الشارع المغاربي-لطفي النجار: ليس “الفساد” أن يولّي المفسدون وجوههم وأياديهم قِبل المال العام وجيوب الفقراء فحسب، بل الفساد الأشمل هو العبث بتاريخ أمّة وإفساد عقول أبنائها وفسخ ذاكرتها وترذيل صور أبطالها ومقاوميها والحطّ من رمزية جيوشها عبر “فنون” تدّعي ما لا تملك وتبتغي في ذلك ما سلف من حطّ وترذيل وإفساد وعبث، وما خلف من استزادة في الربح المادي ولا شيء غيره.
“قلب الذيب” محاولة بائسة لتشويه التاريخ
ما عُرض من “شْغُل” هزيل (والكلمة للفاضل الجزيري) على “الوطنية 1 ” سواء “قلب الذيب” أو “27” يدخل طوعا تحت طائلة ما ذكرنا من توطئة حول توسّع مفهوم الفساد الذي يسبقه بالضرورة “الإفساد” العقلي والتخريب القيمي، وهو ما ينطبق على “العملين” المذكورين.
لنبدأ ب”قلب الذيب” الذي تكلّف قرابة المليارين من جيوبنا ومن الأداءات والمعاليم التي ندفعها نقدا لمؤسّسة التلفزة الوطنية دون وجه حقّ منذ عشريات ( وهذا أمر يحتاج إلى نظر وتدقيق قانوني سنعود له لاحقا). اشترته إدارة التلفزة إذن في سياق ملتبس تميّز باشتباك قانوني وصل مداه إلى القضاء.
لا ندري حقّا هل عاينت “إدارة” التلفزة ما اقتنت من “بضاعة” وتمحّصت في تاريخ “صلوحيتها” قبل عرضها في “الأسواق”، أمّا أنّ العجلة هي التي حكمت “الصفقة” ليرمى بـ”البضاعة” في وجوهنا دون تيقّظ أو مراعاة لقواعد “الصحة” القيمية والأخلاقية والعلمية.
“قلب الذيب” وفي كلمة واحدة “لعب ذرّي”، أو كما نقول في حاراتنا “ذرّي تتراقص” لم يرتق حتى إلى علامة “شْغُل” ضعيف، وهذا منشأ خطورته على الذائقة والمخيال والذاكرة. فلعب الأطفال يصير خطيرا ومنذرا بسوء المآل عندما يكون مدار اللّعب أو لنقل موضوعه نفائس البيت وأشيائه الثمينة خاصّة منها ألبوم الصور القديمة والعقود والرسائل، أي صندوق ذكريات العائلة، مكمن “هويّتها” وأصولها وجذورها، فهو مخيالها وذاكرتها.
عبث “أصحاب” “قلب الذيب” بموضوع الحركة الوطنية وبرموزها وبأبطالها من الزعماء والقيادات السياسية والمناضلين والمقاومين .وموضوع الحركة الوطنية هو من جنس المواضبع “الثمينة” التي تسكن مخيالنا الوطني في ركن ركين منه أو لنقل تقبع في زاوية عزيزة بصندوقنا الجماعي الذي يشكّل وحدتنا وقاعدتنا الرمزية التي تشدّنا شدّا.
اشتغل أصحاب “قلب الذيب” دون مدقّق تاريخي ودون مراجعة يقوم بها المختصّون في تلك الحقبة من تاريخنا. والتدقيق التاريخي في الأعمال التي تتصدى للدراما التاريخية ليس مجرّد تمحيص في الأحداث والسياقات والشخصيات. التدقيق يكون أساسا في “المناظر” ومكوّناتها البصرية والسمعية، أي في الملابس والمأكولات واللّهجات والطبائع والسلوكات وطرق الاحتفاء عند الأفراح أو في الأتراح. ثم تأتي الأحداث والشخوص ومدى مطابقتها لما حصل في التاريخ. و”قلب الذيب” “هزّ ونفض” كما شاء له وطاب في ما يتعلّق بالصورة وبمحتويات “المناظر” التي ذكرناها، أي بلغة العلم بالجانب الأنثروبولوجي والثقافي للمرحلة المنتقاة: سلوكات لاحقة لم يشهدها تونسيو 48 من قبيل الاختلاط بين الرجال والنساء في المقاهي، وطرق المعاكسة (“التبزنيس”)، ومفردات الحوار بين الشخصيات التي تحيلك إلى “لهجتنا” المعاصرة التي تتطوّر كما نعلم مع كل جيل ( كلّ جيل يطبع اللّهجة ببصمته ليضيف عليها مقاطع وكلمات تدلّ عليه كجيل متميّز عن سابقه). الملابس أيضا لم تخضع إلى تدقيق تاريخي، فالكدرون مثلا لم يكن مشاعا في تونس الغرب في نهايات أربعينات القرن الماضي والفستان أو “البنوار” هو لباس نساء الحاضرة في أوساط العائلات “البَلْدِيّة” حينها، أمّا بقيّة النساء فكان لباسهن متراوحا بين “الملية” في الأرياف و”الفُوطة” و”الملحفة” في الجزر كجِربة وقرقنة.
“شْغُل” “قلب الذيب” مهزوز و”رعواني” وصل إلى حدّ عرض أنواع سيّارات وأسلحة لم تكن موجودة حينها أصلا وذكر أحداث ما أنزل الله بها من سلطان كالحديث عن استيلاء المعمّرين الفرنسيين على الأراضي الفلاحية سنة 1948 وهو حدث مجانب للحقيقة، إذ تمّ الاستيلاء على الأراضي من قِبل الفرنسيين وانتهى الأمر منذ العشرية الأولى من انتصاب المستعمر أي خلال السنوات الأولى بعد 1881.
اعتدى “قلب الذيب” على التاريخ وشوّهه تشويها مريعا قُصِد منه إعادة ترتيب ذاكرتنا الوطنية حتى يختلط الأمر على الأجيال الراهنة فيحجّم بعض الزعماء كبورقيبة مثلا ليصبح بعض البايات كمحمد لمين باي رمزا مقاوما للاستعمار ورأسا من رؤوس الحركة الوطنية !!. لمين باي صار مناضلا مغاربيا يعين الثورة الجزائرية بالسّلاح ( التي لم تبدأ أصلا إلا سنة 1954 أي بعد 6 سنوات من زمن أحداث المسلسل). أمّا الثورة المسلّحة التونسية فقد انطلقت حسب “قلب الذيب” سنة وفاة المنصف باي (1948) ! وفي ذلك حسب تقديرنا محاولة بائسة لحجب دور بورقيبة ورفاقه الذي كان إيقافهم سببا مباشرا في انطلاق الثورة المسلّحة يوم 18 جانفي 1952 ، والمقاومون أو “الفلاقة” لم يظهروا إلّا حينها، كما لم يتمّ مدّ الجزائريين بالسّلاح إلّا بداية من سنة 54 ثمّ تمّ إرسال ساسي لسود ولزهر الشرايطي وغيرهم من طرف الحزب الدستوري الجديد إلى الجزائر لمساعدة الثورة الجزائرية.
هو خلط متعمّد إذن، ولا نعتقد البتّة أنّه ناتج عن جهل فحسب وانما عن ثمرة فاسدة من الحقد على جزء من تاريخنا وعلى رموزنا الوطنية. “قلب الذيب” هو مرآة عاكسة للانحطاط القيمي والفنّي والضحالة الفكرية الراهنة، هو ترديد ببّغائي لشعارات “ثورية” معروفة تعمل جاهدة اليوم على طمس حقائق التاريخ ,وإعادة بناء سردية “جديدة” وفق منظور إيديولوجي حاقد على “أهل البيت” أي التونسيين الأحرار…حاقد على تاريخهم وهويّتهم ورموزهم وذاكرتهم وماضيهم…يريدون فسخه ومحوه…كل ذلك يحصل بأموالنا وفي تلفزتنا “الوطنية” جدا !
“27”..الإرهاب فزّاعة !
“27” عمل “لاهو لاهو” ! هو “لاهو” وثائقي و”لاهو” درامي تلفزي، هو منزلة بين منزلتين. جنس فني هجين مفكّك الأطراف دون حبكة أو “خرافة” متعارف عليها، أي دون سرد واضح الملامح كبسط الشخصيات وعرض تركيبتها الدرامية بإحكام مع طرح ذكي للتعقيدات أو العقد الثانوية والرئيسية…مشاهد متناثرة وأحداث مشتّتة مع إخراج سيء وسيناريو رديء وحوارات ساذجة بين شخوص “العمل”….هذا “الكلّو” يمكن أن نتسامح معه باعتبار أنّ العمل الفنّي يمكن ألّا يصيب ولكن أن يتمّ “الحطّ” من رمزية المؤسّسة العسكرية وتقديمها في بعض الحلقات على أنّها تشتغل دون تخطيط أو تنظيم معدّ مسبقا (الحلقة 5 : يقوم الجيش بعملية إنزال للقبض على مهرّبين دون التأكّد المسبق من نجاح العملية). هذا إضافة إلى تصوير قاعة العمليات التي تضعف فيها شبكة الانترنيت و”يطيح الريزو” بحضور جنرالات وقيادات عسكرية رفيعة !.
بالتوازي مع هذا “التشليك” لصورة الجيش وتقديمه في صورة المؤسّسة الهاوية التي تعمل دون برنامج دقيق وواضح ومسطّر يتمّ التعاطي مع ظاهرة الإرهاب كفزّاعة وصنيعة استخباراتية خارجية يموّلها في الداخل رجال أعمال فاسدون وبقايا النظام القديم…يا الله على هذا التزامن العجيب بين “تشليك” الجيش وجعل الإرهاب ضحيّة مؤامرة دولية على الإسلام والمسلمين.
لا يستحق هذا العمل الإفاضة في التحليل والتفكيك، فـ”من مرقتو باين عشاه” وهو ليس سوى إخراج سيء لشعارات موغلة في الأدلجة و”الثورجية” المتهافتة تموج بها ساحات الفضاء العام وتفيض بها صفحات معروفة في وسائل التواصل الافتراضي.
في كلمات مختصرة، “قلب الذيب” ذهب إلى الذاكرة ليشوّهها و”27″ اتّجه إلى الراهن ليجعل الإرهاب فزّاعة…ليلتقيا في النهاية في مصبّ واحد: حرب “درامية” وإرهاب رمزي عنيف على التاريخ والحاضر…علينا جميعا وبأموالنا…يا الله متى ينتهي هذا “الدُمَّارْ” !!!