الشارع المعاربي: تساءلت عند متابعتي خطاب قيس سعيد بمناسبة إحياء الذكرى 66 لاستقلال تونس عمّا إذا بلغ إلى علمه وضع البلاد الحقيقي! وضع بلاد تحت التنفس الاصطناعي تنتظر بفارغ الصبر جرعة اوكسيجين من صندوق النقد الدولي لتفادي الإفلاس وربما انهيار الدولة مثلما تنبأ بذلك “مجمع الأزمات الأمريكي”، بلاد يعيش ربع أهلها تحت خط الفقر منهم مليون – حسب تقرير رسمي للمنظمة العالمية للتغذية – جياع لا يستطيعون الى رغيف الخبز سبيلا، بلاد يطمح ما يقارب خمس شعبها – حسب دراسة ميدانية – الى الفرار من جحيم وضعها.
عجبا والله!
ثلاثة مراسيم سنّت في ظرف استثنائي بطريقة أحادية دون مشاركة أهالي الذكر في صياغتها، قدمها قيس سعيد وكأنها ماء زمزميا سيسقي في البلاد ما هو جامد وعاطل وفاسد ويحوّل تونس إلى جنة “تلوح من أفقها – حسب تعبيرة قيس سعيد – أنوارا تشعّ على أهلها وشبابها”. ولإضفاء نوع من القداسة على مراسيمه الثلاثة استنجد برموز تاريخية ليس أهلا لها لا كشخص ولا كمسؤول على دولة ولا كتاريخ…
ثم إذا افترضنا جدلا أن هذه المراسيم المعجزة حاملة لبذور الثروة والتشغيل والإنقاذ، فلن تؤتي أكلها إلا بعد ما يقتضي كل مشروع اقتصادي من دراسة وتشخيص وتهيئة تحتية وإنجاز وتفعيل، يعني في أحسن الحالات كما هو الشأن في تونس بضع سنوات، بينما الحلول المنتظرة شعبيا ودوليا عاجلة، اليوم قبل غد…
أما في ما يتعلق بالمرسوم القاضي نظريا على المضاربة والمضاربين فهو مبني على مغالطة انتبه اليها الرأي العام التونسي اذ أدرك أن معدل الكميات من الحبوب المحجوزة لا يتجاوز 300 طن في اليوم فيما يستهلك التونسيون يوميا ما يقارب 7000 طن! المسؤولية في نقص المواد الأساسية تعود الى غير المحتكرين، الى السلطة الحاكمة أساسا بسبب غياب القدرة على استشراف الأزمات واستباق الحلول، وارتجال العاجلة منها وجشع لوبيات استيراد الحبوب وعجزها عن تحقيق الاكتفاء الغذائي الذاتي وهو الداء الأصلي والمخجل لشحّ الحبوب ومشتقاتها…
حلول اذن إما انتظارية أو خيالية لمعضلات تأبى الانتظار ولو قيد لحظة!
مرة أخرى يَبْرُزُ قيس سعيد كما هو، حاملا رسالة – قد يعتقد ربما أنها سماوية – لم يسبق للتاريخ أن سجل مثلها، غير مكترث بما فرض نفس التاريخ هذا من سنن قيمية ودستورية وقانونية أسست للبشرية على مرّ القرون صيغ تعامل وتحاكم جنبتها اجمالا السقوط في الفوضى والاستعباد، منها النمط الديمقراطي المهيكل حول أجسام وسيطة كالأحزاب والنقابات والاعلام.
واضح اذن أن سي قيس سعيد ماض بلا هوادة – Tête Baissée– في تجاوز النمط السياسي الكوني وفي إسقاط – كرها إذا اقتضى الأمر – نمطه السريالي الشخصي على الشعب التونسي لا فقط في ما يتعلق بنظام الحكم بل وأيضا في ما يهم الشأن الاقتصادي عن طريق ثلاثة مراسيم “محنونة كما يقال بالتونسي” وَقّعَهَا على طاولة رمزيتها التاريخية أعظم منها بكثير واثمها أعظم من نفعها. كالخمر…
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 22 مارس 2022