الشارع المغاربي – أحمد بن مصطفى( سفير سابق وباحث في القضايا الدبلوماسية والاستراتيجية): المساعي الرسمية التي قام بها رئيس الحكومة يوسف الشاهد لدى الاتحاد الأوروبي لرفع التجميد عن الأموال والممتلكات المهربة التابعة لصهر الرئيس السابق مروان مبروك و ما أثارت هذه الخطوة من جدل وردود أفعال تعيد إلى واجهة الأحداث قضية تهريب الأموال إلى الخارج والتعاطي الحكومي مع هذا الملف الذي طرح مباشرة بعد الثورة في أبعاده المتعلقة بحجم الأرصدة المهربة وهوية الأطراف المتورطة وانتماءاتها المهنية والعائلية ومدى قرابتها من النظام السابق وكذلك مدى استعداد الجهات الخارجية المعنية لاحترام التزاماتها بمساعدة تونس على استرجاع “ممتلكاتها المسروقة” وفقا لما ورد بالبيان الختامي لقمة دوفيل لمجموعة السبع المنعقدة بفرنسا خلال شهر ماي 2011.
ويجدر التذكير في هذا الصدد بأن إقرار الدول الصناعية الكبرى رسميا بوجود هذه الأموال والممتلكات لديها التزامها بإعادتها إلى تونس مصر وتحديد الآليات القانونية لذلك، لم يكن أمرا مألوفا في العلاقات شمال جنوب خاصة وانه كان يندرج في سياق ما كانت تدعيه مجموعة السبع آنذاك من أنها ستقطع مع سياسة تغليب المصالح في تعاطيها مع الأنظمة العربية المستبدة وستعطي الأولوية لتشجيع الديمقراطية في الدول العربية والشرق الأوسط عموما وستعمل تباعا على تقديم الدعم السياسي والاقتصادي والمالي الضروري لإنجاح الانتقال السياسي والاقتصادي في دول “الربيع العربي” وتحديدا بتونس.
و تجسيدا لهذا التوجه الجديد تعهدت مجموعة السبع أيضا بتوفير تمويلات ضخمة بشروط ميسرة لتونس ومصر إلى جانب تعهدها باتخاذ تدابير تحفظية على الأرصدة المهربة في انتظار استكمال التحقيقات وانتهاء التدابير القضائية، وهذا هو الإطار الذي جاء فيه تجميد الاتحاد الأوروبي أموال 48 تونسيا من بينهم مروان مبروك.
و ظل الاتحاد الأوروبي يجدد هذا الإجراء بانتظام وجوبهت بالرفض كافة الشكاوى القضائية المرفوعة من مروان مبروك لدى الدوائر الأوروبية المختصة منذ 2015على الدولة التونسية لاستعادة أحقية التصرف في الأموال المجمدة.
غير أن هذا الإجراء أضحى يكتسي منذ سنوات صبغة روتينية وشكلية باعتبار انه لم يكن مرتبطا بإرادة سياسية حقيقة لمتابعة هذا الملف بصفة جدية لا من الجانب الأوروبي ولا من الجانب الحكومي التونسي بدليل أن تونس أقدمت منذ سنوات على حل اللجنة التي بعثت برئاسة البنك المركزي لتنسيق الجهود بين مختلف الوزارات والجهات القضائية والإدارية التونسية المتعهدة بالموضوع.
والحقيقة أن التطورات السلبية التي مر بها هذا الملف هي نتيجة حتمية للتحولات التي تميز المشهد السياسي التونسي خاصة في ظل مراهنة الائتلاف الحاكم على التحالفات مع أوساط الأعمال وبعض اللوبيات الفاسدة المتورطة في التهريب كسبيل للسيطرة على دواليب الدولة والاستمرار في السلطة واحتكارها في المستقبل وهو ما انعكس سلبيا على الانتقال الديمقراطي بتونس.
لكن الدول والأطراف الخارجية المتواطئة مع المهربين تتحمل قسطا كبيرا من المسؤولية في استفحال هذه الظاهرة ذات الصلة بالسياسات الاقتصادية والتجارية الظالمة القائمة على مزيد إغراق تونس في المديونية القذرة وتكبيلها بالتبادل الحر غير المتكافئ المفروض على تونس منذ عقود وهي ذات التوجهات التي حرصت مجموعة السبع غداة الثورة على تواصلها مقابل وعودها وإغراءاتها الكاذبة.
تفاقم ظاهرة تهريب الأموال بعد الثورة
تفيد الأرقام الصادرة عن مركز البحوث في الاقتصاد السياسي التابع لجامعة ماساشوست الأمريكية أن الأموال المهربة من تونس خلال الفترة المتراوحة بين 1970 و2010 بلغت 39 مليار دولار وهو ما كان يمثل ما نسبته 88 بالمائة من الناتج المحلى الخام علما أن نسبة من تلك الأرصدة تم تحويل وجهتها من الأموال المقترضة بتواطئ من الجهات المقرضة مما دفع البرلمان الأوروبي إلى استصدار قرار غير ملزم يصنف المديونية التونسية المقدرة ب 25 مليار دينار سنة 2010 كديون قذرة يجوز المطالبة بالتدقيق فيها وإعفاء الشعب التونسي من تحمل تبعاتها.
غير أن الحكومات المتعاقبة بعد الثورة فوتت على تونس فرصة التخلص من هذا العبء الثقيل ولو جزئيا بخضوعها للضغوط الغربية المطالبة بضرورة تسديد ديون النظام السابق، و قد تم التسويق لذلك على أنه الخيار الوحيد المتاح لتونس المدعوة لإحترام التزاماتها في إطار “استمرارية الدولة” حتى يتسنى لها الحفاظ على الأرقام السيادية التي تؤهلها لمزيد الاقتراض بشروط ميسرة.
ولكنه سرعان ما تبين زيف هذه المزاعم بعد أن أقحمت تونس منذ 2013 في دوامة البرامج والقروض المشروطة والمكلفة لصندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي والمؤسسات المالية الدولية التي تم توظيفها لمزيد الضغط على تونس لفرض ما يسمى بالإصلاحات الكبرى وربطها أيضا بإلزامية التسريع بالتوقيع على اتفاقية أليكا وهو الشرط الأساسي التي وضعته مجموعة السبع مقابل وعودها الزائفة التي ظلت حبرا على ورق.
و هذا ما يفسر الارتفاع غير المسبوق في كتلة الديون التي بلغت 75 مليار دينار بزيادة الضعفين عما كانت عليه غداة الثورة مع الإشارة إلى سوء التصرف المفضوح في هذه الموارد التي وقع تبديدها أساسا في تسديد خدمة الديون القديمة وعمليات التوريد العشوائية والصفقات التجارية المشبوهة التي تعد من ضمن الآليات المفضلة لتهريب الأموال إلى الخارج.
وبالتالي ليس مستغربا أن تعلن منظمة الشفافية الدولية في تقريرها الصادر سنة 2016 عن ارتفاع المعدل السنوي للمبالغ المهربة من تونس التي وصلت إلى قرابة الملياري دولار سنويا خلال العامين المواليين للثورة مما يؤكد أن هذه المعضلة هيكلية ومرتبطة بالنمط الفاسد المعتمد في إدارة الشأن الاقتصادي بتونس.
وهكذا يتضح أن معالجة معضلة تهريب الأموال إلى الخارج تتطلب حتما مراجعة السياسات الاقتصادية والخيارات الدبلوماسية ذات الصلة مما يقتضي استرداد تونس قرارها السيادي في تحديد خياراتها وتوجهاتها الإستراتيجية الكبرى وهو ما حرصت كتلة مجموعة السبع على تجنبه بأي ثمن غداة الثورة باعتبار أن مصالحها الحيوية في المنطقة تقتضي الإبقاء على تونس وبلدان الضفة الجنوبية للمتوسط في دائرة نفوذها من خلال التبادل الحر وذلك رغم وصول منظومة اقتصاد السوق إلى طريق مسدود في ظل استفحال الأزمة الاقتصادية العالمية المندلعة منذ 2008.
خلفية الموقف الحكومي الأخير من قضية تهريب الأموال إلى الخارج
في حقيقة الأمر إن الطلب الرسمي الموجه من حكومة الشاهد إلى الاتحاد الأوروبي لتمكين مروان مبروك من استعادة التصرف في الأموال التي هربها من تونس ليس بالأمر المفاجئ بل يندرج في سياق سياسة ممنهجة تبناها الائتلاف الحاكم الحالي بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية والتشريعية لتحقيق ” المصالحة” بحجة إحياء الحركية الاقتصادية والاستثمارات التي تم الترويج إلى أنها تعطلت بفعل المضايقات التي فرضت على قطاع الأعمال وتجميد ممتلكات رجال الأعمال المشتبه فيهم ومنعهم من السفر فضلا عن التبعات العدلية التي طالت العديد منهم وكذلك الموظفين المتهمين بالفساد.
وفي هذا السياق جاءت المواجهة مع هيئة الحقيقة والكرامة بخصوص قانون المصالحة الاقتصادية التي أدت إلى عرقلة مسار العدالة الانتقالية بخصوص التسويات مع رجال الأعمال خاصة بعد رفع الإجراءات التحفظية عليهم في الداخل إلى جانب إصدار قانون المصالحة الإدارية الذي أوقف التتبعات ضد الإداريين و فتح المجال لإعادتهم إلى وظائفهم.
وكما كان متوقعا لم تساهم هذه الخطوات في إعادة تنشيط الحركية الاقتصادية بقدر مساهمتها في ضرب الانتقال السياسي والديمقراطي بتونس ومزيد إضعاف الدولة في مواجهة الفساد والاقتصاد الموازي وحتى الإرهاب الذي دخل هو الآخر في لعبة الصفقات والتحالفات مع رموز الفساد.
و هكذا استعادت منظومة اللوبيات نفوذها وسطوتها في المشهد السياسي والاقتصادي والإعلامي خاصة في ظل اقتراب المواعيد الانتخابية الرئاسية والتشريعية ونشوب الصراعات صلب الائتلاف الحاكم التي حولت الخلاف المعلن بين الرئاستين في اعلى مستوى القرار إلى سباق محموم للحصول على دعم الأطراف الخارجية واللوبيات النافذة الداخلية المراهن عليها من قبل الأحزاب الحاكمة للاستمرار في السلطة رغم النتائج الكارثية لسياساتها التي أوصلت البلاد إلى المأزق السياسي والإفلاس الاقتصادي.
وهذا هو السياق الذي جاءت فيه الصفقات التي ابرمها يوسف الشاهد منذ شهر ماي 2018 مع مجموعة السبع والاتحاد الأوروبي وتحصل بموجبها على دعمهما المالي والسياسي مقابل تعهده بالتوقيع على اتفاقية اليكا إضافة للإجراءات الجبائية المثيرة للجدل الواردة بقانون المالية لصالح قطاع المال والأعمال بهدف استمالته لصالح المشروع السياسي الذي يستعد رئيس الحكومة للإعلان عليه في أفق الاستحقاقات الانتخابية القادمة.
لكن الخاسر الأكبر جراء كل هذه المناورات والحسابات الضيقة هو المصلحة الوطنية العليا والشعب التونسي الذي ضاق ذرعا بهذه الممارسات التي لا يستبعد أن ترتد على أصحابها وأن تفتح الباب على مصراعيه أمام المزيد من التناحر وعدم الاستقرار وان تقضي على آخر فرصة متاحة لانقاذ الانتقال الديمقراطي وتحقيق التداول السلمي الحقيقي على السلطة.