الشارع المغاربي: شهدت المنطقة المحيطة بمقر ولاية صفاقس يوم الاحد 18 جوان المنقضي تنظيم وقفتين احتجاجيتين الأولى لنشطاء من المجتمع المدني في حين دعا للثانية حزب عبير موسي للتنديد بـ”تخاذل” السلط في التعامل مع تنامي أزمة المهاجرين من جنوب الصحراء والتي أصبحت تؤرق جزءا كبيرا من سكان المدينة .
لجمع بين التحركين في يوم ومكان واحد دفع المنظمين من غير المتحزبين الى التاكيد على أن تحركهم مواطني وعلى أن ليس له أبعاد سياسية. ورغم هذا الاختلاف الشكلي رفع الطرفان نفس الشعارات تنديدا بالوضعية التي أصبحت تعيش على وقعها مدينة صفاقس بعد تنامي ظاهرة تواجد الأفارقة من جنوب الصحراء بشكل لافت .
الخروج للعلن
سبق التحركات ارتفاع للأصوات عبر وسائل التواصل الاجتماعي بعد ازدياد ملحوظ في أعداد المهاجرين بالمدينة وضواحيها وصمت السلط المركزية وعدم اتخاذها أي إجراء إزاء هذه الظاهرة… وهو ما دفع الى الخروج إلى الشارع لإسماع صوت المواطنين لـ”انقاذ” المدينة . ولعل ما تضمنه ولأول مرة بيان الاتحاد الجهوي للصناعة والتجارة الصادر مؤخرا أحسن دليل على طرح القضية بشكل علني وليس من خلال اجتماعات مغلقة. فقد طالب بيان اتحاد الاعراف باتخاذ إجراءات فورية للحد من هذه الظاهرة الخطيرة في حين لم تصدر عن المنظمات والجمعيات اية بيانات الى حد الان.
هذه التحركات قابلها تحرك من الأفارقة جنوب الصحراء أنفسهم الذين نظموا في ما بعد تجمهرا في منطقة باب الجبلي التي أصبحت معقل لهم ومكانا يمارسون فيها بعض الانشطة الخاصة بهم رفعوا خلاله بعض الشعارات.
الخوف من المستقبل
يتقاسم عدد كبير من سكان صفاقس شعورا بالخوف من تفاقم تدفق المهاجرين الافارقة من جنوب الصحراء على الجهة. فقد سجل في الأسابيع والأيام الماضية قدوم أعداد كبيرة الى المدينة. مردّ هذا الخوف الانعكاسات الممكنة لهذه الظاهرة على التوازنات الديمغرافية للمدينة وإمكانية تهديد السلم الاجتماعية خاصة بعد تعدد الحوادث التي كان فيها هؤلاء طرفا وهذا في ظل عجز تام للسلطة المركزية والجهوية عن التعامل مع ظاهرة الهجرة غير الشرعية.
عجز دفع بالعديد من السكان الى التفكير في إسماع صوتهم عبر تدوينات فايسبوكية او عبر صفحات خاصة بموضوع الهجرة واستعمال خطابات مصبوغة بمشاعر العنصرية والكراهية. وفي المقابل أصبح المهاجرون غير الشرعيين بدورهم يشعرون بالخطر على حياتهم بفعل تنامي مثل هذه الخطابات والمناوشات في بعض الإحياء إضافة لظروفهم الاقتصادية المتدهورة …وهذا ما قادهم الى التكتل مع بعضهم للدفاع على أنفسهم ومجابهة الاخرين… وهو ما ينذر بإمكانية تفجر الأوضاع في اي وقت.
صفاقس عاصمة عالمية للهجرة
بعد انحسار ظهور الافارقة جنوب الصحراء في الأماكن العامة اثر تصريحات رئيس الجمهورية عادت افواج المهاجرين القادمين لصفاقس للظهور بشكل ملفت للانتباه اذ لا يكاد يمر يوم دون مشاهدة عدد من الأفارقة في الطرقات المؤدية للمدينة ومنها بالخصوص الطرقات المؤدية الى المهدية والقصرين وسيدي بوزيد .
تجارة مربحة
رغم الازمة الاقتصادية التي تشهدها جهة صفاقس وتردي الاوضاع الاجتماعية بها وجد المهاجرون في صفاقس فرص عمل في ظل عزوف أبناء الوطن عن تامين بعض الوظائف. كما توفرت لهم إمكانات السكن لدى الأسر في صفاقس خاصة ان عديد العائلات هناك استفادت في السنوات السابقة من هجرة الاخوة الليبيين وهو ما طور خدمة الايجار المنزلي للقادمين لصفاقس. وقد ادى تقلص قدوم الليبين الى البحث عن طالبي السكن فكان الافارقة من جنوب الصحراء البديل وخاصة في الاحياء الفقيرة والمهمشة بالخصوص.
مول افريقيا
تعد منطقة باب الجبلي من اهم المناطق في المدينة التي تستحوذ على أنشطة تجارية واقتصادية مهمة لسكان صفاقس فبها عديد الأسواق التجارية منها سوق “الحوت” والسوق المسقف وسوق قريعة وسوق الخضرة وغيرها من الأسواق المعروفة باسعارها المقبولة. كما توجد بمنطقة باب الجبلي محطة الحافلات لعديد ضواحي صفاقس ومحطات التاكسي الجماعي. وقد شهدت هذه المنطقة منذ عدة أسابيع تمركز أعدادا مهمة من افارقة جنوب الصحراء للقيام بنشاطات تجارية واجتماعية خاصة بهذه الجاليات. فالمواطن الذي يمر من هذه المنطقة اصبح يشاهد أنشطة غريبة تمارس على قارعة الطريق منها ضفر الشعر لدى النساء وإزالته من أجسادهن والحلاقة للرجال وبيع عديد المواد التي يستعملونها في الطهي وكل الحاجات لحياتهم اليومية. وامام توفر هذه المواد أصبحت المنطقة وهي منطقة صغيرة قبلة لهؤلاء فتمركزت بها اعداد كبيرة من المهاجرين جعل مرتادي باب الجبلي يعتقدون ان أعدادهم ارتفعت بشكل كبير جدا الى حد ذهاب البعض الى اعتبار ان عددهم تجاوز المليون او اكثر …
البعد الاقليمي
إضافة إلى أبعاده الداخلية أصبح موضوع الهجرة غير النظامية احد اهم العناصر في العلاقات التونسية الأوروبية. فظاهرة الهجرة تلقي بظلالها على الاوضاع في اوروبا التي تعيش وضعا دقيقا بعد اندلاع الحرب الاوكرانية الروسية واستقبال اعداد كبيرة من المهاجرين الاوكرانيين وهو ما دفع البلدان الأوروبية الى محاولة الضغط على تونس للقبول بالإبقاء على المهاجرين لديها وتوطينهم بها . فاللقاءات التي شهدتها العاصمة على أعلى مستوى مع أطراف أوروبية جعلت الرأي العام في تونس وخاصة بصفاقس يتوجس من الموقف الاوروبي . ومما زاد من هذه المخاوف الرسالة التي فهمت من زيارة رئيس الدولة غير المعلنة الى منطقة باب الجبلي حيث احتضن طفلا من ابناء المهاجرين في رسالة واضحة بالقبول بهؤلاء. عودة الطمانينة للمهاجرين شجعتهم على البقاء خاصة ان حوادث الغرق في البحر الابيض المتوسط والتشدد في مراقبة المراكب التي قد تستعمل للهجرة والحديث عن إعادة المهاجرين الذين وصلوا الى اوروبا الى مناطق انطلاقهم كلها عناصر دفعت المهاجرين الوافدين على صفاقس إلى التفكير جديا في الاستقرار بها والتعبير صراحة عن ذلك بينما ازداد منسوب الخوف لدى سكان المدينة .
مخاوف لها جذور
أمام صمت السلط المركزية وعدم فاعليتها في التعامل مع هذه الأزمة وتتالي الإخبار عن مخطط أوروبي للضغط على تونس لتوطين هؤلاء المهاجرين ببلادنا وقدوم إعداد كبيرة منهم من الجزائر ومن ليبيا ازدادت المخاوف من عدم تمكن بلادنا من الصمود امام الضغوط الأوروبية في ظل الأزمة المالية والمقايضة التي قد تفرض عليها “المهاجرون مقابل المساعدة المالية”. هذا ما دفع بالعديد من المواطنين وخاصة من فئة الشباب الى المجاهرة بموقفهم الرافض لبقاء المهاجرين واعتقادهم بان السلطة المركزية قد تضحي بصفاقس من اجل الاستجابة للشروط الاوروبية. لدى سكان صفاقس اعتقاد راسخ ان السلطة المركزية لم تتعامل مع مشاكل الجهة بالجدية اللازمة. فصفاقس تعيش على وقع أزمات قديمة وجديدة ومنها بالخصوص مشكلة القمامة التي دخلت عامها الثاني دون التوصل الى حل جذري اضافة الى تفاقم أزمة النقل. وفي تعامل السلطة المركزية حتى بعد 25 جويلية مع جهة صفاقس فيه ما يبرر هذا الشعور. فرغم ثقلها البشري والاقتصادي والعلمي والثقافي ما زالت صفاقس بلا والٍ منذ اكثر من 6 اشهر.
وقد وجدت الجهة نفسها وحيدة في مواجهة أزمة جثث الغارقين في رحلات الموت حيث وصل عددهم في بيت الاموات بالمستشفى الجامعي الحبيب بورڨيبة الى حوالي 270 جثة في حين ان عدد الأماكن المخصصة لذلك لا يتجاوز 35. كما عاشت السلطة الجهوية وبلديات الجهة وضعية صعبة جدا ومن دون اية مساعدة من الحكومة في ملف دفن الموتي من الافارقة من جنوب الصحراء في مقابر الجهة.
البعد الاعلامي
يرى الذين دعوا الى التحرك إنه من الواجب تجاوز عدم اهتمام وسائل الإعلام بهذه القضية باعتبارها شانا جهويا في حين ان أبعادها وطنية وحتى دولية. ذلك أنه لا يتم طرح قضية الهجرة في وسائل الإعلام الا اذا سجلت حوادث مثيرة رغم أن قضية الهجرة مسالة تمس الامن القومي وقد تهدد السلم الاجتماعي وهذا ما زاد في تنامي الشعور بان على المواطنين ان يعولوا على انفسهم للتصدي لهذه الظاهرة. ان انتشار خطاب الكراهية والعنصرية على وسائل التواصل الاجتماعي ليس الا مؤشرا خطيرا على إمكانية تفجر أزمة نعرف بدايتها ولا يمكن التكهن بنهايتها. كما ان الجمعيات التي تحمل راية حقوق الإنسان والدفاع عن الأقليات لم تتمكن من تطوير خطاب يقنع رافضي وجود هؤلاء المهاجرين. خاصة ان التغيير الكبير أصبح ملموسا فصفاقس التي كانت منطقة عبور قد تصبح منطقة توطين حيث بدا الحديث عن الجيل الثاني مع تسجيل اعداد كبيرة من الولادات في صفوف المهاجرين.
ان انتشار خطاب الكراهية والتعامل العاطفي مع الازمات وعدم اعتماد التمشي العقلاني للبحث عن حلول وطنية لازمة البلاد في هذا الملف والاسنخفاف بها قد تجعلنا في وضعية شبيهة بتلك التي عرفتها تونس لما تحدث البعض عن شباب يمارس الرياضة في جبل الشعانبي.
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 4 جويلية 2023