الشارع المغاربي: يصعب اليوم أن نجد خطابا أو تصريحا واحدًا لرئيس الجمهوريّة قيس سعيّد لا ينضح بعبارات التخوين والتجريم. فما انفكّ الرئيس يُوجّه اتّهاماته المعهودة بـ”تجويع الشعب” وما إلى ذلك إلى جهات متعدّدة ومتنوّعة وكثيرة جدّا، حتّى انصبّت هذه المرّة على الإدارة التونسيّة التي تُسيِّرُ تحت إمرته دواليب الدولة…
اتّهامات يَكيلها رئيس الدولة بالجملة لخصومه وخصوم خصومه، لكن ندر أن تكون معلومة بدقّة. لا يكلّ سعيّد ولا يملّ في ترديد اتّهاماته وتكرارها المرّة تلو الأخرى، دون اعتبار لحالة الملل واللامبالاة التي أضحت تُثيرها في نفوس الكثير من التونسيّين المُرهقين بقسوة الحياة في هذه البلاد ومرارة حالة الضياع والفوضى والشلل التي تردّت إليها تونس بمرّ الأعوام بعد الثورة إلى غاية تتويج موروث الرداءة السياسيّة على كافّة الأصعدة والمجالات في هذا العهد “السعيد”…
آخر المطاف، اتّهم رئيس الجمهوريّة الأحد الماضي أشخاصا داخل الإدارة التونسية بـ”تعطيل إنشاء الشركات الأهليّة”، وهؤلاء الأشخاص الذين لم يُسمِّهم كما العادة ما فتئوا في تقديره “يعملون على تجويع الشعب”، بل و”هم أنفسهم من يضعون أيديهم على أملاك الدولة”…
لا يخفى عن كلّ ذهن حصيف وشاهد أمين أنّ الإدارة التونسيّة رغم كافّة عيوبها هي التي كانت قد حفظت تونس أيّام الثورة في بداية عام 2011، وأمّنت استمراريّة عمل كافّة الإدارات. حينها كان سقف الآمال والانتظارات عاليا، فلم يشهد التونسيّون تعطّل أيّة مرافق عموميّة على خلاف ما هي عليه اليوم. إنّها في الحقيقة حالة سرياليّة تعيشها تونس حاليّا، على وقع خطاب متشنّج ومُبْهم في الآن ذاته، دون وجود أفق واضح لتخطّي سياسة التهويمات الشعبويّة المتضخّمة التي لم تُصب تونس والتونسيّين إلّا بمزيد من الخراب والإحباط…
حالة الحرمان التي يُكابدها المواطن التونسي في حياته اليوميّة، في ظلّ نُدرة المواد الاستهلاكيّة الأساسيّة باختلافها، ربّما لم يعرف لها مثيلا إلا في عام الجراد، مثلما يقول الأقدمون. فهل أنّ الإدارة التونسيّة بكلّ ما لها وما عليها هي المتسبّبة الرئيسيّة في هذا الاستنزاف المرير للتونسيّين جرّاء دورها المحتمل في تعطيل بعض المشاريع الرئاسيّة؟!.
السؤال الجوهري الآخر: هل يعرف رئيس الجمهوريّة الإدارة التونسيّة حقّا، حتى يُقْدم على جلدها بمثل تلك السياط الفتّاكة؟! السيرة الذاتيّة للرئيس قيس سعيّد لا تدلّ على أنّه شخص متمرّس في شؤون الإدارة وتسيير دواليب الدولة. هذا الأمر يعرفه القاصي والداني وليس إطلاقا من باب النقد. ومع ذلك لنفترض جدلا أنّ رئاسة الجمهوريّة قد تلقّت تقارير سريّة تُدين تجاوزات محتملة لهذا الشخص أو ذاك من داخل الإدارة التونسيّة، لتتسبّب في تعطيل مشاريع معيّنة يُعوّل رئيس الدولة على إنجاحها. هذا وارد طبعًا في الماضي والحاضر والمستقبل، بما أنّ الإدارة التونسيّة معروفة للأسف بتمسّكها اللدود بمتلازمة البيروقراطيّة، ولكن بما أنّ رئيس الجمهوريّة هو الربّان الأوحد والوحيد لأسطول إدارة الدولة التونسيّة برمّته وبكافّة سفنه المتقادمة والجديدة، وفق ما خطّه في الدستور الحالي بمفرده، فإنّ مسؤوليّة النجاح أو الفشل هو من يتحمّلها، وليس المسؤول الإداري البسيط حتّى لو كان مديرا عامّا لأنّه يخشى محاسبته على خطأ تقديري لا ناقة له فيه ولا جمل!..
علينا في هذا المضمار أن نُذكّر الرئيس سعيّد وكافّة الصفوف المصطفّة، المستعدّة دائمًا للنهر والصفع، بأحد دروس التاريخ السياسي التونسي غير البعيد. كان كبار الوزراء، زمن الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، بما في ذلك الوزير الأوّل في مراحل لاحقة، يحظون بهامش من التحرّك يجعلهم يتحمّلون وزر الخيارات السياسيّة التي يعتمدونها. ثمّ جاء الرئيس الراحل زين العابدين بن علي ليُعدّل الدستور ويمنع الوزير الأوّل من نيابته حتى يَأمن شرّه، وليجعله مجرّد منسّق وزاري منزوع الصلاحيّات. ونتيجة لذلك صارت كلّ شاردة وواردة في سياسة الدولة بصالحها وطالحها تُنسبُ إلى رئيس الجمهوريّة آنذاك، وهو ما جعله في نهاية المطاف أوّل وآخر من يتحمّل مسؤوليّة الفشل العظيم. اليوم قرّر الرئيس سعيّد بدوره أن يُجرّد لا فقط رئيس الحكومة بل كلّ من حوله في الدولة التونسيّة من أيّة صلاحيات ذات بال. ومن ثمّة لم يعد هناك من يتحمّل مسؤوليّة القرار السياسي باستثنائه.
وفي حادثة الحال، يبدو أنّ مشروع الشركات الأهليّة يواجه عثرات كثيرة، وبصرف النظر عن الإدارة فإنّ هذا المشروع في حدّ ذاته قد يحمل بذور فشله منذ البداية. وهو كما نعلم ما لا يمكن أن يقبل به رئيس الجمهوريّة، ممّا جعله يبحث عن كبش فداء لهذا التعثّر، حتّى لا نقول الفشل في المهد.
وإذا تأمّلنا أقوال رئيس الجمهوريّة ذات الصلة، فقد قال حرفيّا إنّه “تمّ تقديم مطالب عديدة لإنشاء شركات أهليّة وتم تعطيلها”.. وأنّ “هناك إجراءات وضعت لتعطيل إنشاء هذه الشركات.. هناك تعطيلات متعمّدة”.. لا يحتاج الأمر لتأويلات عميقة حتّى نكتشف بيت القصيد. فتأكيد رئيس الدولة على أنّ “هناك إجراءات وُضعت لتعطيل” إنشائها يعني أنّ تلك الإجراءات التعطيليّة تمّ اتّخاذها في هذا الزمن “السعيد” أي بعد إطلاق الرئيس لمبادرته المذكورة أي بعد 25 جويليّة 2021 بطبيعة. وهو ما يعني بوضوح إذن أنّ إدارة الرئيس قيس سعيّد هي المسؤولة قبل غيرها عن تلك التعطيلات غير الموروثة، وإنّما المصبوغة بخشية مسؤولي الإدارة من الوقوع في أخطاء مّا تجعلهم يسقطون تحت طائلة الاتّهامات التجريميّة أو التخوينيّة بـ”تجويع الشعب” التي اعتاد ترديدها القائد الأعلى والأوحد لإدارة شؤون البلاد. وهم لا يعلمون بالتأكيد أنّ لا شيء يمنع وقوعهم اليوم أو غدا ضحايا للأمر العليّ سواء تهاونوا في تسيير ما هو مطلوب منهم أو عملوا بكدّ وجدّ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها…
- نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 15 أوت 2023