الشارع المغاربي: لم يمرّ أحد بوزارة الشّؤون الثّقافية ويرتكب هذا الكمّ الهائل من الأخطاء ويحافظ رغم ذلك على منصبه سوى وزيرة الشّؤون الثّقافيّة الحاليّة. فيبدو أنّها تتمتّع بحماية رئاسيّة منيعة ضدّ كلّ الصّدمات وضدّ كلّ ضجّة تثار من حين إلى آخر بسبب فضيحة ما أو مشكل طارئ. فمنذ تعيينها على رأس وزارة الشّؤون الثّقافيّة أحاطت نفسها بعدد من المسؤولين كعادة كلّ الوزراء في تونس السّعيدة، الّذين لا يأتون منفردين بل يبدؤون أوّلا بالتخلّص من أقصى ما يستطيعون من مسؤولين سابقين كانوا في يوم ما زمرةً للوزير السّابق، ليفسحوا المجال لزمرتهم الخاصّة كي تضرب عروقها في جسد الوزارة، والويل كلّ الويل لأيّ “مكلّف” بمهمّة يخربش على فايسبوك تدوينة تلمّح إلى نقد إجراء ما أو يبدي رأياً حتّى في حانة من حانات تونس العاصمة أو مقاهيها، فللوزيرة عيون لا تنام وآذان تلتقط كلّ كبيرة وصغيرة.
كانت آخر ضحيّة من ضحايا الوزيرة الحالية مديرة المكتبة الوطنيّة رجاء بن سلامة الّتي شهدت المكتبة الوطنية خلال عملها على رأسها حركيّة كبيرة تمظهرت خاصّة في أنشطة ثقافية من ندوات ومؤتمرات علميّة وشراكات مثمرة. باختصار، كانت رجاء بن سلامة تحمل مشروعاً واضحاً للنهوض بعمل المكتبة الوطنية والرقيّ بها. يكفي أن نذكر مشروع رقمنة الأرشيف وتحقيق عدد من الكتب وجمع عدد من المكتبات الخاصة الّتي أهديت للمكتبة الوطنية. غير أن بن سلامة لم تكن ممّن يصمت عن موقف نقديّ، فدأبت من حين إلى آخر على نشر تدوينات تبدي فيها موقفها ممّا يستجدّ ببرّ تونس تلميحاً وتصريحاً، ويبدو أنّ الأمر أقضّ مضجع الزّعيم، أو إنّ وزيرة الشّؤون الثّقافيّة خافت عليه من ذلك، فصمتت عن ذلك فترة، قبل أن تطلق النّار على رأس رجاء بن سلامة بإقالتها من إدارة المكتبة الوطنيّة دون ذكر أي سبب، على طريقة القتل بدم بارد الّتي يمارسها كلّ المسؤولين التونسيّين. ولطالما انتقدت هذه الطّريقة البائسة والمتخلّفة، الّتي لا تعبّر إلاّ عن احتقار المثقّفين التّونسيّين. فها أنا أتحدّى وزيرة الشّؤون الثّقافيّة مثلاً أن تعلّل إقالة رجاء بن سلامة وتذكر لنا سبباً واحداً تستحقّ من أجله العزل. لن تفعل طبعاً لأنّ الإقالة جاءت خوفاً على سيّدنا صلّى اللّه عليه وسلّم من أن تزعزعه تدوينات بن سلامة أو تضلّل أتباع دينه، لذلك سارعت إلى عزلها دون أن تعلم أنّها حرّرتها من شبكة الإدارة وأطلقت جناحيها مجدّداً.
منذ زمن بعيد انتقدتُّ مراراً وتكراراً سياسة التّعيينات في الوزارات، وأكّدت أنّها قائمة على شرط الولاء للزّعيم أمدّ اللّه أنفاسه ووطّدَ زعامته في مشارق الأرض ومغاربها. لا يعني الولاءُ المساندةَ فحسب، بل يعني أن يكون الوزير مستعدّا ليكون عصا الزّعيم في الأرض ينطق بما ينطق به وينفّذ ما يقول دون أيّ نقاش. والواقع أنّ وزيرة الشّؤون الثّقافيّة الّتي لم تظهر في قصر قرطاج إلاّ نادراً تمثّل أنموذج المرأة المطأطئة الرّأس، أي التّلميذة المثاليّة والبنت المطيعة، تجلس أمام مكتب فخامته وتسمع خطبته وتطأطئ رأسها بالتّأييد، مقتدية برئيسة الحكومة. أمّا أن نتحدّث عن مشروع ثقافيّ تحمله الوزيرة وتقنع به وتفرضه على “الدّولة” فهذا حلم مؤجّل إلى ما لا نهاية، ويكفينا اليوم التّصفيق والتأييد والطّأطأة والصّمت والمباركة وسائلَ ناجعةً للحفاظ على كرسيّ الوزارة الوثير في “هذه اللّحظة الاستثنائيّة غير المسبوقة في التّاريخ الّتي تمر بها بلادنا”، ويكفينا الإيمان بنظريّة “المؤامرة الّتي يشنّها عدد من الأشرار في الدّاخل والخارج”، كما يقول المبعبعون باسم الزّعيم. فقد استمعت إلى أحدهم منذ أيّام يعتقد جازماً أن “الزّبوبيّات” التي تلفّظ بها فكاهي فرنسيّ في “ليلة الضحك” على الذّقون في مسرح قرطاج إنّما هي مؤامرة. لقد كان يقول ذلك بكلّ ثقة في النّفس.
إنّه زمن النّباح باسم الزّعيم ولا قول غير قوله، ولا فكرة غير فكرته ولا تفسير غير تفسيره. كما أنّ هذه “اللّحظة التّاريخيّة غير المسبوقة في التاريخخخ” تقتضي السّمع والطّاعة لا الحديث عن مشاريع. ثمّ ما رتبة الثّقافة والمشاريع الثّقافيّة في سلّم أولويّات الزّعيم اليوم؟ هل يعقل أن نتحدّث عن مشروع ثقافيّ وفخامة الزّعيم يلهث خلف الخبز والزّيت والسّكّر والحليب؟ أيّ كفر هذا يمكن أن يقترفه أحدهم بالحديث عن مشروع ثقافيّ؟؟ وأي حماقة قد تدفع بعضهم إلى مشروع ثقافيّ بديل لثقافة الولائم والـ”زّرد”؟ إنّ الحديث عن شيء من هذا يعني بالتأكيد الإقالة في كلمتين باردتين مثلما فعلت وزيرة الشّؤون الثّقافيّة مع عدد من منظوريها الّذين اشتمّت عليهم رائحة العصيان لأوامرها أو أوامر فخامة الزّعيم وتوجّهاته الحكيمة: “قرّرت وزيرة الشّؤون الثّقافيّة إعفاء فلان الفلاني من مهامّه”، وهي الجملة الباردة نفسها الّتي سيُنهي بها فخامة الزّعيم مهامَّ وزيرة الشّؤون الثّقافيّة يوما ما عندما يصله عنها ملفّ من مفسّريه يثبت خروجها عن مقولة “الشّعب يريد”، ولكنّ الوزيرة منتشية اليوم بإطلاق الرّصاص على رؤوس العديد من المثقّفين. وفي الأثناء تلهث خلف رضا فخامة الزّعيم مؤيّدة إيّاه في عشقه الخطّ العربيّ، وتقترح عليه تخصيص مركز عالمي للخطّ العربي في مساحة بجانب مبنى مدينة الثقافة، أمّا التّفكير في قصر للمعارض في المكان ذاته فلا مكان له في ذهنها لأنّ الكتاب خطر على فخامة الزّعيم. ألم تذبَّ عنه الكتبَ خلال المعرض الفارط، وتمنع عدداً من العناوين الّتي بدا أنّها تنتقده في سابقة لم تقوَ عليها حركة النّهضة لمّا كانت في الحكم؟ بلى فعلت ذلك، و”بهذلت” عدداً من الكتّاب لأنّهم تحدّثوا عن فخامة الزّعيم، وسيظلّ العار يلاحق وزارة الشّؤون الثّقافيّة إلى يوم يبعثون، وسنتذكّر السيّدة الوزيرة بعد طول عمر بأنّها الّتي منعت كتباً فكريّة بعد الثّورة لأسباب سياسيّة، وما همّ لو حصل وانتقدناها أو عيّرناها بمانعة الكتب مثلاً؟ يكفي أنّها تحظى لدى الزّعيم بمكانة عظيمة منعته من إقالتها رغم أنّها ذبحت عديد المثقّفين وشرّدتهم عن عائلاتهم وحرمتهم من رواتبهم في مجزرة مجالس التّأديب مؤخّراً رغم أنّ أغلب هؤلاء هم في الحقيقة من أنصار فخامة الزّعيم وفخامة الخامس والعشرين من جويلية، ولكنّ ذلك لم يمنع السّيّدة الوزيرة من إهدار دمائهم بدم بارد إرضاء لفخامة الزّعيم الّذي تقبّلها قبولاً حسناً بعد فضيحة “ليلة الضّحك” على الذّقون في قرطاج، فسارعت إلى الاجتماع ببعض مديري المهرجانات وانتهى الأمر. وبذلك تمّ إصلاح الشأن الثقافيّ والرّقيّ به إلى مصافَّ غير مسبوقة في التّاريخ وارتفعت بمشروعها الثّقافيّ ارتفاعاً شاهقاً غير مسبوق في التاريخ هو الآخر.
ولو أرادت وزيرة الشّؤون الثّقافيّة النّصيحة لاقترحت عليها أن تبدأ أوّل خطوة في احترام المثقّفين بمجرّد الرّد على بريد إلكترونيّ يصل الوزارة. لقد راسلت جميع أنحاء العالم بالبريد الإلكتروني فتلقيت ردودا إلاّ وزارة الشّؤون الثّقافيّة. فمنذ سنتين من الآن مثلاً نشرت وزارة الشّؤون الثّقافيّة إعلاناً عن عزمها تأسيس منصّة للكتاب التّونسي يكون هدفه المساهمة في التعريف بالكتّاب التّونسيّين، واشترطت أن يكون المترشّحون للتعاقد مع الوزارة في هذا المشروع من أصحاب المؤلّفات الأدبية. وبحكم اطّلاعي الواسع على السّاحة الأدبيّة في تونس وحماسي للتّعريف بالكتّاب وكتبهم، وإيماني بضرورة أن تكون لنا منصة رسميّة تعرّف بأدبائنا وأديباتنا مثلما تفعل الدّول المحترمة، قدّمت مطلباً تضمّن كلّ ما طلبوه من وثائق وسيرة وغيرها وتقدّمت به في الآجال، وظللت أنتظر ردّاً. غير أنّ العام الأوّل مرّ، ومرّ عام ثانٍ ولا ردّ من الوزارة لا بالقبول ولا بالاعتذار، بل لم يكلّفوا أنفسهم حتّى مجرّد إرسال تأكيد استلام بكلمتين أو ثلاث من قبيل: “تلقّينا مطلبكم. شكرا”. غير أنّني تفاجأت منذ أيّام بوزارة الشّؤون الثّقافية تنشر بلاغاً هذا نصّه: “في إطار تأثيث محتوى “بوابة الكتاب التّونسي” وهو مشروع يهدف إلى التعريف بالكاتب والكتاب وبحركة النّشر عامة بالبلاد التونسية تدعو الإدارة العامة للكتاب الكتّابَ والشّعراء التونسيين غير المنخرطين في اتحاد الكتاب التونسيين والراغبين في التعريف بمسيرتهم الإبداعية وإصداراتهم أن يتقدّموا بملفات في الغرض تتضمن الوثائق التالية: مطلباً كتابيا باسم السيدة وزيرة الشّؤون الثقافية وسيرة ذاتية مفصلة وصورة شمسية حديثة إلخ..”.
لمّا قرأت البلاغ ذهلت. فقد تكوّنت “بوابة الكتاب التونسي” الّتي لا أثر لها إلى حد الآن، وتم انتداب متعاقدين لتأثيث محتواها، وتشكلت هيأة الإشراف عليها وبدأت العمل. كيف تمّ ذلك؟ متى؟ ما المقاييس التي اعتمدت في انتدابهم؟ هل أجروا مناظرة أو اختباراً؟ لا أحد يعلم. فالأمور في “البلاد التونسيّة” تسير تحت الماء وفق قاعدة السمع والطاعة ومبدأ “هذا متاعنا وهذاكا لا”. أمّا “الشّفافيّة” و”النّزاهة” فستُقدّم في أطباقٍ من البلاغة المتكلّسة للمغبونين والحمقى ممّن تعوّدوا السّمع والطّاعة فحسب. ثمّ ما هذه الطريقة البذيئة في تأثيث هذه المنصة التي لم تولد بعد؟ يعني ستكتفي اللجنة المشرفة بتلقّي السيَر ورقنها وتنزيلها على موقع؟ أي عبث هذا يهان فيه الكتاب بهذه الطريقة؟ في أي زمن نحن؟
لم يكن ذلك سوى مثال بسيط جدّا عن إدارة وزارة الشؤون الثقافية وغيرها من الوزارات ولن ندخل في ملف الصفقات والتعيينات والولاء والبراء لأنّها مسائل تتجاوزنا، وبما أنّنا لسنا من القرشيّين الخلّص الصابرين المرابطين فلن يسمعنا فخامة الزّعيم ولن يلقي بالاً لما نقول مهما كانت خطورته، هذا إذا لم تقدّم فينا وزيرة الشّؤون الثقافية نازلة في المس من هيبة الدولة والاعتداء على موظف عمومي والتشويش في الطريق العام والسكر والعربدة والمساهمة في توسيع ثقب الأوزون والتآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي، فكل تلك التهم جاهزة لكل كلمة تُكتب في جريدة أو حتى في تدوينة ينتظرها الفصل الفضيحة (الفصل 54) الّذي يطلّ على رقابنا من علوّ شاهق وساحق.
قالها الشابي قبل قرن من الزمن “لقد يئست من المشاريع التونسية” وسأكرّرها اليوم خلفه فربما سمع صداها، في انتظار أن يؤذّن فينا مؤّذن يوما ما يخبرنا بأنّ كلّ ما عشناه لم يكن سوى كابوس قاتم.
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 25 جويلية 2023