الشارع المغاربي: قضيت 25 سنة في الجامعة التونسية أدَرسُ الطلبة، وأشرف على البحوث، وأتابع أبحاثي الأكاديمية.وخلال كل هذه المدة لم يسألني يوما لا رئيس القسم ولا عميد الكلية ولا رئيس الجامعة ولا مدير التعليم العالي ولا سعادة الوزير إن كنت أطور باستمرار دروسي بما يتماشى مع تطور النقاش العلمي العالمي حول المواضيع التي أدرسها. ولم تقيم أية لجنة – عدا لجان التدرج المهني في سلك التعليم العالي المتباعدة -من 5 إلى 10 سنوات- بشكل مهني قيمة البحوث التي أشرفت عليها،وإن كانت تتفق بشكل عام مع خطط تنموية وطنية كبرى وضعتها الدولة (وهي في الواقع لم تضعها)، بما في ذلك تطوير التفكير النقدي وعزيمة الابداع والابتكار. ولم تهتم كل هذه الهيئات بإنتاجي الفكري، ولم تجازيني على إنتاجي إن كان جيدا، ولم تحاسبني على تكاسلي وتكلسي إن ثبت علي ذلك. بل والأنكى أنه لم يكن عندها أية فكرة عن حقيقة قيامي بواجباتي، وإن كنت أتغيب كما يفعل الكثيرون في أغلب الأحيان بذرائع واهية ومفتعلة ولا قانونية ولا أخلاقية، ولم تتساءل عما إذا كنت أقضي أغلب وقتي في العمل خارج الجامعة بمقابلرغم أن هناك قوانين تنظم هذا المجال، وإن كنت أتخلى عن واجباتي تجاه الطلبة. ولم تتكلم النقابة يوما بشأن هذه الرداءة واكتفت بالمطالبة بتحسين الأجور وظروف العمل، فبدت كما لو أنها تتغاضى عن ذلك أوتدافع موضوعيا على الرداءة.
لم ينجز نظام الاستبداد الذي انفجرت في وجهه الثورة أيه عملية تأهيل جدية، بأهداف واضحة ومتابعة لصيقة، للجامعة وللمعاهد الثانوية و للمدارس الابتدائية المأزومة. أولا كدست التلاميذ والطلبة بأعداد كبيرة في مؤسسات لا تستوعبها: في بداية العشرية الأولى من هذا القرن، الثائر فكريا وتكنولوجيا على كل ما هو سائد،كان عدد المسجلين في كلية العلوم الانسانية والاجتماعية بتونس يفوق 10 آلاف طالب(ة) بينما طاقة الاستيعاب كانت لا تتجاوز 3 آلاف. والنتيجة تغيب الطلبة بنسب عالية جدا (قامت إحدى طالباتي آنذاك ببحث صغير حول الموضوع) وتأسيس التغيب من طرف الوزارة كحق مكفول بالقانون. أما المكتبة فلم تكن تستوعب إلا طالبا واحدا من بينكل 12 طالب (قمت أنذاك بالتحقق من ذلك بنفسي)، بينما كان الطلبة يشقوْن جدا في حل مشكلة السكن والغذاء، دعكم من التهالك الأقصى لبيئة الدراسة في حد ذاتها في المؤسسات الجامعية والتعليمية عامة.
وفي المعاهد والمدارس العمومية اكتضت الأقسام بالتلاميذ، وتحولت كثير من المدارس إلى شبه ساحات صراع بين التلاميذ والادارة، التي تحمي نفسها أحيانا بالمشبكات الحديدية (قامت إحدى طالباتي في إطار الماجستير بإعداد دراسة ميدانية حول هذه الظاهرة)، وفي الأثناء وبينما غاب الأولياء -إلا للسؤال عن نتيجة الامتحان-سيطر على محيط المعاهد كل من لفظته المدرسة وجاء ينتقم منها ومن تلامذتها وأساتذتها بالساطور والزطلة التي يبيعه إياها كبار المجرمين.
ليس المجال هنا لتوصيف جميع مظاهر تلك الأزمة، لكن من مظاهرها التي فاقمت انكاسات كل عناصر الأزمة الأخرى الاستهتار الوقح بشروط الحياة الكريمة لسلك المعلمين والأساتذة والجامعيين، والعض بالنواجذ على خيار جعْلهم موظفين أشقياء كادحين يفكرون كامل يومهم وليلهم في غذائهم وملبسهم وسكنهم وتنقلهم، دون أي اعتبار لقيمتهم التنموية الاستراتيجية. لا أنسى أبدا الصوت المخنوق ذات يوم جمعة مساء في عز الشتاء، ونحن نغادر الكلية، لزميل لي كان في ذلك الوقت أستاذ تعليم عالي (حصل على رتبته هذه عن جدارة وكتبه مرجعية اليوم خارج تونس): “مكسبي خمسة دنانير، لا أستطيع أن أستعمل تاكسي، وإذا استعملت الحافلة سأصل إلى المنزل متأخرا ومنهكا بالرفس والعفس، ولن أستطيع قراءة أي شيء الليلة”!
كان خيار إنتاج مدرسين )في كل مراحل التعليم( فقراء تعساء، ومؤسسات تعليمية عمومية غاية في التردي، عاملا حاسما في اختراع التعليم الموازي والدروس الخصوصية. ولأن انخراط المؤسسات التعليمية في ثقافة الدروس الخصوصية )التي لها في المجتمعات المتقدمة وظائف أخرى لا علاقة لها بما صار إليه الأمر عندنا)جاء -سرا- لإغاثة المدرسين الفقراء، المطالبين بالإنصاف،وليس لمساعدة التلاميذ المحتاجين تعليميا، فقد استشرت الظاهرة في كل المؤسسات، واختفت من مدارسنا كل أنشطة ثقافية تبني شخصية التلميذ والطالب ليكون إنسانا مقتدرا في الحياة. وقد أنتج ذلك تمثلا مهنيا وأخلاقيا وبيداغوجيا غير سليم بالمرة للعملية التعليمية، وانشطر التعليم بين عمومي محظوظ وعمومي محروم، وخاصراقي وخاص تافه وفاسد، وانشطر معه التلاميذ والأساتذة والأولياء والوطن.
كانت هذه الكارثة من صنع نظام الاستبداد الذي كان يصنع السياسات العامة للبلاد بنخبة فقدت الشجاعة والقدرة الذهنية والمعيارية -إلا نزر قليل- على النظر إلى السياسات العامة خارج الخوف على المنصب بفوائده واعتباراته الزائفة. ففي مقابل عدم استعداد هذا النظام لمواصلة الإستثمار الجدي في التعليم العمومي، وعدم اعتبار المدرسين ثروة تنموية استراتيجية عالية القيمة، وعدم اعتبار العملية التعليمية برمتها بوابة المستقبل المضمونة-عكس ما كان يراه بورقيبة وفريقه-قدمت الدولة لأعضاء هذا السلك رشوة ضخمة غاية في الدناءة: لا أطلب منكم شيئا وتدبروا حالكم بالدروس الخصوصية والعمل خارج الجامعة وتغيبوا وتكلسوا فلا أحد يسألكم، وتخاصموا في إطار فقركم وكسلكم وتكلسهم وطمعكم فيً، ولينتشر بينكم الفساد مثلما أنثره بشكل مخفي وعلني في كل مكان!
إن المدرسة والمعهد والجامعة مؤسسات مصممة أصلا لتنتج وتطور الفكر والأفكار بشكل منفتح على المحيط الإنتاجي الاجتماعي في مختلف أبعاده، ولا يمكن الاستهتار بقيمتها وبنيتها وبيئتها ومواردها البشرية. ولم تنجح القوى السياسية التي وصلت إلى الحكم بعد الثورة في التوصيف بشكل مهني وشجاع وثوري لهذا الوضع. فأغلب السياسيين توجهوا إلى المدارس والمعاهد والجامعات بصفتها معقل المثقفين والنقابيين الذين إذا ما ربحوا مساندتهم ربحوا معاركهم السياسية، فبئس التجارة الخاسرة!
هناك رهان استراتيجي يجب أن يكسبه أي حاكم اليوم في تونس وإلا مآله الفشل: المؤسسات التعليمة عبارة عن مصانع لإنتاج الأفكار والحلول العملية للمجتمع والتفلسف في نماذج الحياة الممكنة. ولأنها كذلك فهي تستدعي أن يكون كل طاقم المؤسسة التعليمية من المنخرطين في مشروع إنجاح العملية التعليمية: أفرغوا وفق مخطط محكم، على مدى متوسط، الجامعات والمعاهد والمدارس من كل من ليس منخرطا عن وعي، بالمستوى التعليمي والتكوين المطلوبين، في عملية التعليم والتكوين والبحث. في العشرية التي سبقت الثورة كان مستوى أكثر من 60% من الطاقم الإداري الذي يعمل بكلية العلوم الانسانية والاجتماعية بتونس أقل من مستوى البكالوريا (عن عميد تلك الفترة)، فكيف لطاقم غير متخصص في خدمة مصنع الأفكار تحديدا أن يكون وظيفيا للطلبة والأساتذة، وكيف لوزارة ترفض توظيف متخصصين في علوم المكتبة في مكتبة جامعية في حاجة ماسة لذلك، وتسمح لبعض طاقم التنظيف أن يصبحوا مكتبيين، أن تحقق الرهان؟. وكيف لجامعة لا تحرص على أن يكون طاقمها التعليمي والبحثي متجدد المعارف ومتحمسا للأنتاج المعرفي أن تكسب الرهان المعقود عليها؟.
ينبغي أن يدرك من هو اليوم في الحكم أن المؤسسة التعليمية في تونس قد هرمت وتهجنت وأفل أفقها، وأن المدرسة التونسية والانتاج الفكري التونسي اليوم “يجبد من العضم”. صحيح أن لدينا إنجازات خارقة في بعض الميادين، ولكنها فردية ومبعثرة وليست مضبوطة بسياسة عامة واضحة وعنيدة في تحقيق الأهداف بإخلاص وجدية والتزام. لا مصير مشرق لنا من دون الاستثمار في التعليم وكسب رهانه بوطنية صادقة تعود فائدته على البلاد!
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 18 جويلية 2023