الشارع المغاربي – مهاجرو جنوب الصحراء في تونس: جنت على نفسها براقش! / بقلم معز زيود

مهاجرو جنوب الصحراء في تونس: جنت على نفسها براقش! / بقلم معز زيود

قسم الأخبار

4 مارس، 2023

الشارع المغاربي: عند مغادرة دكّان “عطّار” الحيّ بالأمس، صادفني شاب ثلاثينيّ أسمر البشرة. بدا من ملامحه مكسور الخاطر. سألت أحدهم عن سبب عدم دخوله إلى الدكّان، فقال إنّه ينتظر خروج الجميع! تذكّرت حينها أنّي قبل نحو ساعة شاهدت سيّارة تاكسي متوقفة لتنزل منها امرأة، وحين أشار إليه شخص آخر ذو بشرة سمراء، تحاشاه سائق التاكسي وانطلق مسرعا…

حادثتان بسيطتان ظاهريّا، لكنّهما تختزنان ممارسات مؤسفة اخترقت المجتمع التونسي وتربّعت على أوتاده بكلّ صفاقة… ملامح الذُّعر التي كنّا نراها بادية على وجوه السود في أفلام هوليود، عن عنصريّة المجتمع الأمريكي خلال النص الأوّل من القرن الماضي، باتت واقعًا ملموسًا في بعض أنحاء تونس هذه الأيّام… ويكفي أن نقرأ تعليقات مئات التونسيّين على موقع “فيسبوك” بشأن مهاجري جنوب الصحراء في تونس حتّى نُذهل لجسامة المعجم العنصري المتداول على الألسنة في محاكمات شعبيّة تُذكّر بالحكم الفاشي في البلدان الغربيّة… والأخطر من ذلك ما يُلاحظ من “شماتة” إزاء بعض هؤلاء المهاجرين الذين تعرّضوا للعنف المادّي وللتهديد والوصم… كلمة “تستاهل” بشأن شابّة مهاجرة تورّمت عينها من شدّة اللكم لا يمكن وصفها هنا إلّا بـ”الإجراميّة”، تُذكّرنا بالسلوك السادي للمستوطنين الصهاينة إزاء الشهداء والجرحى الفلسطينيّين أو حتّى للمعاملة المهينة التي يُمارسها حرس الحدود الإيطالي أو الفرنسي والإسباني على المهاجرين السريّين التونسيّين والمغاربة عمومًا… جمهرة تجترّ الجهل وتُروّج للغباء باسم الدفاع عن “السيادة الوطنيّة” وتُسارع في توجيه سهامها السامّة إلى كلّ من يجرؤ على مجرّد التنبيه إلى فداحة تعاليق تُشجّع على الكراهيّة وعلى الممارسات العنصريّة أو تُحذّر من خطاب رسمي هلامي شعبوي متسرّع شوّه صورة البلاد في كلّ أنحاء المعمورة وضرب مصالحها في مقتل…

منعرج الاستقرار…

كانت تونس لسنوات طويلة منطقة عبور بالنسبة إلى آلاف المهاجرين من بلدان جنوب الصحراء في طريقهم إلى “الفردوس” الأوروبي المنشود. ثمّ بمرور الزمن منذ بدء العشريّة المنقضية ومع تشديد الرقابة الأمنيّة على سواحل شمال المتوسّط، أصبحت تونس منطقة استقرار تستقطب موجات كبرى من مهاجري دول جنوب الصحراء. وللتاريخ، فإنّ بدء تدفّق هؤلاء المهاجرين على تونس انطلق منذ فترة حكم رئيس النظام السابق زين العابدين بن علي، بمفعول الاستجابة لاشتراطات الدول الإفريقيّة حين كان البنك الإفريقي للتنمية يتّخذ من تونس مقرّا مؤقّتا له أثناء الحرب الأهليّة في “كوت دي فوار”. ومع ذلك كان معظم هؤلاء المهاجرين يدخلون إلى تونس ويقيمون فيها بشكل قانوني، لاسيما أنّ الكثيرين منهم من الفئات المرفّهة ومن طلبة الجامعات الخاصّة.

وفي مرحلة لاحقة بعد الثورة تزايدت أعداد مهاجري دول جنوب الصحراء غير النظاميّين، لا فقط بسبب التسهيلات التي قُدّمت إليهم عبر إلغاء تأشيرة السفر بالنسبة إلى عدد من الدول الإفريقيّة، وإنّما كذلك جرّاء استضعاف الدولة التونسيّة واختراق مؤسّساتها المترهّلة وتصاعد بيروقراطيّتها الموروثة. الجدير بالذكر هنا أنّ مؤسّسات الدولة لوحدها، وتحديدا “إدارة الحدود والأجانب” بوزارة الداخليّة، يمكن أن تُحدّد العدد التقريبي لمهاجري جنوب الصحراء في تونس، لأنّ الكثير منهم يأتون عبر المعابر الحدوديّة، وخاصّة مطار تونس قرطاج الدولي، دون تسجيل مغادرتهم للبلاد. كما أنّ الشريط الساحلي التونسي الممتدّ إلى حوالي 1300 كلم يصعب مراقبته بإحكام نظرا إلى محدوديّة الأجهزة المتوفّرة لدى الحرس البحري.

أمّا الإحصائيّات الرسميّة الوحيدة المتوفّرة بشأنهم، فقد جاءت في تقرير “المسح الوطني للهجرة الدوليّة” بتاريخ 7 ديسمبر 2021 الذي أنجزه المعهد الوطني للإحصاء بالتعاون مع المرصد الوطني للهجرة. وقد ذكر أنّ عدد الأجانب المقيمين في تونس عند إجراء المسح (بين جويلية 2020 ومارس 2021) يُقدّر بـ 59 ألف شخص. ويمثّل الوافدون من بلدان المغرب العربي 37 بالمائة ومن البلدان الإفريقية 36.4 بالمائة ومن الدول الأوروبيّة 18.5 بالمائة. ووفق المصدر ذاته فإنّ عدد الوافدين من البلدان الإفريقية غير المغاربية ارتفع خلال السنوات الأخيرة من 7200 شخص خلال سنة 2014 إلى 21.466 شخصا عند إجراء المسح. والأرجح أنّ عدد هؤلاء قد ارتفع خلال العام الماضي، أي بعد عام من إجراء المسح الوطني المذكور، ولكنّه لا يمكن أن يبلغ الأرقام الصاروخيّة المضخّمة التي يتمّ ترويجها من باب المغالطة والتضليل في نطاق حملة تجييش الرأي العام ضدّهم. وعليه، فإنّ مهاجري دول جنوب الصحراء لا يمكنهم، حتّى في حال تضاعف عددهم عشر مرّات، أن يُفلحوا في تغيير التركيبة الديمغرافية لتونس، على خلاف ما جاء في بلاغ رئاسة الجمهوريّة…

خطاب كراهيّة…

عموما، فإنّ معظم هؤلاء المهاجرين الذين نراهم اليوم يقطنون بالمئات في عدد من الأحياء الفقيرة إنّما هجروا بلدانهم هربًا من الفقر والجوع والحروب الأهليّة. وكلّ المواثيق الدوليّة ذات الصلة تجعلهم جديرين بالرعاية، لا بالاستهداف المباشر والمطاردة المحمومة. فقد تجشّموا الأهوال ليصلوا إلى تونس، وأغلبهم يعيشون أوضاعا بائسة، ويمتهنون مهنًا شاقّة بات ينفرها الشباب التونسي، مثل أشغال البناء وبعض المهن اليدويّة الأخرى في محلّات غسل السيّارات وإصلاح العجلات والمقاهي والمطاعم وتنظيف المحلات والمنازل… وما عزاء معظمهم، على غرار آلاف الشباب التونسي، إلّا أن يتمكّنوا من جمع ما يُتيح لهم ركوب قوارب الموت أملا في الوصول إلى الضفّة الأوروبيّة للمتوسّط، حيث سيجدون غالبًا من يصدّهم ويعيدهم من حيث جاؤوا في ظلّ دولة مستضعفة من جيرانها الأوروبيّين…

ومن المفارقات أنّ إيطاليا كانت قد منعت ما يُناهز 21 ألف مهاجر سرّي من عبور الحدود الإيطاليّة، وفق تصريح لوزير الداخلية الإيطالي، كان قد نشره النائب السابق عن دائرة إيطاليا مجدي الكرباعي الذي كشف أنّ السلطات التونسيّة أعادت المهاجرين السريّين من أفارقة جنوب الصحراء إلى تونس بمقتضى اتّفاقيّة نالت مقابلها 8 مليون يورو، إضافة إلى مبلغ 30 مليون يورو أخرى للفترة الممتدة بين 2021 و2023. وفي المحصّلة فإنّ تونس المنكوبة كُلّفت بحراسة حدود إيطاليا وما جاورها مقابل ثمن زهيد ومهين جدّا لا يكفي حتّى لبناء مستشفى يتيم، وكأنّنا مازلنا نعيش زمن الإمبراطوريّة الرومانيّة التي تُهيمن على سلطة القرار في مستعمراتها بالضفّة الجنوبيّة للمتوسّط…

ومن ثمّة، كان على الدولة التونسيّة أن تتحمّل عبء سياساتها وما فُرض عليها من صفقات، لا أن تنقلب ضدّ ضحايا أبرياء، وكأنّهم دخلوا إلى البلاد دفعة واحدة لاحتلالها وتدميرها كما فعل بنو هلال في زمن ما… وبدلا من ذلك، وفي غمار أزمة اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة خانقة، ترتدّ الدولة التونسيّة ضدّ تلك الفئة المستضعفة. ومن أخطر المفارقات أنّها سقطت في إعادة إنتاج خطاب عنصري روّج له تنظيم جديد يحمل اسم “الحزب القومي التونسي” الذي أعلن مساندته لإجراءات رئيس الجمهوريّة ومُناصرته، وأطلق الحملات الميدانيّة لمحاصرة مهاجري جنوب الصحراء ويُناشده لتضييق الخناق عليهم. كما يصوغ لنفسه معجما اصطلاحيّا بهدف ترسيخ تصوّراته المتعلّقة بما يُسمّيه “الزحف الإجصي”، أي “زحف” مهاجري إفريقيا جنوب الصحراء، مستفيدا من مناخات الشعبويّة السائدة التي تُغذّي الكراهيّة ضدّهم، ومستخدمًا بذلك شتّى آليّات التضخيم والتضليل واختلاق الأساطير حول الدسائس والمؤامرات التي يحيكها هؤلاء ضدّ البلاد وأهلها..

ثمن المغالطة…

في نهاية المطاف، اجترّت رئاسة الجمهوريّة خطابا ينضح شعبويّة ضدّ مهاجري دول جنوب الصحرء، دون أن تضع في حساباتها ردود الأفعال الدوليّة، إلى درجة أنّ الاتحاد الأفريقي تخلّى عن صمته المعتاد ليُدين بشدّة التصريحات الرئاسيّة ويُحذّر من “خطاب الكراهية العنصري” وما يمكن أن يسبّبه من أذى لهؤلاء المهاجرين. كبرى الصحف العالمية أجمعت بدورها على أنّه خطاب عنصري أجّج مشاعر الكراهيّة ضدّ مهاجري جنوب الصحراء، بصرف النظر عن أنّهم يقيمون بشكل قانوني أو غير قانوني. فاختارت صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكيّة عنوانا لمقالها: “الخطاب العنصري للرئيس التونسي بثّ الذعر بين المهاجرين والتونسيين ذوي البشرة السوداء”. وشدّدت صحيفة “ذي غواردين” البريطانيّة على أنّ دعوة الرئيس التونسي إلى وقف الهجرة من جنوب الصحراء يهدف إلى صرف الانتباه عن الأزمة الاقتصاديّة في تونس.

فمن المؤسف أنّ بلاغ رئاسة الجمهوريّة، بدلا من الاكتفاء بالمطالبة بتطبيق القانون في كنف احترام حقوق الذات البشريّة، ودعوة الدول الأوروبيّة إلى تحمّل مسؤوليّتها في هذه القضيّة المشتركة، قد جاء أقرب إلى تدوينة فيسبوكيّة سقطت آليّا في إثارة العواطف وحشد المناصرين، دون استقراء انعكاساتها الدبلوماسيّة والحقوقيّة والأمنيّة، وخاصّة أمام ما يتضمّنه البلاغ من مغالطات بشأن “جحافل” المهاجرين غير النظاميين من إفريقيا جنوب الصحراء. والحال أنّ عددهم يقل عن عدد مهاجري الدول المغاربيّة في تونس، وفق إحصائيّات المسح الوطني للهجرة الدوليّة. كما أنّ الحديث عن تصاعد العنف وجرائم الحقّ العام التي يرتكبها هؤلاء في تونس، يبدو مجرّد فزّاعة لا تستقيم بأيّ حال من الأحوال. فالمجتمع التونسي كان ولا يزال ينضح بكلّ صنوف الجرائم البشعة بما في ذلك المبنيّة على العنصريّة، حتى قبل تدفّق موجات هجرة أفارقة جنوب الصحراء…

من المؤكّد أنّ لأفارقة جنوب الصحراء أعراف وتقاليد تخصّهم قد نأباها، تقاليد خصوصيّة في اللباس والأكل والرقص وفي كلّ ألوان الحياة. أعراف تبدو بعضها غريبة جدّا عن المجتمع التونسي، وهو اختلاف طبيعي بين الشعوب والحضارات ينبغي تفهّمه، مثلما ينبغي أيضا مطالبة هؤلاء بتحاشي ممارسات قد تصدم المجتمع التونسي الذي لا يزال محافظا ورافضا للاختلاف… على سبيل المثال، حدّثني صديق محلّ ثقة، يقطن في منطقة روّاد التابعة لولاية أريانة، أنّه شاهد أكثر من مرّة بملء عينيه شبابا من أفارقة جنوب الصحراء يقطنون بجواره بصدد محاولة “اصطياد” القطط. قد يكون الأمر صحيحًا، ومع ذلك لا داعي إلى الفزع وإلى التسرّع في تحويل مثل تلك الحوادث إلى فزّاعة. فبعض مناطق الجنوب التونسي عُرف أهلها سابقا بأكل الكلاب وينتشر في بعضها الآخر أكل الجراد الذي لا يختلف كثيرا عن “الجمبري” لدى آخرين. وفي الصين التي أغرقت العالم اليوم بمنتجاتها تُعدُّ كلّ الكائنات التي تتحرّك على وجه الأرض وجبات ممكنة للأكل، من خنافس وخفافيش وزواحف وشتّى الحيوانات الأليفة والمفترسة. وقد اضطرّت الصين مثلا لمنع قتل الكلاب وطهيها بمناسبة احتضانها للألعاب الأولمبية، لأنّ العالم يرفض تلك الممارسة “المقرفة” في تقديري الشخصي. المقصود بهذا الطرح أنّه ينبغي التعامل بعقلانيّة وانفتاح مع اختلاف الآخر، وإلزامه قانونيّا وتوعويّا بأعراف البلاد…

ومع أنّ ملف الهجرة غير النظاميّة ملف حقيقي توارثته الحكومات المتعاقبة، فإنّ الدولة التونسيّة أبت لسنوات طويلة معالجته بما يقتضيه من رصانة وتعميق المفاوضات مع الشركاء الأوروبيّين. وها هي اليوم تجني على نفسها بخطوات غير محسوبة، فتجدّد الفشل في إدارة هذا الملف على كلّ الأصعدة، وخصوصا الاتّصاليّة منها. والنتيجة تشويه صورة تونس وتقديمها في العالم على أنّها نموذج معاصر جديد من العنصريّة…

*نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ 28 فيفري 2023


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING