الشارع المغاربي: لا يَخلُو إبداءُ الرأي في العلاقة التونسية الجزائرية من بعض التّعقيد والحرج، لاسيما إذا كان صاحب الرأي مواطنا تونسيا يتدبّر الحاضر ويتذكّر الماضي. ومن دواعي التعقيد والحرج أن لهذه العلاقة مظاهر ثلاثة قد لا تختلف فيها الآراءُ، وهي الضرورة والمصلحة والأخوة. ولا جدال في أن هذه المظاهر يباركها من حيث الأصل كل وطني في البلدين.لكنّ هذه العلاقةَ صارت اليوم محفوفةً، إلى حدٍّ مّا، باختلال التوازن.
/1 علاقة الضرورة
اقتضى هذه الضرورةَ مُثنّى التاريخ والجغرافيا الذي لا فكاك منه. أما التاريخ فمنه ما لا يحصى مِن مدونات المشتركات المرتدة إلى غابر الأزمنة. ولو قصرنا القول على التاريخ القريب لاستذكرنا المستعمرَ الواحد، والنضال المشترك لدحره، واختلاطَ دماء شهداء البلدين، وتحمّلَ توتس، في فجر استقلالها، لأوزار المساندة الكاملة لحركة التحرير الجزائرية ولاحتضان بعض قادتها. لقد كان ذلك التآزر ضرورة حتّمتها تلك اللحظة وحتّمتها الآفاق القريبة التي كان يرنو إليها البلَدان.
أما الجغرافيا فمن أظهر عناوينها جوار مباشر بري وبحري. يمتد الجوار البري شمالا من البحر الأبيض المتوسط، وجنوبا إلى مثلث الحدود الذي يصل البلدين بليبيا. ولهذا الامتداد الحدودي ما يفوق الألف كلم. وتمتد الحدود البحرية، وفق الترسيم الرسمي لسنة 2013، ما يقارب الألف كلم، من طبرقة إلى الطارف.
أدرك مؤسسو الجمهوريتَين وساستهما تلك الضرورةَ إدراكا مبكرا متّصلا. ظهر ذلك في الحرص المشترك على تسوية الحدود البرية والبحرية بالحوار الهادئ المتزن، وعلى دوام التعاون والتنسيق المتبادلين. ورغم أن خلافات ثنائية بين بعض بلدان الاتحاد المغاربي أقعدت الدور المرسوم لها فإن العلاقة التونسية الجزائرية ظلت علاقة ثنائية متعالية عن تلك الخلافات. لا بل اقترحت الجزائر على تونس أيام الرئيسين بورقيبة وبومدين وحدة اندماجية بين البلدين استبعدها بورقيبة استبعادا لَبِقا لم يؤثر قط على العلاقة بين البلدين. ولم يفت الزعيم بورقيبة، وهو في مرحلة الوهن والشيخوخة لم يفُته أن يُوصيَ الرئيسَ الجزائري بن جديد خيرا بتونس ولا نعلم أن بلدا ثانيا تلقى هذه التوصية.
2/علاقة المصلحة
على نحو ما أدرك المؤسسون في البلدَين المستقلَّين علاقة الضرورة، أدركوا أن علاقةً المصلحةَ بين البلدين متعالية على الاختلافات. ذلك أن تونس اختارت مبكرا الفلك الغربي الذي رسمَت وِفقه سياستَها الخارجية والمجتمعية. وكان رَسْما فَطِنا، لأن الزعيم لم يولّ الظهر، مع ذلك، لبلدان”الكتلة الشرقية” وقتئذ، ولكيان”دول عدم الإنحياز”. لكن الجزائر المستقلة اختارت الفلك الشرقي بقيادة الإتحاد السوفياتي وقتئذ. ومن المعلوم أن حربا باردة امتدت عقودا بين الكتلتين . وكان لاتّجاه كلٍّ من تونس والجزائر إلى ذينك الكتلتين المتباينتين أن يُمليَ على البلدين سياستين خارجيتين ومجتمعيتَين غير متجانستين أو غير سائرتين في نهج واحد .
لكن هذه الاختلافات التي ليست هينة لم تضع في دائرة الشك أو التردد علاقة المصلحة بين البلدين؛ تلك المصلحة التي تقدمت حساباتها على حسابات التباين، وحَفّ بها احترام وتفهّم متبادلان، خاليان من كل ألوان التدخل المتخطي لضابط السيادة. ففي عشرية الدماء التي مرت بها الجزائر، لم تجوّز تونس لنفسها، رغم حساسية المرحلة أمنيا، أن تتدخل في الشأن الجزائري تدخلا يتعدى أمارات السيادة، أو يشكك في قدرة الدولة الجزائرية على الخروج من تلك المحنة بخاصة قدراتها.
لقد وَقَرَ مبكرا لدى قادة البلدين وعي أصيل عميق بعلاقة المصلحة المشتركة. وقد شمل هذا الوعيُ أهمَّ هاجس وهو الهاجس الأمني. فقد استقرّ أنّ في سلامة أحد البلدين الترابية سلامةَ الآخر.
وإنّ مِن دواعي علاقة المصلحة بين البلدين تمايزها عن غيرها من علاقات البلدين الثنائية وإن كانت ببلدان الجوار. فالجزائر تُعايش منذ عقود توترا بينها وبين جوارها المغربي. وتونس عايشت، في مناسبات عديدة، توترا بينها وبين جوارها الليبي. لكن تَوَثُّقَ المصلحة بين تونس والجزائر رسّخ ألا يُعايِش أحدُ البلدين توترا بينه وبين الآخر.
ومن مفاصل ذلك في التاريخ القريب “بيان جربة” سنة 1974 الذي أشهر وحدةً بين تونس وليبيا لم تدم أكثر من أربع وعشرين ساعة.و قد كان للجزائر دور في وَأدِ ذلك المولود المرتجل عاضد العوامل الداخلية التونسية. وتولّت الجزائر ذلك الدور تولّيا ودّيا قام على ما تُمليه مصلحة الجوار المباشر من حسابات سياسية وأمنية قابلها الطرفُ التونسي بالتّفهّم.
3/علاقة الأخوة
لعلاقة الأخوة بين البلدين وجهان متلائمان؛ وجه شعبي ووجه رسمي. أما الوجه الشعبي فمنه خاصة التاريخ المشترك والجوار المباشر والمزاج العام المتشابه. وقد رسَّخت هذه العواملُ في الوجدان والذاكرة الجمعيين لدى الشعبين مشاعرَ أخوة غالبا ما يترجمها الشعبان ترجمة عفوية في شتى المناسبات والمجالات، لَفَتَت أنظار الشعوب الأخرى.
أما الوجه الرسمي من تلك الأخوة فترجمانه العلاقات والمعاهدات. مِمّا تَتَرجمه العلاقاتُ أن حُكامَ كلّ من البلدَين المُداوِلِين للحكم غالبا ما يفتتحون زيارتهم الخارجية إلى البلد الآخر. وإن ذلك من باب التعهد لعلاقة الأخوة واتصالها وتوسعة مجالاتها. ومِمّا تترجمه المعاهداتُ معاهدةُ الأخوة بين البلدين المُصدَّق عليها رسميا سنة 1983. ولعل تلك المعاهدة لم تضف شأنا يذكر إلى الأخوة بين البلدين إضافة تتعدى اكسابَها الطابع الرسمي المؤسّسي.
بعد سنة 2011، شهدت تونس كما نعلم اهتزازات سياسية وأمنية عديدة. وشهدت الجزائر قدرا منها أقل. ولئن أحدثت رئاسة المرزوقي لتونس بعض الخدش في صفحة تلك الأخوة، وإن لم تعدّل سلطةُ الإخوان البوصلةَ ، على قدرتها على ذلك، فإن تلك الأخُوّة صمدت، لأنها رسميا بين الدولتين بصرف النظر عن الحكام هنا أو هناك. وقد تَمَثّلَ الرسوخُ أيام قائد السبسي وزيرا أول أو بعدها، في العون الذي كانت تقدمه الجزائر لتونس المتداعية بفعل عشرية النهب والعبث الإخوانيين.
ومثلما فهم من الجهة التونسية، بورقيبة وبن علي وقائد السبسي علاقة الأخوة فهمها الغنوشي على نهجه الإخواني الإنتهازي فبكّر إثر فوز تنظيمه في انتخابات 2011 التأسيسية بزيارة الجزائر التي كان قد أمضى فيها سنتَي 1990 و1991 بعد أن باع إخوانه للرئيس بن علي مقابل أن يمكّنه من مغادرة تونس.
4/حدود العلاقة
بعد جويلية2021، وضع سعيد مقاليد كل السلط بين يديه، وصيّر تونس متاعا له خاصا يصوغه على مقاس مزاجه السياسي والثقافي المشتق من مما لا يعلمه أحد سواه. وأرفق استحواذه على السلطة والدولة بخطاب منفلت اللسان عَثُور، ناهل من هوامش الماضي غير التاريخي، منقطع عن ثوابت الدولة التونسية وعن مقتضيات زمانها الراهن.
لقد صنع سعيد عزلته بنفسه. وهي عزلة داخلية وخارجية. تدارك على العزلة الداخلية بالأجهزة الصلبة في الدولة. وتدارك على العزلة الخارجية بأن وضع كل بيضه في سلة الجزائر. وقد ازداد انحيازا لها إلى حد التبعية لأنها شدت أزر حكمه بالعون المالي إقراضا ميسّرا ووَهبا.
على خلاف تونس العاثرة ماليا، استفادت الجزائر من غلاء الطاقة إثر اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية. وتعمق لدى السلطة الجزائرية الوعي بأهمية دولتها الطاقية، وقد أضحت قبلة المتودّدين إليها من كبريات العواصم ، مثلما أضحت رقما مٌهِمّا في جدول الدول التي تدور في الفلك الروسي الصيني النّازع اليوم إلى الإستقواء التّدريجي.
بفضل ذلك زادت الجزائر من قدراتها التسليحية في هذه المرحلة التي يسودها عالميا التحفز العسكري. وصارت تطمح مَزهوًّةً إلى أن تضطلع بدور القوة الإقليمية المؤثرة. وهذا الطموح مشروع ويباركه كل وطني في الجزائر وفي تونس.
لكن الذي قد يبعث ، من منظور وطني تونسي، على قدر من الإستياء أن الجزائر قد استهلت سياسة توسعها الإقليمي بتونس المنهارة. ذلك أنه لم يترتب عن توطّد العلاقة الشخصية بين سعيد وتبون تعاونٌ بين البلدين مستزادٌ وإنما علاقة ثنائية غير متوازنة، أطل منها التدخل الجزائري في الشأن الداخلي التونسي.
من ذلك أن سياسة تونس الخارجية لا تتأثّر اليوم خطى تقاليدها المتصلة عقودا والتي لها فيها مصالح رغم بعض المآخذ التي لا تفارق المصالح، وإنما صارت تنقاد إلى حيث تتجه السياسة الخارجية الجزائرية اتجاها يصاحبه تعثّر كلما اقتضت الضرورة أن تعود سياسة تونس الخارجية إلى خط سيرها التقليدي. وهو تعثّرُ مَن يسعى عن غير دراية إلى خسران لِحيَتَيه. ومن ذلك أن تونس صارت، كما يرُوج، ورقة سياسية تستعملها الجزائر في حساباتها الدولية والإقليمية. وسواء صحّ هذا أو لم يصحَّ، فإنّ له بعضَ الدّخان. فقد ذكر موقع “مغرب أنتلّجنس”أنّ الجزائر باعت رأس الغنوشي لِتُرضي باعتقاله السعودية، فتزيلَ السابقَ من عوائق التعالق بين البلدين. ويُضمِر هذا الرأيُ الذي لا نجزم بصحتّه أن مأتى الحماية التي كان يحظى بها الغنوشي، والتي حيرت التونسيين لعلمهم بما فعل، كان من إرادة الجزائر ومن طاعة سعيد لها. وإنّ هذا الرأي المُضمَر في الموقع المغربي المذكور قد نشرته مؤخرا جريدة “لوموند” الفرنسية بالتنصيص الصريح على أن “الجزائر تحمي الغنوشي”. والسؤال القائم على هذا الإحتمال هو لماذا حمت الجزائر الغنوشي قبل أن تكف عن ذلك؟.
إن لذلك سببَين. السبب الأول ذاتي. وهو أن الغنوشي كان قد أقام في الجزائر سنتين، كانتا صاخبتين هناك، لكنه التزم الصمت التام رغم أن ما كان يجري موصول بمهجته الإخوانية. وقد أعجَبَ الجزائريين صمتُه ونَومَتُه في الخندق المشهور بها كلّما ضاق عليه الحال. والسبب الثاني سياسي، وبيانه أن السلطة الجزائرية تعمل على أن يكون الحكم في تونس نسخة من الحكم فيها. وتصريف ذلك لو صحّ، هو حكم مدني مسنود بالعسكر، ومدنيتُه الظاهرة هي خلطة تمثل”المحافظةُ” أحدَ مكوناتها.و يمثّل هذه المحافظةَ ما يسمّيه الجزائريون”الإسلام السياسي المعتدل”. ولعل السلطة الجزائرية ترى في إخوان النهضة إسلاما سياسيا “معتدلا” على شاكلة “مجتمع السلم” المباركَ هناك رسميا، والذي ندّد رأسُه “المقري” باعتقال الغنوشي. وعلى إدراكنا أن مؤسستنا العسكرية مؤسسة دولة لا مؤسسة حكم مباشر أو غير مباشر، فإن الوجه الآخر من الرائج والمتوقع لا يخلو من وجاهة. فاعتبار الجزائر الغنوشي ممثلا “للإسلام السياسي المعتدل”، والذي لا نعلم آلةً تقيس”اعتداله”، إنما تروِّجُه في الجزائر النخبُ ترويجا يبدو باسم السلطة ، لأن مروِّجيه مِن المقربين منها. وقد تكون تلك الحماية من توابع العلاقة الجزائرية التركية التي تمتّنت وتنوعت مجالاتها. إذ لا ينبغي تجاهل”الأخوّة” التي بين الغنوشي وأردوغان. ولهذا هذا السياق سؤال محدد وهو هل ذاك “البيعُ”، لو صحّ، ظرفي أم لا رجعة فيه؟ قد ينكشف الجواب بالقضايا التي يُعتَقل فيها اليوم الغنوشي . فإذا اقتصرت على تصريحه الأخير” الملوّح بـ”الحرب الأهلية ” فلعلّ “البيع” لن يكون فعليا. أما إذا حرّكت السلطة التونسية، بواسطة النيابة، القضايا الثقيلة المتعلقة بشبهات “التسفير” والإرهاب والنهب وتبييض الأموال و”تخريب الدولة”، واغلَقَت الأوكار والكيانات ذات الصلة الخ… فإنّ في ذلك تَدارُكا رسميا على ما فات مِن زَمَنٍ، وما أُهمِل من ملفات، بإنجاز المحاسبة القانونية الفعلية التي طال على الشعب التونسي انتظارُها.
إن الذي لا جدال فيه أن للجزائر قولا في الصراعات السياسية والإجتماعية بتونس. فقد أضحى التناقض بين سعيد والمنظمة الشغلية يُحَلّ في الجزائر. وأضحى الرئيس الجزائري تبون لسان حال تونس، الرافض لـ”المؤامرات التي تُحاك ضدها”، حتى يخيّل أن بتونس خرسا أو كأن تلك المؤامرات لا يعلمها عامةُ التونسيين. وإن الخطاب الرئاسي الجزائري ينفي التدخل في تونس نفيا مُتَعاوَدا قد يَرجُحُ به الإثباتُ . ثم إنّ هذا الخطاب صار في هذه الفترة يردّ على معارضي سعيد الذين يدورون في فلك الغنوشي على قَدرِ أقوالهم تماما. فكأنّ الحدود بين الرئاستَين والدّولتَين قد انتَسخَت. وقد توحي هذه الردود ، على ميلنا إلى حسن الطوايا، بأن للجزائر ورئيسها ما يشبه الوصاية على تونس ورئيسها الذي أضحى لا يعلم أين يولّي الوجهَ، وهو الذي يتلفظ “بالقلائد”عن”السيادة الوطنية” التي لا نرى لها أثرا فعليا، والتي لم ينعقد عليها يوما خِنصرٌ رسمي إلا مع التيار الدستوري.
لا جدال في أن دولة الجزائر أختٌ لدولةِ تونسَ شقيقةٌ. لكن ذلك لا يتيح لها أن تمارس وصاية الأخت الكبرى على الصغرى. فمعاهدة الأخوّة الرائدة بين البلدين لا تنصّ على “الكُبُورَةِ” امتيازا للجزائر. ومقاييس الكِبَر والصِّغَر في الدول ليست وجوبا المساحةَ والتعداد السكانيّ.وأمثلة إثبات لهذه الحقيقة في العالم شهيرة عديدة. وتاريخ البلدَين يُؤكّدُها.
*نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي “الصادرة بتاريخ الثلاثاء 2 ماي 2023