الشارع المغاربي: يعدّ تقلُّدُ إمرأة منصب رئاسة الحكومة أمرا غير عاديّا في أيّة دولة بالعالم. ففي تاريخ فرنسا الطّويل وحدها Édith Cresson شغلت هذا المنصب  فما بالك بدولة ذات موروث عربي إسلامي؟ لذا كان يمكن أن يكون تعيين السيّدة نجلاء بودن رمضان إضافة كبيرة لتاريخ التّونسيّات ودليلا إن كان الأمر يحتاج لدليل على جدارتهنّ بالقيادة في كلّ الميادين وعلى جميع المستويات.

السيّدة نجلاء بودن مثلما يعلم الجميع  وافدة على العمل السّياسي من الوسط الأكاديمي والإداري وتُعتبر كفاءة علميّة محترمة في إختصاصاتها لكن لم يعرف لها أيّ إشتغال بالشّأن العام ولا حتّى نشاط جمعيّاتي.

لذا كان وصولها لهذا المنصب أمرا مفاجئا بالنّسبة للرّأي العام ولعلّه كان كذلك بالنّسبة إليها أيضا…

تمّ تعيين السيّدة بودن بعد أسابيع من إقالة هشام المشيشي وتعليق أشغال البرلمان ودخول البلاد في حالة “الإستثناء” وإستفراد الرّئيس قيس سعيّد  شكلا وفعلا  بكلّ مقاليد الحكم وسلطاته والكلّ يذكر تلك الخطب الرّئاسيّة التي مُفادها: الدّولة قائمة والحكومة ستأتي…لكن وبتزايد الضّغوطات الدّاخليّة وخاصّة الخارجيّة  عيّن الرّئيس سعيّد السيّدة بودن وحكومتها (التي والحقّ يقال ضمّت كذلك عددا هامّا من النّساء) وكأنّه أراد بذلك الردّ على الإتّهامات التي تلاحقه واثبات أنّه لا يتبنى فقط قضايا النّساء وانه قادر على تعيينهنّ في أعلى المناصب…

إذن ومنذ البداية  كان تكليف السيّدة بودن برئاسة الحكومة ينسجم مع تصوّر الرّئيس قيس سعيّد لهندسة الحكم مثلما يراه:رئيس حاكم ومن حوله مساعدون قليلو الصّلاحيّات وهنا لا بأس  بالنّسبة له  من “تطعيم” الصّورة بعدد من النّساء من الكفاءات العلميّة.

قد يرى البعض في هذا التّوصيف تحاملا على الرئيس سعيّد والسيّدة بودن على حدٍّ سواء  لكن المتفحّص بتجرّد لا يلمس لحدّ الآن على الأقلّ غير صورة رئيس يستقبل السيّدة بودن  دوريّا وغالبا مساء، يستقبلها بالتّرحيب والشّكر على عملها وتفانيها في مشهدٍ أشبه ما يكون بمدير يجتمع بمساعد أوّل لإستعراض حصيلة اليوم وما هو مطلوب منه لاحقا… الرّئيس-المدير وحده يتحدّث في أيّ موضوع يراه ولا نرى أيّ تفاعل من “المساعدة” غير “المُباركة” بالعبارة (تبارك اللّه) أو بحركة الرّأس!  بالإضافة لطريقة تصوير تلك اللّقاءات حيث يتصدّر غالبا الرّئيس المشهد ولا تحتلّ السيّدة بودنّ إلّا مساحة صغيرة جدًّا لا تكاد تتعدّى حجما أيّ مُكَوّن من مكوّنات ديكور المكتب!

السيّدة بودن هي مبدئيًّا أهمّ ثاني شخصيّة في منظومة الرّئيس سعيّد وهي من هذا المنطلق شخصيّة سياسيّة من الصفّ الأوّل تتحمّل المسؤوليّة الأكبر في وضع السّياسات العامّة وتنزيلها على أرض الواقع وبين هذا وذاك هي مُطالبة بالتحدّث للمعني الأوّل بتلك السّياسات: الشّعب التّونسي!

إلّا أنّنا ولحدّ الآن لم نسمع كلمة ولا رأيا للسيّدة بودنّ لا في حوار صحفي ولا حتّى في مُجرّد نقطة إعلاميّة حول أيّ موضوع كالوضع المالي للبلاد مثلا!

أكثر من ذلك يبدو أنّها لم تبد خلال لقاءاتها ببعض الأطراف الإجتماعيّة أساسا ما يُفيد بأنّها صاحبة قرار وقادرة على عقد تفاهمات بوصفها أحد رأسي السّلطة التّنفيذيّة اذ هي تكتفي بالإستماع وبنقل ما يرد عليها للرّئيس!

صحيح أنّ السيّدة بودن “تدير” أو “تُساعد” في إدارة شؤون الدّولة في إطار قانوني “إستثنائي” لدى البعض و”إنقلابي” عند البعض الآخر لكن هذا لا يمنعها من ممارسة صلاحيّاتها في حدّها الأدنى أو على الأصحّ واجباتها كإنارة الرّأي العام حول ما “تعتزم” القيام به في ملفّ المفاوضات مع صندوق النّقد الدّولي وإلتزامات الدّولة التّونسيّة ! سمعنا السيّدة وزيرة الماليّة بخصوص ميزانيّة 2022 لكن سمعنا أيضا “تبرّأ” الرّئيس سعيّد من قانون الميزانيّة هذا!! رأينا فقط مناشير تمنع أيّة مفاوضات إجتماعيّة دون ترخيص مسبق من رئاسة الحكومة (أو بشكل أكثر وضوحا رئاسة الدّولة) سمعنا عن مسؤولين سامين يتحاشون الإدلاء بأيّة تصريحات…سمعنا أنّ القصبة تشتغل لحدّ الآن بلا مدير ديوان !

ما نراه فقط رئيسة حكومة تقوم ببعض الزّيارات للخارج (بتكليف من الرّئيس) ويكاد دورها يقتصر على الجوانب التّشريفيّة فهي سيّدة أنيقة تجيد اللّغة الفرنسيّة وتتمسّك بمظهرها العصري (عدم وضع غطاء الرّأس عند زيارة المملكة العربيّة السّعوديّة). هي إذن فقط صورة تزيّن واجهة الرّئيس سعيّد لا تنبس بكلمة في حضوره (حسب ما يُنشر على صفحة الرّئاسة) وعندما تحدّثت مؤخّرا بفرنسا في مؤتمر “محيط واحد” كان كلامها ترجمة لخطاب الرّئيس: مقاربة جديدة ومتضامنة في مواجهة الأخطار المحيطة بالبحار بسبب التلوّث لتصل إلى طلب مساعدة البلاد على مواجهة تأثيرات هذا التلوّث لأنّ تونس لا تملك الإمكانات الماديّة اللّازمة !

المؤكّد أن السيّدة بودن تحظى بإحترام زملائها وطلبتها ومن عملوا معها في برنامج تعصير التّعليم العالي (آخر مسؤوليّة تحمّلتها قبل رئاسة الحكومة) لكن هل هذا كافٍ ليجعل منها رئيسة حكومة ناجحة في بلاد تعيش أصعب مراحل تاريخها المعاصر؟

السيّدة رئيسة الحكومة حظيت بقدر من التّرحاب حتّى لدى خصوم الرّئيس سعيّد وما أقدم عليه مساء 25 جويلية الفارط وما تلاه…توقّع البعض أن يكون للسيّدة بودن دور حقيقي في مجريات الحياة السّياسيّة بالبلاد بجوانبها الإقتصاديّة والإجتماعيّة لكنّها لم تترك حتّى بصمة بسيطة كإمرأة في قانون الماليّة الحالي. فلا وجود لإجراءات موجّهة للنّساء خاصّة أنّهنّ من أكبر المتضرّرات إقتصاديّا من الجائحة فضلا عن تزايد تعرّضهنّ للعنف! لم نسمع من السيّدة رئيسة الحكومة حرصا على تعيين نساء على رأس ولايات ولا حتّى معتمديّات والحال أنّ عدد النّساء صاحبات الكفاءات العالية في التّسيير كبير وأنّ كلّ المؤشرات والإحصاءات تدلّل على تناقص مؤشّرات الفساد حيثما عُهد لإمرأة بالتّسيير.

كلّ شيء يدلّ لحدّ الآن على أنّ السيّدة نجلاء بودن مكتفية بلعب دور faire-valoir للرّئيس سعيّد وهو لا يمثل إساءة لنفسها فحسب وانما إساءة في حقّ النّساء التّونسيّات اللّواتي ومنذ زمن بعيد يناضلن ويكافحن من أجل فرض جدارتهنّ بالقيادة وفسخ تلك الصورة المقيتة للمرأة التي لا تصلح إلّا في مواقع تنفيذ ما يُملى عليها…صورة المرأة التي تجسّد انتفاضة  آلاف التّونسيّات ذات 13 أوت 2013 رافعات شعار: لا للمرأة المكمّلة!

وهنا يُطرح مجدّدا السّؤال: أين يكمن الخطأ؟

أهو في شخصيّة السيّدة بودن؟ أم في من عيّنها؟ أم في تزامن هذين العاملين مع ظرف سياسي استثنائي وغير مسبوق؟

نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 15 فيفري 2022