الشارع المغاربي-كوثر زنطور: غادر خبير بإحدى المؤسسات المالية الدولية المانحة مكتب وزير من أهم وزراء الحكومة وهو في حالة ذهول مما عاين اثر جلسة خاطفة دامت بضع دقائق جمعته بالوزير. الخبير استغرب من ” الضبابية” السائدة في أروقة الوزارة وخاصة من وضع الوزير نفسه الذي كان ” نصف مغادر نصف باق” وفي حيرة من أمره بخصوص مصيره ان كان من الباقين ام من المغادرين.. وفي الحقيقة هذا حال كل الوزراء منذ اعفاء رئيسة الحكومة نجلاء بودن وتعيين احمد الحشاني خلفا لها وربما ايضا لغياب اية مقومات الاستمرارية مع تتالي اقالات لا يستثنى منها أحد لا المقربون ممن يسمّون بـ “ابناء المشروع” ولا الطيّعون والخدومون.
تتعدد الروايات في الكواليس حول وضعيات الوزراء منذ التغيير الحاصل على رأس الحكومة. بين من بات يرفض التوقيع مرجحا ان يكون في قائمة ” المغادرين” ومن انطلق في اتصالات للعودة الى عمله السابق او بحثا عن افق ما بعد ” الوزارة” . من جهة اخرى تكشف شهادات اطارات بوزارات لـ”الشارع المغاربي” طبيعة “المجهودات الجبارة” التي انخرط فيها وزراء لضمان البقاء وتتعلق أساسا بادارة الملفات التي تسترعى اهتمام رئيس الجمهورية قيس سعيد صاحب القول والفصل في ملف التحوير الوزاري الذي طال الحديث عنه.
الاقتصاد والمالية
يفترض ان يكون تعيين رئيس حكومة متبوعا باعلان عن تركيبة جديدة للحكومة. الا ان الحشاني بلغ أسبوعه الرابع في القصبة دون إدخال أي تغيير على الفريق السابق الذي رافق نجلاء بودن منذ تعيينها في أروقة رئاسة الحكومة يبدو الجميع في وضعية ترقّب نحو قصر قرطاج اين تطبخ كل الخيارات ومن اين صدرت قرارت تعيين الفريق الاستشاري لبودن ومنه ايضا سيتم تحديد الفريق الجديد لأحمد الحشاني من ضمن السابقين أو من خارجه.
لذلك لا يبدو ان للحشاني هامشا كبيرا في تحديد فريقه فما بالك في اختيار تركيبة حكومته التي لم يجتمع بها ولا مرة منذ تعيينه ولم يرأس أي مجلس وزراء رغم تعدد الازمات خاصة منها المالية العمومية وامكانية اصدار قانون مالية تكميلي والبدء في اعداد ميزانية العام القادم. هذا ما يجعل كل الانظار تنصبّ على اصحاب الحقائب الاقتصادية والمالية وتحديدا سمير سعيد وسهام نمصية عضوي وفد تونس المفاوض مع صندوق النقد الدولي.
من جهتها واجهت سهام نمصية مطبّات عديدة في منصبها كوزيرة للمالية . فقد كانت اولى المعيّنين في منظومة ما بعد 25 جويلية (عينت يوم 2 اوت 2021) قبل حتى اختيار رئيسة الحكومة نجلاء بودن (11 اكتوبر 2021). صفتها كـ “مغضوب عليها” من الوزير السابق علي الكعلي كانت السبب المحوري وربما الوحيد وراء اختيارها لهذا المنصب الذي كان بمثابة رد اعتبار لها لكونها أحد ” ضحايا الكارتالات ورجال الاعمال”. ذلك ان الرواية المتداولة عند اقالتها تمحورت حول ضغوطات مورست من قبل “نافذين” و”ممولي أحزاب داعمة للحكومة” لإبعادها من منصبها كمديرة عامة للدراسات والتشريع الجبائي .
وطيلة أكثر من سنتين على تولي مقاليد الوزارة، كانت نمصية محل تشكيات من داخل الوزارة بسبب ” طبعها الحازم” ثم على خلفية قرارات إعفاء اطارات بالوزارة اعتبرت “تصفية حسابات” ما كان للوزيرة ” الزميلة” التي اكتوت بنارها سابقا ان تعيدها بتوقيع وتدبير منها شخصيا. خارج الوزارة لم يكن الأمر مختلفا فعلاقات الوزيرة كانت متوترة مع محافظ البنك المركزي مروان العباسي ثم مع وزير الاقتصاد سمير سعيّد في علاقة بالمفاوضات مع صندوق النقد وكانت نمصية مقصيّة من حضور اجتماعات الربيع للبنك الدولي وصندوق النقد. توتّر تم نفيه رسميا لكن مصادر رفيعة المستوى تؤكده.
نمصية تكاد تكون الوزيرة الوحيدة التي دافعت بشراسة عن قانون المالية المثير للجدل للعام الحالي وكانت ايضا اكثر المدافعين على ” تونسية” ما سمي ببرنامج الاصلاحات مع صندوق النقد حول اتفاق قرض بـ1.9 مليار دولار الذي قيل ان 400 كفاءة تونسية اشرفت على اعداده وهو اليوم في ” سلة المهملات” بعد ان تعطل تحويله من اتفاق على مستوى الخبراء الى اتفاق نهائي بسبب رفض رئيس الجمهورية الذي قال انه املاءات وانه يهدد السلم الاهلية.
تبدو نمصية قريبة من المغادرة وهي التي تتعرّض الى حملة فايسبوكية مثلما يقول مقرّبون منها ويصفونها بـ”الممنهجة”. وقد يرافقها وزير الاقتصاد والتخطيط سمير سعيّد أحد أفضل الوزراء في الحكومة الحالية حسب تقييم اهل الاختصاص. سعيّد كان من بين الاسماء المرشحة لرئاسة الحكومة ويقول من التقوه خلال الاشهر الاخيرة ان ” طموحاته” اصبحت مكشوفة. يُعاب على الوزير سوء التنظيم والتدبير وعدم تعويله بالشكل المطلوب على اطارات الوزارة وتمسكه بادارة كل الملفات بنفسه لتبقى في الاخير مركونة على مكتبه طيلة أشهر .
موضوعيا، كان حريّا بالوزير سعيّد توظيب امتعته ومغادرة الوزارة حالا وبلا تعطيل. فالمتأمل في تصريحاته الاخيرة يدرك انه في الضفّة المقابلة لرئيس الجمهورية في علاقة بالمحاور الكبرى لـ “الاصلاحات” وتحديدا مسألة التفويت في المؤسسات العمومية او ما يعرف بـ “الخوصصة”. الوزير دافع يوم 29 جويلية المنقضي خلال جلسة عامة بالبرلمان عن قرار الخوصصة اذ انه شدّد على وجوب بيع أية مؤسسة عمومية خاسرة واستعمال المداخيل في مشاريع مجدية بما يحول دون لجوء الدولة للتداين لتغطية الخسائر. والمعلوم ان سعيد الرئيس رفع لن الزمخشرية أمام “الخوصصة” حتى في حالات المؤسسات التي تشكو من متاعب وعلى شفى الافلاس وقال ان هناك تخطيطا لإفلاسها قصد التفويت فيها.
أما وزراء السيادة، الداخلية والعدل والدفاع والخارجية، فقد يشكلّون رباعيا ” أكثر أريحية” مقارنة بالبقية ولو بشكل متفاوت. من ذلك مثلا وزيرة العدل التي لا يُعرف ان كانت في خدمة الرئيس واجندته لـ “تطهير القضاء” ام انها في خدمة أجندتها وأجندة محطيها للقضاء على القضاء مثلما تتّهمها هياكل المهنة، فستكون مدعومة بوقفة تضامنية يوم 25 اوت الجاري وفق ما أعلنت المحامية وفاء الشادلي. وقد تكون هذه الوقفة لدعم الوزيرة ولاحتواء منتقديها على غرار رئيس المجلس الأعلى المؤقت للقضاء الذي التقاه سعيّد مؤخرا من جهة وعلى خلفية الصراعات الحامية حول الحركة القضائية التي لم تصدر السنة المنقضية وقد تكون الاقتراحات المُقدمة لهذه السنة رُفضت من جهة أخرى.
الحالمون
لا احد عصيّ على التغيير وفوق سيف الإقالة الذي يسلطه قيس سعيد بلا هوادة تاركا وراءه الفراغ والشغورات التي قد تطول لأشهر وتجاوزت في بعض الحالات العام. المفاجآت في قائمة المغادرين واردة سواء كان الوزير حديث العهد بالتعيين او من المقربين. الا ان المؤكد ان لا نية لسعيد في كل الأحوال لتحويل الحكومة الى حكومة سياسية مثلما يدعو الى ذلك ما تبقي له من مساندين كانوا يُمنّون النفس منذ تنصيب البرلمان الجديد باقرار تغييرات كبرى في مسار ما بعد 25 جويلية.
يمكن اختزال المؤكد والوارد والمستحيل في ملف “التحوير الوزاري” في :
-التحوير لن يفتح الباب امام تشكيل حكومة سياسية واختيار الحشاني كان رسالة واضحة في هذا الاتجاه.
-قيس سعيد لن يتّجه نحو تشكيل حكومة جديدة ولن يتّجه ايضا نحو اقرار تحوير واسع وسيتم التغيير على الارجح بمراحل .
-التقييم غائب عند التعيين وعند الاعفاء والاستقالة يبدو انها خيار غير ممكن امام أي وزير.
هناك من يؤكد ان ” المُجمّدين” في الإدارات او ما يسمى بـ”جماعة الفريقو” هم الأوفر حظا لتولي حقائب وزارية في عهد قيس سعيد مستندين في ذلك على تعيين 3 من المجمّدين في وزارة المالية على رأس وزارات (المالية وفي مناسبتين التجارة). بالاضافة الى مجموعة “المجمّدين ” و “خريجي كلية الحقوق” لسعيّد أريحية في التعويل على ابناء المؤسسة العسكرية الذين كان قد اشاد بـ “نجاعتهم وكفاءتهم ووطنيتهم” ويبدو ان تجربة وزير الفلاحة العسكري برتبة فريق ناجحة وفاتحة تعيينات عسكريين في مناصب وزارية.
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” في عددها الصادر بتاريخ الثلاثاء 22 اوت 2023