. احيل لونقو على الاقامة الجبرية بعد 25 جويلية.
بلال المناعي ومختار الهمامي : ثنائي الحرس الوطني الذين احيلا على التقاعد الوجوبي. مختار الهمامي الوحيد تقريبا الذي احيل وهو مباشر لمهامه كمدير اقليم الحرس الوطني بتونس والثاني هو اصغر من شملهم القرار وسنه لا يتجاوز الـ 40 سنة.
اما محمد علي العروي الناطق الرسمي السابق باسم وزارة الداخلية، فقد تصدر المشهد الاعلامي في اخطر فترات الحرب على الارهاب وبعد ان تكبدت القوات الامنية ضربات كانت قادرة على هز معنوياتها مع ما اتسمت به تلك الفترة من احتقان سياسي واتهامات للوزارة بالتواطؤ مع الارهاب. لعب العروي دورا هاما على المستوى الاتصالي في تلك الحرب كلفه تهديدات بالتصفية و4 قضايا منشورة لمحاولة الاغتيالات.
الخفايا
اكدت مصادر امنية مطلعة لـ«الشارع المغاربي» ان عددا ممن شملتهم قرارات الاحالة على التقاعد الوجوبي سيتوجهون الى المحكمة الادارية لـ«استرداد حقوقهم» عبر «الطعن» في هذا الاجراء. وهو خيار سبق ان اتبع اثر قرارين مشابهين عرفتهما الوزارة التي رفضت في ما بعد تنفيذ احكام صادرة عن المحكمة الادارية تقضي باعادة المشمولين بهذا الاجراء الى وظائفهم والكل يذكر مثلا قصة العقيد لطفي القلمامي.
من اسباب احالة اطارات من الحرس الوطني على التقاعد الوجوبي الابحاث المُجراة في ملف رئيس حزب قلب تونس نبيل القروي وتحديدا تلك المتعلقة بقضية تدليس 3 خبراء عدليين تقرير الاختبار الفني في قضية تبييض الاموال علاوة على الابحاث في علاقة بوزير البيئة المقال مصطفى العروي الموقوف في قضة النفايات الايطالية والابحاث الاخرى المتعلقة بالقضية التي رفعها السفير السابق قيس القبطني على مديرة الديوان الرئاسي نادية عكاشة والتي وجهت لها مركزية الحرس الدعوة في مناسبتين تخلفت عنهما.
اليوم يتُهم توفيق شرف الدين بقيادة عملية انتقامية لتصفية حسابات «اختلط فيها الحابل بالنابل» وصُعدت فيها وجوه الامن الموازي لاكسائها شرعية ومقبولية داخل المشهد السياسي والامني. ولتأكيد الطابع الانتقامي هناك من يؤكد مثلا ان بعض من شملهم الاجراء «تعرضوا لإهانة مقصودة» يقولون انها تهدف لبسط النفوذ صلب الوزارة مبرزين ان عددا هاما منهم تفصله اشهر قليلة عن الخروج على التقاعد». تبقى هذه الانتقادات قائمة في ظل صمت الوزارة لكن «اختفاء» كل المشمولين بالاجراء وعدم خروجهم للدفاع عن انفسهم يثير ايضا التساؤلات.
الوزارة قد تعرف خلال الايام القادمة سلسلة جديدة من القرارات منها احالات على التقاعد الوجوبي، إحالات لن تكون في كل الاحوال الحل ولن تنفع حتى من يخيل اليه اليوم انه «الاقوى» وانه عصي على «الجميع» باعتباره يتحكم في المؤسسة الامنية.
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 23 نوفمبر 2021