الشارع المغاربي: تعبر “المصالح العليا الوطنية” من المسائل الأساسية لضمان وحدة واستمرارية الدولة. والمقصود بهذا المصطلح في بعده الاستراتيجي هو “تكريس استقلال البلاد وسلامة أراضيها وأمنها، والمحافظة على مؤسساتها بالشكل الذي ينسجم مع خيار شعبها، وتوفير وسائل دفاعها وديبلوماسيتها وحماية مواطنيها داخل البلاد وخارجها والمحافظة على توازناتها الطبيعية والبيئية. كما يشمل ضرورة المحافظة على العناصر الأساسية لإمكاناتها العلمية والاقتصادية وتراثها الثقافي”.
وقد فُوّضت إلى مصالح الاستعلامات الوطنية للمساهمة في الدفاع على المصالح العليا للوطن وفي استراتيجية الأمن الوطني وذلك عبر “تشخيص وتحديد جميع التهديدات والمخاطر التي من المحتمل أن تؤثر على حياة الأمة ولا سيما فيما يتعلق بحماية السكان، وسلامة التراب الوطني وتحديد الحلول التي يجب على السلطات العامة أن توفرها لمجابهة التهديدات”.
زيادة على هذه المفاهيم الجوهرية وتفاعلا مع المستجدات الدولية التي فرضتها التكنولوجيات الحديثة في قطاع الاتصالات والمعلومات والرقمنة بالتزامن مع بروز ظاهرة العولمة في العقود الأخيرة شهد العالم وخاصة في البلدان المتطورة تحرك هام في اتجاه حماية “الأمن الاقتصادي” الذي يتجسم عبر خطة سياسية للدولة هدفها حماية وتعزيز المصالح الاستراتيجية للوطن.”
وقد كانت الولايات المتحدة سباقة في هذا الميدان حيث شرعت منذ أكثر من عقدين في تحصين كل مقومات اقتصادها الداخلي رغم أنها من أكبر داعي للعولمة ولتشجيع حرية تنقل البضائع ورؤوس الأموال. غير أن ما هو حلال لها يصبح حرام عندما يتعلق الأمر بأمنها الاقتصادي الداخلي. لذلك رسمت حدود لكل استثمار خارجي داخل التراب الأمريكي في قطاعات صنفتها استراتيجية وهي الطاقة والمالية والنقل البحري والجوي والبري وقطاع التكنولوجيات المتقدمة.
وقد نسجت على منوالها البلدان الأوروبية وفي مقدمتها بريطانيا وألمانيا وفرنسا. حيث صدرت دراسة عن جمعية قدماء مدرسة الحرب الاقتصادية سنة 2014 “Association des Anciens de l’Ecole de Guerre Economique ” ( (https://www.ege.fr/infoguerre/2014/05/france-etats-unis-allemagne-face-aux-investissements-etrangers
تحت عنوان “فرنسا والولايات المتحدة وألمانيا في مواجهة الاستثمارات الأجنبية”. وجاء فيها بالخصوص أنه “منذ الثمانينات برز توافق بين الدول الكبرى أنه بالنظر لمستوى النمو والابتكار يعتبر خيار الليبرالية أفضل من سياسة الحماية. غير أن هذا التوافق المصرح به تلقائيا لم يكن في المجمل مبدأ إجباريا من طرف عديد الدول )الكبرى طبعا .( بحيث تحافظ هذه الدول على قراراتها السيادية في مسألة الترخيص للاستثمارات الخارجية من عدمه داخل بلدانها وفي فضائها الاقتصادي.” حيث تبين أن العديد من الدول الكبرى حافظت على تطبيق سياسة حمائية وتعززت بين سنة 1999 وسنة 2008 في الوقت الذي كانت عملية تحرير الأسواق تتفاقم في العالم
للتذكير فإن المساهمات الخارجية تتم عبر الصناديق السيادية أو العرض العمومي للشراء (OPA). وهي عمليات تهدف إلى توسيع نفوذ مؤسسات الطرف المستثمر شركات كانت أو دول او إلى تعزيز وتثبيت مواقعها في قطاع معين مما لهذا التثبيت من تداعيات على التشغيل ومن تحسين قدرة التفاوض مع المزودين ومع الحرفاء في آن واحد بمعنى القدرة على السيطرة على السوق. لذلك يتبين أن السعي إلى الهيمنة على القطاعات في الأسواق (وهو مخالف لحرية السوق) يعتبر هدفا استراتيجيا لتحقيق مصالح الدول والتكتلات التابعة لها.
وقد قدمت الدراسة العديد من الأمثلة في الثلاثة بلدان المذكورة منها مثلا رفض عرض مؤسسة “مواني دبي” للمساهة والتصرف في المواني الأمريكية من بينها ميناء نيويورك. والردود التي تعرضت إليها الحكومة الفرنسية سنة 2005 عندما عارضت تحويل شركة “دانون” صاحبة المرتبة الاولى عالميا في قطاع الحليب ومشتقاته تحت سيطرة مجموعة “ببيبسي” الامريكية.
طبعا هذه التجاذبات لقت تضارب مصالح من داخل البلدان المعنية صادرة عن لوبيات مناصرة للعولمة تساندها أطراف سياسية ساهمت في ترشيح إيمانويل ماكرون الذي كان يشتغل في بنك روتشيلد. وهو ما دفع به إلى التفويت في شركة “ألستوم للطاقة” “Alstom Energie” إحدى أهم الشركات الكبرى الفرنسية إلى مجموعة “جينيرال إلكتريك” “General Electric ” الأمريكية.
الأمن القومي الصناعي والاقتصادي أصبح محور السياسات الاقتصادية السيادية في العالم بعد جائحة كوفيد- 19
منذ الأزمة المالية التي انطلقت من الولايات المتحدة الأمريكية سنة 2008 والتي كادت تؤدي بانهيار المنظومة الاقتصادية العالمية إثر انهيار بنك “ليمان براذرز” العملاق. مما دفع بالحكومة الأمريكية (معبد الليبرالية) للتدخل بأموال الشعب الأمريكي لإنقاذ هذا البنك الخاص؟
غير أن تداعيات هذه الازمة دفعت إلى بروز حركات سياسية من أجل الرجوع إلى حماية الأسواق الداخلية للحفاظ على التوازنات المالية الخارجية وعلى مواطن الشغل. وقد تجسد بعد وصول “رونالد ترامب” إلى الرئاسة الأمريكية في نوفمبر 2016 حيث بدأ حكمه باتخاذ إجراءات حمائية صارمة )قطاع الحديد والصلب بما فيه صناعة السيارات الذي منحه عدة سنوات من الحماية ليسترجع قدرته التنافسية) ضد من اعتبرهم أعدائه )الصين) وضد أصدقائه أيضا )البلدان الأوروبية ).
هذا التحول تعمق إثر اندلاع جائحة كوفيد-19 بداية سنة 2020 حيث تجلت بالكاشف خطورة العولمة والمناولة الخارجية على الأمن الغذائي والصحي للشعوب. وكذلك على الأمن الاقتصادي المنتج وخاصة منه الصناعي داخل البلدان المتطورة. حيث تعطلت سلسلة الإنتاج وأصبحت تهدد صناعة السيارات في ألمانيا وفي فرنسا وكذلك قطاع صناعة الأدوية حيث تبين أن “المكونات النشطة” وهي الأساسية أصبحت تُستورد بنسبة %80 من الصين في فرنسا الأمر الذي يهدد السلامة الصحية الوطنية. وقد سارعت هذه البلدان باتخاذ تشريعات سريعة وفعالة لإعادة تركيز المؤسسات الصناعية الوطنية داخل بلدانها عبر تشجيعات مالية وجبائية هامة.
اندلاع الحرب الأطلسية-الروسية أعلنت نهاية العولمة بمفهومها الغربي الأحادي
وقد تداولت الاحداث بسرعة إثر اندلاع الحرب الأطلسية-الروسية في أوكرانيا وتصاعد حدة المواجهة الأمريكية الصينية التي أعلنت نهاية العولمة بمفهومها الغربي الأحادي الذي أضر بالدول النامية مثل تونس.
في نفس الوقت سارعت البلدان الغربية إلى تعزيز أساليب الدفاع عن امنها الاقتصادي. من ذلك قامت السلطات” الإشراف والتدخل لحماية الأصول الاستراتيجية للاقتصاد الفرنسي من التهديدات الخارجية”.
” Le Service de l’information stratégique et de la sécurité économiques –Sisse “
من هذا المنطلق الهام حول التغيرات الكبرى في العالم من واجبنا أن نتساءل أين الخطة الاستراتيجية للدفاع عن الأمن الاقتصادي لتونس ولشعبها؟
في تونس وسائل إعلام خاصة ومؤسسات سيادية تحولت إلى أبواق دعاية لصالح الاتحاد الأوروبي
في الوقت الذي تسعى فيه البلدان الغربية لحماية الأصول الاستراتيجية لاقتصادها من التهديدات الخارجية وفي غياب تام لخطة استراتيجية للدفاع عن الأمن الاقتصادي الوطني، تحولت وسائل إعلام خاصة ومؤسسات سيادية إلى أبواق دعاية لصالح الاتحاد الأوروبي وتمعن في ذلك بكل استخفاف بالشعب التونسي وفي خرق للقوانين المتعلقة بحماية الامن القومي الوطني.
حول حيثيات هذا التصرف إعلاميا نُذكّر أننا نشرنا مقالا على صفحات أسبوعية الشارع المغاربي عدد 330 بتاريخ 11 أكتوبر 2022 تحت عنوان ”الرد على تدخل السفير الفرنسي عبر إذاعة خاصة )إذاعة موزاييك ف م ( حول التجارة الخارجية: كفى مغالطات وتدليسا مفضوحا للمؤشرات الاقتصادية.
وقد تعرضنا في هذا المقال لما صدر عن السفير الفرنسي وبتهليل من منشط الإذاعة بأن تونس لديها فائضا تجاريا في مبادلاتها التجارية مع فرنسا وذلك باحتساب مبادلات الشركات غير المقيمة والمصدرة كليا. وهو احتساب مخالف للطريقة المعتمدة دوليا منذ سنة 2010. وهو إذا تصريح عار عن الصحة يفنده قانون الصرف للبنك المركزي الذي ينص على أن “الشركات غير المقيمة والمصدرة كليا غير ملزمة باسترجاع مداخيل التصدير” خلافا لما يجري به العمل بالنسبة للشركات المقيمة”. كما يفنده المعهد الفرنسي للإحصائيات والدراسات الاقتصادية (INSEE) بصريح النص.
غير أن الإذاعة المعنية لم ترد على ما جاء من قدح في هذه المغالطات بالدليل والحجة والتزمت بالصمت مثلها مثل ضيفها؟
وحول نفس الموضوع وبالرجوع إلى نص البيان الذي اصدره البرلمان الاوروبي يوم 16 مارس 2023 حول الوضع في تونس وبقطع النظر عن الجانب السياسي منه، يتبين أن البيان اقتصر في صدارته على “مطالبة السلطات التونسية بإطلاق السراح الفوري لنورالدين بوتار مدير عام أكبر إذاعة خاصة في تونس …” بدون ذكر غيره. ونحن نتمنى له ولغيره ذلك.
والغريب أنه في اليوم الموالي بادرت إذاعة “موزاييك ف م ” في حصة ميدي شو” بتقديم تعليق على نتائج المبادلات التجارية للشهرين الأوليين لسنة) 2023 (الذي صدر منذ تاريخ 10 مارس( على لسان منشط الحصة زياد كريشان مهللا بتحقيق فائضا تجاريا لفائدة تونس. في الوقت الذي تفاقم فيه العجز إلى حدود 5,47 مليار دينار نصفه تقريبا متأت مع بلدان الاتحاد الأوروبي. وهو موضوع يعلم منشط الحصة أنه ثابت بثبوت وجود الرقم الحقيقي في إحصائيات المعهد الوطني للإحصاء ويعتمد تجاهله والحال أنه مطالب بكشف الحقائق بمقتضى مهنته ودوره الإعلامي وهنا تكمن مسؤوليته ومسؤولية الإذاعة في هذا الموضوع.
كذلك الشأن بالنسبة للبنك المركزي الذي يمعن في التستر على حقيقة نتائج التجارة الخارجية وهي حقيقة كارثية دفعت البلاد إلى مديونية خارجية فادحة نتيجة التوريد الفوضوي. وقانون الصرف صريح حول الموضوع. وكذلك تقارير البنك المركزي تؤكد منذ سنة 2016 أن” المبادلات التجارية في النظام غير المقيم لا تسترجع مداخيلها إلى البلاد التونسية بحكم أن ملكيتها غير مقيمة وأنها بذلك لا تعزز رصيد البلاد من العملة الأجنبية”. وقد طالب تقرير البنك حول التجارة لسنة 2016 بضرورة تغيير المنوال التنموي والاعتماد على تشجيع المؤسسات المقيمة التي تعزز رصيد البلاد من العملة الأجنبية علاوة على تعزز خلق الثروة والقيمة المضافة”. لا ندري هل اطلع عليه محافظ البنك المركزي الحالي؟
خطير ما يجري من مغالطات ومن تستر حول المؤشرات الاقتصادية والتي أدت إلى تعطيل الاقتصاد الوطني وإلى دفع البلاد نحو إفلاس غير معلن وإلى ابتزاز البلاد سياسيا واقتصاديا. أين دور مصالح الاستعلامات الوطنية للمساهمة في الدفاع على المصالح العليا للوطن وفي استراتيجية الأمن الوطني وذلك عبر كشف كل من يتورط في التستر وفي الدعاية لصالح دول اجنبية على حساب مصالح الوطن العليا؟
* نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 21 مارس 2023