الشارع المغاربي: كيف يمكن الحديث باختزال عن الملحمة الكبرى لطوفان الأقصى؟! إنجاز تاريخي أدهش العالم، وأبكى فرحًا شعوبًا عربيّة تعوّدت على الهزائم والخيانات، وأربك الغرب المتواطئ مع نظام الاحتلال الصهيوني والمُبرّر دائما لجرائمه الإرهابيّة. ملحمة وضعت نصب الأعين معادلات جديدة ما كانت لتعود بهذا الألق والقوّة…
صباح يوم السبت، 7 أكتوبر 2023، كان حقّا يومًا رهيبًا على كافّة الأصعدة في فلسطين المحتلّة. إطلاق معركة طوفان الأقصى لم يُباغت سلطات الاحتلال الإسرائيلي فحسب، بل أثار الذهول في سائر بلاد العالم. معركة كبرى دشّنتها حركة حماس بإطلاق زهاء خمسة آلاف صاروخ على المستوطنات المحيطة بقطاع غزّة وتل أبيب وغيرها من الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة.
رقعة الشطرنج
مثل بطل أسطوري في لعبة الشطرنج، فصّلت حماس بدهاء وتخطيط وإرادة لا مثيل لها مواقع معركة طوفان الأقصى ومراحلها الأولى، ولكنّها لم تكن مجرّد لعبة. كانت نارًا مستعرةً داهمت قوّات الاحتلال الصهيوني في عُقر مخابئها برًّا وبحرًا وجوًّا. جريًا على الأقدام وباستخدام الدراجات الناريّة والعربات والزوارق والمظلّات والطائرات الشراعيّة بدأت عمليّات اقتحام الأراضي المحتلّة المدجّجة بكافّة أنواع الأسلحة. ثمّ تواترت الأنباء عن سيطرة المقاومة الفلسطينيّة على العديد من المواقع العسكريّة شديدة التحصينات، وأدّت سريعًا إلى إسقاط “فرقة غزّة” الصهيونيّة بالكامل وتدمير عدد غير مسبوق من أنظمة المراقبة والآليّات العسكريّة الثقيلة، بما في ذلك دبابات “الميركافا” التي أوهمت سلطات الاحتلال بأنّها لا تُقهر، غير أنّ شباب حماس دمّروا منها ما استطاعوا وولّى بعضهم عائدين غانمين إلى القطاع على رأس أخرى.
وفي ظرف قياسي، جاءت المفاجأة بالقضاء على عدد كبير من الضباط والجنود الصهاينة، والأهمّ من ذلك وقوع عشرات الأسرى منهم بين عسكريّين ومستوطنين. ووفق اعتراف سلطات الاحتلال نفسها، فإنّ من بين القتلى عدد من كبار القيادات العسكريّة في مقدّمتهم “قائد لواء الناحال” و”قائد كتيبة الاتّصالات” و”نائب قائد وحدة ماجلان” و”قائد وحدة متعدّدة الأبعاد” و”قادة من الجبهة الداخليّة”… والأكثر من ذلك أنّ سلطات الاحتلال قد نشرت، أمس الاثنين، أسماء 18 ضابطا برتب عليا من الوحدات الخاصّة قُتلوا خلال الاشتباكات الميدانيّة في عدد من المستوطنات المجاورة لقطاع غزّة. حصيلة مهينة في صفوف العدوّ الصهيوني على امتداد عقود طويلة، فقد أعلن جيش الاحتلال عن مقتل ما يزيد عن 900 شخص في ظرف ثلاثة أيّام.
المشهد في الأراضي المحتلّة بدا غير مسبوق، بنايات مدمّرة وعشرات السيّارات المتفحّمة في عدد من بؤر الاستيطان وألسنة النيران تتصاعد في كلّ مكان، وكأنّنا إزاء مشاهد حيّة من الحرب الدائرة رحاها في أوكرانيا.
وفي المحصّلة، تكبّدت قوّات الاحتلال الصهيوني خسائر رهيبة، لا فقط في الأرواح والعتاد وإنّما في تلك الكرامة المهدورة لجيشٍ زعمت قيادته على مدى طويل أنّه لا يُقهر. فطالما تباهت بوهم قبّة حديديّة (لاعتراض الصواريخ) غير قابلة للاختراق ويزيد معدّل فعاليّة يفوق 90 بالمائة، غير أنّها تعطّلت تمامًا بفضل وسائل محليّة الصنع لدى المقاومة الفلسطينيّة. وكذا أيضا “جدار فولاذي ذكيّ” يُطوّق غزّة بطول 65 كلم، ويزيد ارتفاعه عن ستّة أمتار ومثلها تحت الأرض، تعتليه أبراج مراقبة شاهقة مرتبطة إلكترونيّا بأزرار قادرة على تدمير أي كائن يتحرّك بالقرب منه. هكذا بشّرت سلطات الاحتلال بأنّها أنشأت خطّا دفاعيّا إعجازيّا يمنع كلّيّا إمكانيّة التسلّل فوق جدارها أو عبر الأنفاق تحته للوصول إلى المستوطنات الصهيونيّة. وفي لحظات تاريخيّة تسّاقط هذا البناء الواهم كـ”العهن المنفوش” بمجرّد جرّافة ومقصّات حديديّة… مشهد لا يُنسى.
كلّ ذلك يُفسّر الإجماع على أنّ الكيان الصهيوني، فشل فشلا تاريخيّا لم يعهده على الصعيدين الاستخباراتي والعسكري. والمكمن الأوّل لهذا الفشل يقوم على توهّم ضمور القوّة العسكريّة لحركة حماس والاعتقاد زهوًا أنّها غير مستعدّة لخوض عمليّة عسكريّة ضخمة. والحال أنّ هذا الوهم لم يكن اعتباطيّا، بل غذّته حماس على امتداد أعوام، فقد التزمت بضبط النفس خلال عام 2022 حين شنّت حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينيّة عددا من العمليّات العسكريّة ضدّ قوّات الاحتلال الصهيوني. وهو ما كلّف حركة حماس حينها الكثير من الانتقادات الداخليّة واتّهامها بأنّها تخلّت عن جوهرها الأسمى المتمثّل في مقاومة الاحتلال. هذا ما أوضحه الناطق العسكري باسم جناحها العسكري “كتائب القسّام” عبر التأكيد على أنّ طوفان الأقصى جاء “بعد سنوات من الإعداد والتخطيط والتدبير”.
انتقام وتواطؤ
لحفظ ما تبقّى من ماء الوجه والخروج من حالة الارتباك بالاستناد إلى الدعم الغربي اللامحدود لاستخدام آليّات التقتيل الجماعي باسم الدفاع عن النفس، عمد الاحتلال الصهيوني إلى فرض حصار شامل على قطاع غزّة، وحرمان أهلها كلّيا من الكهرباء والماء والغذاء والدواء. ثمّ كثّف الغارات الجويّة على القطاع ودعّمها بقصف مدفعي بين العشوائي والمقصود. فالقصف بالطائرات لم يستهدف فقط الأحياء والمجمّعات السكنيّة وإنّما دمّر أيضا العشرات من الجوامع والمساجد، بل واستهدف كذاك سيّارات الإسعاف. وبالنتيجة أعلنت منظمة الأمم المتحدة، أمس الإثنين، أنّ قرابة 123 ألف شخص نزحوا في القطاع منذ بدء المعارك، بالإضافة إلى سقوط مئات الشهداء والجرحى. وهو ما برّرته واشنطن بأنّه من صميم الدفاع عن النفس، ذلك أنّ لها صولات وجولات يعرفها القاصي والداني في ممارسة إرهاب الدولة ضدّ شعوب ودول عديدة.
في هذا المضمار تحديدا يندرج البعد المتوحّش في تصريح وزير الدفاع الصهيوني يوآف غالانت، أمس الاثنين، عند إعلانه عن فرض “حصار كامل” على قطاع غزّة، قائلا “نحن نقاتل حيوانات ونتصرّف وفقا لذلك”.
هذا الصلف يكشف حدّة نوبة الجنون التي أصابت قوّات الاحتلال. وهو ما دفع رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو إلى التهديد المعلن بالانتقام الشامل من الفلسطينيّين العزّل، مُصرّحا بأنّ “صور الدمار في غزّة مجرّد بداية وكل مكان توجد فيه حماس سيتم تدميره”…
وطبعا فإنّ هذا الدمار والتدمير أمرٌ مرحّب به أمريكيّا وأوروبيّا، وحتّى من قبل بعض الأنظمة العربيّة المطبّعة مع الصهاينة والمتواطئة معهم علنًا ضدّ المقاومة الفلسطينيّة كالنظامين الإماراتي والمغربي بالخصوص. وهو ما يُستشفّ بوضوح من بياني وزارتي خارجيّتيْهما اللذين استنكرا معركة طوفان الأقصى، واعتبراها تصعيدا خطيرا، دون التأكيد على حقّ الشعب الفلسطيني المشروع في مقاومة الاحتلال المسؤول دون سواه عن تصعيد الأوضاع وإراقة دماء الأبرياء. والأكثر صلفًا ووقاحةً وخسّةً أنّ زعيم المعارضة الصهيوني يائير لبيد كان قد أعلن، أمس الاثنين، أنّ وزير الخارجيّة الإماراتي عبد الله بن زايد آل نهيان عبّر له في مكالمة هاتفيّة جمعتهما عن “تضامنه مع إسرائيل”. وعلى خلاف المواقف الرسميّة المشرّفة لعدد من الدول العربيّة، على غرار تونس والجزائر والكويت، فإنّ هذا الموقف الإماراتي المخزي لم يكن للأسف مفاجئا، لا سيما أنّ الخارجيّة الإماراتيّة أعربت في بيانها بكلّ وقاحة عن “استيائها الشديد” إزاء ما سَمّته بـ”اختطاف مدنيّين إسرائيليّين من منازلهم كرهائن”، متناسيةً أنّ الآلاف المؤلّفة من الفلسطينيّين يقبعون أسرى في سجون الاحتلال الصهيوني. والحال أنّها عضو غير دائم بمجلس الأمن خلال دورته الحاليّة، وكان يُفترضُ أن تغّض الطرف مؤقّتا، حتّى من باب الدبلوماسيّة والعروبة المزعومة، عن صفقاتها الذليلة مع الكيان الصهيوني وعن تنكّرها الجسيم للحدّ الأدنى من القيم الإنسانيّة تجاه عذابات شعب هُجّر معظمه وانتُزعت أراضيه ومورست ضدّ أبنائه أبشع الانتهاكات والمجازر خلال العقود السبعة الأخيرة…
ارتباك غربي
حالة الارتباك والذهول لم تُصب الكيان الصهيوني فقط، وإنّما طالت بالخصوص القوى الغربيّة الداعمة للاحتلال. وممّا عمّق ذلك أنّها فشلت حتّى في مجرّد إقناع مجلس الأمن باتّخاذ قرار يُدين حركة حماس ومعركة طوفان الأقصى. فقد كانت واشنطن تبحث عن “الإدانة” فحسب، إذ تفادت العمل على دفع مجلس الأمن إلى إصدار بيان مشترك، لأنّها لا تريد على الأغلب طرح مسألة حلّ الدولتين في هذا الظرف بالذات حتّى لا تكون ملزمة بذلك ولو أخلاقيّا.
وبدلا من ذلك اضطرّت الولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبيّة التابعة لها (بريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا) إلى إصدار بيان مشترك لإدانة حركة حماس وإعلان التزامها بدعم نظام الاحتلال الإسرائيلي، فضلا وهذا الهم تبرير علميّات الانتقام الهمجيّة التي أطلقها جيش الاحتلال ضدّ الفلسطينيّين العزّل في قطاع غزّة.
استشعار الخطورة بما قد يُغيّر المعادلات المستقبليّة في المنطقة دفع الولايات المتحدة الأمريكيّة أيضا إلى الإعلان عن توجيه حاملة طائرات إلى سواحل غزّة. ومع ذلك فإنّ انعدام الحيلة الذي يعكس حالة الارتباك السائدة جعلت الرئيس الأمريكي جو بايدن ينتقد الحكومة الصهيونيّة بشكل غير مسبوق، قائلا إنّ “حكومة بنيامين نتنياهو تضمّ أكثر الأعضاء تطرّفا منذ عهد غولدا مائير… وإنّ هؤلاء الوزراء الذين يدعمون استيطان أيا كان وعلى أي أرض كانت في الضفة الغربية هم جزء من المشكلة في الصراع مع الفلسطينيّين”، معترفا بأنّه شخصيًا من بين “أولئك الذين يعتقدون أنّ أمن إسرائيل النهائي يكمن في حلّ الدولتين”.
ومن جهته، فقد أعلن الاتحاد الأوروبي، أمس الاثنين، عن تعليق مساعداته التنموية للفلسطينيّين وإعادة تقييم جميع برامجه الحالية، وفق ما أعلنه “أوليفر فارهيلي” المفوّض الأوروبي المكلّف بالجوار وعمليّات التوسيع، ولكن في ليلة أمس نفسها عاد الاتّحاد الأوروبي إلى التراجع عن الإعلان السابق لمفوّضه المجري المتصهين فارهيلي الذي زعم حرفيّا أنّ “مدى الإرهاب والوحشيّة ضدّ إسرائيل وشعبها يُشكّل منعطفا، ليس من الممكن التصرّف وكأنّ شيئا لم يكن”. وهو بذلك يُجدّد، على شاكلة مسؤولي سائر الدول الغربيّة، ممارسة الانتقائيّة في التعامل مع الشعوب وتحويل الضحيّة إلى جلّاد دعما لنظام احتلال متشبّع بالعنصريّة والجرائم الإرهابيّة، فضلا عن التنكّر لقرارات الشرعيّة الدوليّة المعلومة لدى الجميع في حماية الشعب الفلسطيني وتمكينه حتّى من الحدّ الأدنى من حقوقه المشروعة في استعادة أرضه وإعلان دولته المستقلّة والاعتراف بها في المنتظم الأممي.
لا ريب إذن أنّ ما حدث ويحدث هذه الأيّام في فلسطين المحتلّة يُشكّل بالفعل “منعطفا” حقيقيّا، ولكن في اتّجاه إعادة خلط الأوراق وفتح أبواب جديدة أمام القضيّة الفلسطينيّة، في ظلّ امتلاك أوراق ضغط قويّة غير محسوبة سابقا. فعلى الرغم من أنّ التاريخ كشف مجدّدا أنّه لم يبق أمام الشعب الفلسطيني إلّا التعويل على نفسه في مقاومة الاحتلال الصهيوني، فإنّه من المُرجّح أن تشهد موجة التطبيع خفوتا خلال الفترة المقبلة، بالنظر إلى الرفض الشعبي المتزايد. وهو ما لوحظ بالأمس في التعديل الظاهر على مستوى الموقف والتحرّكات الدبلوماسيّة السعوديّة، جرّاء ما بات يُمثّله التطبيع من حرج سياسي وأخلاقي ومتاجرة معلنة بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وخاصّة في ظلّ انتعاش جذوة الصمود والمقاومة وكسر شوكة الاحتلال البغيض…
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 10 اكتوبر 2023