الشارع المغاربي: لقد بدا لي غريبا للغاية وأمرا مفارقا لما ندّعي من تقدّم ومن زعمنا بأنّنا نسير على نهجه من نسق رقيّ وتحضّر، أن نبادر ونطرح للنقاش أمر الانتماء المذهبي لمفتي الجمهورية التونسية، تونس الدولة المدنية، التي تأسّست وفق نمط نموذجيّ للدولة الوطنية الحديثة منذ فجر الاستقلال. ولعلّه أكثر غرابة، في مثل هذا الظرف وما يُطرح علينا من رهانات، أن ندعو إلى البتّ في انتماء المفتي المذهبي من ناحية فقه الشريعة وربّما مقالة العقيدة ونحلتها الكلامية. إن ما زال لدينا مختصّون أفذاذ في علم الكلام (علم أصول الدّين) ومقالات الفرق الكلامية… قلت: والأغرب أن من يطرح ذلك يرى أنّه يجب ان يكون مذهب سماحة المفتي مالكيا، وهو الذي سيتصدّر للفتيا على المذهب المالكي في مجتمع يُفترض أنّه مالكي…
هكذا نرفع نحلة الانتماء إلى المالكية عوض الانتماء بعقلانية إلى جوهر الدّين ولبّ الإسلام… نطرح ذلك في زمن التقدّم والرقيّ الفكري وبعد أكثر من نصف قرن من التعليم والتربية على النقد والتطلّع إلى تجاوز للبنى الفكرية المغلقة والقراءة النقدية لمدوّنات التراث التي تعيق أمر تقدّم المجتمع وتربط الدّين بمعاقل تخلّف وبؤر صراع باسم نعرات المذاهب ومغالاة النحل وخطابات المفاضلة بينها… فكيف نبادر، مع هذا كلّه، إلى أن نطرح للنقاش بل ندعو إلى البتّ رسميّا في قضيّة انتماء المفتي، دون أي سند قانوني لذلك، فقط يأتي ذلك من منطلق سجالي لأجل الجدل العقيم الذي يزرع الفرقة ويشدّ إلى الوراء، ويحيي تقاليد حوانيت الفرق العقدية والجماعات المذهبية، وهو ما يعني ترسيخ عادة التديّن على أساسا المذهب لا من منطلق حرية الفكر والضمير ومن خلال علاقة مباشرة بالدّين ذاته (كتاب الله العزيز) في سماحته وتعاليه على المذاهب جميعا.
بل الأغرب أن يأتي طرح مسألة المفتي، كما هو مسجّل ومنشور على مواقع التواصل الاجتماعي، من قبل مسؤول عن أحد الأحزاب السياسية الكبرى، على الأقلّ كبرى من ناحية امتداد زمن ظهورها تاريخيّا إلى عقود خلت… إنّك لتفاجئ أحيانا من مواقف شخصيات سياسية تعتقد أنّها وضعتإديولوجيا أحزابها استنادا إلى نظرة عميقة وثقافة واسعة ومتجدّدة، وتفاجئ أكثر عندما تجد أنّها تتبنّى طرحا تقليديا بخصوص النظرة إلى التاريخ والتراث وإلى تصوّر علاقة الإنسان بالدّين وعلاقته بالخالق، أيضا علاقة الدّين بالفضاء الاجتماعي وبروح العصر ومقتضيات تطوّر التاريخ لاسيما ما ظهر في العصر الحديث…
إنّ إقحام مسألة الانتماء المذهبي للمفتي، واعتبارها شرطا لتوليه خطّ الإفتاء، مسألة لم تُطرح سابقا، لدى أهل الفتيا والعلم بالدين ولا لدى الجهات الرسمية التي تعيّن وتعزل.. وحكاية أنّ المجتمع التونسي مالكي ليست معيارا ثابتا ودقيقا ولا نصّ عليها أي نصّ دستور، من دستور 1959 إلى اليوم، وهي مجرّد تعبيرة يرفعها بعض المدرّسين والأئمة من الزيتونيين بدعوى التماسك والاعتدال وتعبيرا عن وحدة المذهب للمجتمع، ولدرء غير ما جاء به أهل المذهب واعتباره دخيلا.. ولكّنه أمر لا يستقيم، إذ مجلة الأحوال الشخصية نهلت في بعض أحكامها وقوانينها من غير المذهب المالكي، وكذلك مجلة العقود والالتزامات من قبل، وهي مواثيق أسهم بقسط وافر في وضعها شيوخ دين من الزيتونيين خاصّة، وحتى ما يسمى في عهد الباياتالعثمانين: شيخ الإسلام المالكي وشيخ الإسلام الحنفي تعدّ أمور تشريفات وتمثيل برتوكولي لا غير، لاسيّما أنّ البايات يفترض أنهم أحناف، وأكثر شيوخ الزيتونة يفترض أنهم مالكية…
وهكذا يبدو وجيها أن يعجب ويستغرب المرء من طرح بعضهم، لمثل هذه المسائل في مجتمع تنتظمه دولة مدنية ومرجع تنظيم الحياة فيه القوانين ومبادئ حقوق الإنسان وما يضمن الحرّيات، وهوما يعني أنّ من شروط التقدّم وحماية حقوق الإنسان وتحرير الدّين الإسلامي ذاته، ضرورة تجاوز المذهبية الدينية، فالانتماء إلى الإسلام وكما قال كبار علمائه من الأوائل إلى ابن عاشور واستنتجه أكبر مفكريه المجدّدين لا يشترط فيه الانتماء إلى أي نحلة مذهبية.. فالمفتي يكفي أن يكون عالما مسلما.. وحكاية نحن سنّة مالكية هي مجرّد شعارات شكلية يرفعها المتشدّدون والدعاة للإقصاء والتصفية والهيمنة على الشأن الدّيني، بدعوى الانتماء إلى مرجعية دينية معتدلة نقية وفيّة لروح الإسلام وهي أفضل من المرجعيات المذهبية الأخرى، وهذا قول باطل لا أساس له من الصحة ولم يصدّقه التاريخ، لكون السنّة المالكية هي مجرّد قراءة وتأويل وإفراز لحركة التاريخ ولأطر اجتماعية وسياسية، تأثّر علماؤها بالواقع وأوّلوا واستندوا إلى مدوّنة حديث رُويت ودوّنت وجمعت حسب شروطهم وفقه مذهبهم، ولم تقم إلى اليوم الدلائل اليقينية على صحة نسبتها إلى نبيّ الإسلام عليها أفضل الصلة والسلام… فوقع ما وقع من الأخطاء والتجاوزات وقصر مجال الفهم ومحدودية أفق النظر، فالمالكية كغيرها من المذاهب الفقهية تمثيل فكري وموقف نتج عن وعي معيّن تحكّمت فيه أطر ذاتيّة اجتماعية وسياسية معينة….، ولا يمثّل حتما جوهر الدّين ولا يعكس حقيقة الإسلام كلّه، الدّين الذي نزل دون مذاهب، وطلب منّا الله عزّ وجلّ أن ندين به دون تحيّز إلى أيّ مذهب أو نحلة…
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 3 اكتوبر 2023