الشارع المغاربي: لا شك وأن البشر يختلفون في نواحي كثيرة.. تختلف أجناسهم, تتعدد أوطانهم, تتلون بشراتهم , تتنوع لغاتهم.. ينتمون الى ديانات مختلفة, يعتزون بهويات متباعدة, يحتكمون الى ثقافات متعددة.. ولكن البشر على اختلافهم يجدون أنفسهم مجتمعين وكأن لا شيئ يفرقهم.. يجمعهم الجنس البشري.. فاذا بالإنسان هو الانسان أينما كان, رغم تعدد الأوطان واللغات والأديان.. له نفس التركيبة العضوية.. نفس الأداء الفيزيولوجي.. تحكمه نفس الفطرة.. فطرة بقدر ما تبدو في بعض الأحيان مركبة ومعقدة, بقدر ماهي بسيطة يسيرة تدعوه دائما الى الالتقاء مع بني جنسه من البشر على اختلاف أوطانهم ولغاتهم وأديانهم.. لأن الانسان ككل الكائنات محتاج لبقية الكائنات من بني جنسه حتى يتمكن من الاستمرار, والدفاع عن نفسه, وتطوير ذاته, واثبات تفوقه على بقية المخلوقات.. وانك لتجد في تاريخ البشرية جمعاء منذ القدم من الأحداث والحروب والسير ما يؤكد أن الانسان لم يكتف في حقبة من الحقبات بأن يكون مدنيا بطبعه فحسب, ولكنه سعى دائما, الى أن يكون كونيا, لا يهدأ له بال حتى يجتمع بغيره من البشر من الأمم المختلفة, ولو كان ذلك بواسطة الحروب والخطوب, قصد إرساء قوانين وتقاليد بشرية مشتركة تحقق له العيش والتعايش.. كما أن لنا اليوم من التاريخ ما يكفي لأن نتبين أن الانسان منذ القدم, بقدر ما سعى الى ابراز خصوصياته التي هي مصدر تميزه وفخره, بقدر ما بحث عن الالتقاء ببني جنسه في مشارق الأرض ومغاربها بحثا عن قواسم فكرية مشتركة, تعزز القواسم الجسدية والفطرية التي لا تكفي وحدها لاشباع رغبته في الارتقاء الفعلي الى مرتبة الانسان, بكل المقاييس التي تميزه عن عالم الحيوان.. ثم ان تخليص الإنسانية مما يصيبها من حين لاخر من مشاكل وأزمات, لا تفرق بين أمة وأخرى, ولا بين شعب واخر, يستوجب انخراط كل الشعوب على اختلاف مشاربها في مسار انساني, بقدر ما يحافظ على خصوصيات كل أمة, بقدر ما يجمع كل الأمم حول فكر موحد.. بحيث نجد أن الفكر الإنساني المشترك كان يمثل منذ القدم هاجس الانسان عبر العصور, يخفيه تارة ويعلنه تارة أخرى.. ولا يكاد يخفيه حتى يبرز رجل نابغ في أمة نابهة يحمل لواء الفكر الإنساني, ليؤسس الوجه المتحد منه حسب ما تقتضيه ظروف البشرية الراهنة في ذلك العصر المحيط به, عله يهدي الانسان في كل أرجاء المعمورة السعادة التي ينشدها, ويبعد عنه كل أسباب الفرقة والتناحر مع بني جنسه من البشر..
قادة الفكر الإنساني…
هؤلاء الرجال الذين تعاقبوا على البشرية ليوحدوا العقل الإنساني حول توجه مشترك من التفكير والتصور والحكم, أوردهم تباعا عميد الأدب العربي ″طه حسين″ في كتابه ″قادة الفكر″.. كانوا قادة للفكر الإنساني خلال الحقبات المتتالية التي مرت على الانسان منذ العصر القديم.. قادوا الفكر الإنساني على مر العصور فشكلوا بذلك تاريخ الإنسانية حقبة تلو أخرى, بحيث نعيش اليوم على وقع فلسفاتهم وأفكارهم ونماذجهم التي أرادوا من خلالها أن يخلصوا الى الانسان حيثما كان.. وكذلك فنحن لو استثنينا إضافة أي منهم لأصبح حالنا مغايرا لما نحن عليه اليوم من شؤون وظروف.. تناول حينئذ ″طه حسين″ العديد من الرجال النابغين الذين استجابوا لشغف البشرية عبر العصور , فحملوا لواء الفكر الإنساني من أجل تثبيت الحضارة الإنسانية المشتركة .. تناولهم بالوصف والتحليل والتمحيص.. وهم في ذلك أصحاب استحقاق لا يمكن الطعن فيه لما تجشموه من خطير العناء والمثابرة من أجل جعل الحضارة الإنسانية ارثا مشتركا لكل الشعوب.. ولكني أعتقد في نفس الوقت أن عميد الأدب العربي .. رحمه الله وسامحه.. كان قد سها عن البعض من أولئك الرجال الذين أخلصوا للإنسانية من خلال ما اهتدوا اليه من الأوجه المتحدة للعقل الإنساني .. فأنتجوا في خضم العصور التي مروا بها فكرا إنسانيا جامعا ولامعا.. ففي اعتقادي أننا لما نتناول موضوع قيادة الفكر الإنساني عبر العصور.
فكان حنبعل
فانه لا يمكن أن نمر مباشرة من الاسكندر” إلى “يوليوس قيصر ” .. فالزمن الفاصل بين الرجلين يتجاوز القرنين، في حين أن الزمن كان متصلا لما انتقلت قيادة الفكر الإنساني على أساس الحياة العقلية اليونانية القوية من سقراط” إلى “افلاطون ومنه إلى “أرسطو” ثم إلى “الاسكندر”.. فهل كان بامكان الفلسفة اليونانية أن تستمر وتزهر في غياب من يتعهدها على امتداد قرنين ونيف من الزمن؟ .. ثم لما تعلم وأن “الاسكندر” قد نجح في نشر الفلسفة اليونانية في الشرق ولكن الأقدار حالت دونه ونشرها في الغرب، فهل كان بامكان ” يوليوس قيصر” أن يجمع -لاحقا- الشرق والغرب حول الحياة العقلية اليونانية القوية لو لم تتغلغل هذه الفلسفة اليونانية غربا كما تغلغلت شرقا خلال النصف الثاني من القرن الرابع ق.م؟ .. بحيث كانت الفلسفة اليونانية منذ نهايات القرن الرابع ق.م في حاجة ملحة إلى من يتعهدها غربا كما أخلص إليها “الاسكندر” شرقا.. أي أن المدرسة العقلية اليونانية القوية، بسبب ضعف أمر اليونان وتفرق جهودها بفعل الخصومات الحزبية داخل المدن والحروب السياسية بين المدن، كانت تبحث –غربا- عن رجل يتحمل مسؤوليتها المعنوية مثلما وجدت في “الاسكندر” –شرقا- خير من يتعهدها بالوفاء والتصدير.. وكان “حنبعل ” هو ذلك الرجل الذي أهدته الحضارة البونية القوية في قرطاج إلى الفلسفة اليونانية غربا مثلما أهدتها مقدونيا “الاسكندر” شرقا.. وأغلب الظن ان الأمة النابهة هي التي تهدي الرجل النابغ لبقية الشعوب والأمصار.. ولا غرابة في أن تصبح قرطاج خلال القرن الثالث ق.م. مركزا لإشعاع الحياة العقلية اليونانية القوية في الغرب على شاكلة مقدونيا خلال القرن الرابع ق.م في الشرق.. فلقد أورد المؤرخ التونسي ″الأستاذ محمد حسين فنطر″ في كتابه ″التربية والثقافة في قرطاج ″, أن قرطاج عرفت الجمهورية منذ نهاية القرن التاسع ق.م ..وقد نوه “ارسطو”, بدستور قرطاج ووصف دواليبه ونظمه, فمن ميزاته أنه يشتمل على سلطات تشريعية وأخرى تنفيذية ودوائر قضائية.. وبذلك يكون “المعلم الأول” قد شهد بعظمة قرطاج السياسية، وهو الذي أورد في كتابه ″السياسة″– حسب ما جاء على لسان ″الأستاذ الصادق شعبان″ في كتابه ″عودة حنبعل″- ما يلي ..” ونجد لدى القرطاجيين عددا أكبر من المؤسسات الممتازة, ومما يقوم دليلا واضحا على حكمة تنظيماتهم أنها حافظت دوما على الصيغة نفسها، ولم نر أبدا عصيانا ولا استبدادا..”..
وظهر ماجون
ولم تكن عظمة قرطاج العلمية أقل شأنا من نهضتها السياسية.. ولك على ذلك في موسوعة “ماجون” الزراعية خير مثال، حيث تضمنت تلك الموسوعة 28 سفرا تناولت الضيعة وتربية الماشية ومعالجتها، وانتشرت تلك الموسوعة في أقطار البحر المتوسط عن طريق ترجمات إغريقية ولاتينية.. ومن الطبيعي أن تحدث النهضة السياسية والعلمية التي عرفتها قرطاج ازدهار اقتصادها ورخاء شعبها.. فلقد استند الاقتصاد القرطاجي إلى قطاعات ثلاثة، الفلاحة والصناعة والتجارة.. ولقد اعتنى القرطاجيون بمختلف هذه الميادين، فوفروا الظروف العلمية والتقنية والقانونية لازدهارها وإشعاعها وحمايتها، حتى عم الرخاء في قرطاج وربت ثروتها .. نفقه حينئذ أن قرطاج قد عرفت التقدم السياسي والعلمي والاقتصادي قرونا قبل أن تظهر بوادر الحياة العقلية القوية في اليونان.. ففي الزمن الذي كانت فيه اليونان تعيش البداوة، أكلا وشربا , أمنا ودعة، كان المجتمع القرطاجي مجتمعا حضريا .. مجتمع حضري بمعنى – حسب الأستاذ محمد حسين فنطر- أنه يعيش في محيط تفرزه المدينة ومؤطر بقوانين يساهم المواطن في بعثها وصوغها ويشعر بضرورة التعامل معها على أساس المصالح الفردية والجماعية.. وفي الزمن الذي كان اليونانيون يعيشون فيه على وقع الخصومات الحزبية داخل المدن والحروب السياسية بين المدن بسبب تعلقهم بالمصلحة الخاصة، كان المواطنون في قرطاج يتمتعون بالحرية وبحقوق المواطنة والإسهام في بناء المجتمع والدولة، كما كان لهم حق الاضطلاع بالمهام السياسية والإدارية والدينية.. بحيث لما طلع القرن الثالث ق.م على الإنسانية, كان المجتمع القرطاجي مجتمعا حضريا متقدما منظما، يسود الوئام بين مختلف فئاته.. وكانت قرطاج سيدة البحر بموقعها المحوري في مجال التبادل التجاري في حوض المتوسط،, حيث كانت لها مصارف تجارية بصقلية، وفي سردينيا، وفي سواحل أسبانيا وشمال إفريقيا, كما كانت قرطاج تمتلك أسطولا بحريا متطورا لتأمين سلامة الطرق البحرية التي كانت تسير فيها نحو مناجم الذهب في خليج غينيا جنوبا ومناجم القصدير عند السواحل البريطانية شمالا .. كانت قرطاج بحلول القرن الثالث ق.م عظيمة بحضارتها في الداخل وبإشعاعها في الخارج .. ولعلك تعجب أكثر بعظمة قرطاج حين تعلم أن نهضتها الحضارية الضخمة ومكانتها المتقدمة في المتوسط في تلك الحقبة التاريخية لم يمنعا المجتمع القرطاجي من التحلي بقيم التسامح وقبول الآخر.. فلقد كانت قرطاج مفتوحة للأجانب, حيث كانت فيها جاليات أجنبية من إغريق ومصريين وأترسكيين وايباريين وأجانب آخرين من سكان الأقطار القريبة والبعيدة والجزر.. وكان الاغريق- حسب الأستاذ الصادق شعبان- من أهم الجاليات, وكانت لغاتهم وآدابهم وعلومهم وفلسفتهم تدرس في قرطاج من قبل أساتذة اغريق.. وكالت الجالية الإغريقية قد تحصلت على حق إقامة معبد مخصوص, كما تبنى القرطاجيون الهة مصريين .. وكان القرطاجيون يتقنون عديد اللغات .. وانك لما تنظر إلى شخصية “حنبعل” فستجدها نتاجا لعظمة الحضارة القرطاجية من ناحية, ولتفتح قرطاج على بقية الحضارات الإنسانية المتاخمة من ناحية أخرى.. وخاصة منها الحضارة اليونانية متجسمة في مدرستها العقلية القوية.. بحيث لما كان القرن الثالث قبل الميلاد.. كانت قرطاج أمة نابهة أنجبت رجلا نابغا.. حمل لواء الفكر الإنساني في عصره.. فوجب التعرض لشخص ″حنبعل″- لاحقا- كواحد من قادة الفكر الإنساني..
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 29 اوت 2023