الشارع المغاربي: كثر الجدل مؤخرا حول طرح مسألة التعامل مع بلدان منظمة “البريكس” من عدمه في إطار احتدام حملة الضغط الأمريكي-الأوروبي على السلطة التونسية لإرغامها للرضوخ لشروط صندوق النقد الدولي التي تبدو مُذلة ومجحفة وعبثية كما يتبين بوضوح من خلال المبلغ الزهيد الذي يُعرض( 1.9 مليار دولار أمريكي( ومن خلال طريقة صرفه على مدى أربع سنوات تنقسم على ثمانية أقساط سداسية الدفع. فهي بذلك وبقراءة مُعمّقة تحولت في حقيقة الأمر إلى عملية كسر عظام لتكون رادعة لبقية البلدان المهيمن عليها )الأردن مصر، لبنان وغيرها( أكثر منها عملية إنقاذ مالي للوضع الاقتصادي التونسي.
قبل التطرق إلى التجربة الرائدة التي قامت بين تونس والجزائر وليبيا بقرار سيادي في التسعينات في إطار “بلدان الاتحاد المغاربي” سعيا لتسهيل وتشجيع المبادلات التجارية فيما بينها وتحفيف وطأة الوضع الأمني في الجزائر والحظر الظالم على ليبيا وذلك بالتعامل بالعملات المحلية (الدينار التونسي أو الجزائري أو الليبي( عبر المُقاصّة بين البنوك المركزية الثلاثة، نلاحظ في البداية أن موضوع التعامل مع منظمة “البريكس” يحيلنا تاريخيا ومباشرة إلى بروز “حركة عدم الانحياز” التي تأسست خلال الفترة من 18-24 أفريل سنة 1955 في مؤتمر مدينة باندونغ الإندونيسية ” الأفرو-آسيوي” باعتباره الحدث السابق مباشرة على قيام حركة عدم الانحياز.
وللتذكير فإنه منذ بداية انهيار النظام الاستعماري بعد الحرب العالمية الثانية وفي ذروة الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي )الذي يترأس حلف فرصوفيا) والولايات المتحدة الأمريكية ) التي تترأس حلف الناتو( تركزت جهود “حركة عدم الانحياز” منذ قيامها على ضرورة تعزيز موقف حيادي بين القطبين المهيمنين حتى تتمكن المنظمة من التسريع في عملية تصفية الاستعمار.
غير انه منذ انهيار الاتحاد السوفيتي سنة 1991 ونهاية الحرب الباردة استفردت الولايات المتحدة الأمريكية بوصفها القطب الأحادي لفرض هيمنتها المطلقة على العالم وخاصة على البلدان النامية في إطار سياسة العولمة وفرض نظام الرأس مالية النيوليبرالية عبر نشر اتفاقيات شراكة غير متكافئة تتعهد بفرضها عبر ما يسمى “ببرامج إصلاحات هيكلية ” تنفذها الأذرع المالية الدولية التي تسيطر عليها وفي مقدمتها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وكذلك عبر المنظمات الدولية التي أحدثت لذلك من بينها المنظمة العالمية للتجارة.
وفي غمرة هيمنتها الأحادية على العالم التجأت الولايات الامريكية وحليفها الاتحاد الأوروبي إلى الإفراط بطريقة تعسفية وظالمة في استعمال العقوبات الاقتصادية والسياسية والحظر والتسلط في المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة ومجلس الامن الدولي. كما لجأت إلى الاستعمال المفرط للقوة العسكرية أيضا سواء في لبنان أو في أفغانستان وفي العراق وفي سوريا وفي ليبيا بدون تفويض دولي. ناهيك عن بلدان أمريكا اللاتينية مثل كوبا وفنزويلا والشيلي والارجنتين والإكوادور وغيرها.
كل ذلك كان يجري أمام أعين بلدان كبيرة صاعدة مثل الصين وروسيا والهند والبرازيل وإيران وإفريقيا الجنوبية التي كان البعض منها تتسلط عليه هذه العقوبات (إيران على مدى أربعين سنة) والبعض الآخر يتوجس من قرب تسلط هذه الممارسات عليه. وهو ما يجري حاليا مع روسيا والصين وغيرها. لذلك كل هذه المعطيات الحقيقية تؤكد أن قيام منظمة “البريكس” هو أمر محمود في حد ذاته يدفع بقوة نحو ضرورة التخلص من هيمنة القطب الأحادي وإقرار عالم جديد مُتعدد الأقطاب للأمل في فرض أكبر نسبة ممكنة من العدل والسلم في العالم.
قرار سيادي مغاربي مكّن تونس والجزائر وليبيا من التعامل بالعملات المحلية في المبادلات التجارية فيما بينها لكسر الحصار عل ليبيا والجزائر في التسعينات
هذا الوضع الذي تفاقم منذ بداية الثمانينات عانت منه منطقتنا العربية في شمال إفريقيا بداية بالاعتداء الجوي على ليبيا في سنة 1986 وفرض الحظر الشامل عليها في بداية التسعينات شمل النقل الجوي مما عرض الشعب الليبي إلى معاناة كبيرة. كما انطلقت نيران فتنة في الجزائر منذ بداية التسعينات أدت إلى استمرار انتشار العمليات الإرهابية عطلت المسار الاقتصادي للبلاد. أمام هذا الوضع المأسوي سارع البلدان الثلاثة تحت غطاء منظمة “الاتحاد المغاربي” إلى إقرار التعامل بالعملات المحلية الثلاثة في المبادلات التجارية بين الدول الثلاثة بتدخل من البنوك المركزية التابعة لها عبر عملية مُقاصّة فيما بينها. حيث تمكن البلدان الثلاثة من التزود بالبضائع وبالخدمات )الصحية والسياحية خاصة بالنسبة للجزائر وليبيا( بدون اللجوء إلى استعمال العملات الأجنبية خاصة الدولار. مما سهل عمليات التوريد والتصدير.
هذا المثال الرائد استجاب إلى حاجة الدول الثلاثة إلى ما يسمى حاليا بعملية الاستغناء عن الدولار بوصفه عملة مفروضة بقوة السلطة السياسية والعسكرية للقطب الأمريكي-الغربي المهيمن على العالم منذ سنة 1971 وهو ما يسمى حاليا بعملية تحييد دور الدولار الأمريكي (رمز الهيمنة la( dédolarisation .
إعادة تفعيل التعامل المباشر بالعملات المحلية التونسية والجزائرية والليبية في المبادلات التجارية طريقة رائدة لتمكين تونس من تجاوز شح الرصيد من العملة الأجنبية للتزود بالمحروقات والطاقة
لقد طالبنا في عديد المناسبات إلى ضرورة تجديد هذه التجربة الرائدة في المبادلات التجارية بين البلدان العربية المغاربية الثلاثة وتوسيعها إلى عدة بلدان أخرى مثل موريتانيا ومصر وغيرها بالنظر إلى ما تتعرض له تونس من أزمة خانقة على مستوى رصيدها من العملة الأجنبية وفي مقدمتها الدولار الامريكي واليورو الاوروبي حتى تتمكن من سداد خدمة الدين الخارجي الذي يتصاعد باستمرار والذي يمثل قرابة %70 من الدين العمومي للبلاد وكذلك لتأمين التزود بالمحروقات والطاقة (الغاز الطبيعي) وبالمواد الضرورية الأخرى مثل المواد الغذائية والصحية.
لقد بين المعهد الوطني للإحصاء أن المبادلات التجارية للبضائع بين تونس والجزائر في سنة 2022 بالدينار التونسي إلى توريد بقيمة 4,9 مليار دينار وتصدير للجزائر بقيمة 1,0 مليار دينار أي عجز تجاري لتونس بقيمة 3,9 مليار دينار)نتيجة توريد الطاقة من الغاز الطبيعي بالأساس( . أما مع ليبيا فقد حققت المبادلات 2,5 مليار دينار تصدير لتونس و0,6 مليار دينار توريد من ليبيا أي فائض تجاري لتونس بقيمة 1,9 مليار دينار. بمعنى قيمة إجمالية للمبادلات في حدود 9 مليار دينار تونسي كان من الممكن تحقيقها بدون اللجوء إلى العملة الأجنبية وهي قابلة للتعزيز بقوة إذا قررت تونس توريد كل حاجياتها من المحروقات بالتناصف من ليبيا والجزائر خاصة أن جودة إنتاج البلدين عالية جدا.
لا شيء يمنع تنفيذ هذا التعامل لصالح البلدان الثلاثة لخفض وطأة اللجوء إلى العملة الأجنبية التي تستصدر سيادتنا الوطنية وتُرغم بلداننا إلى تنازلات مذلة. ما يمنع في الحقيقة وبكل اسف هو تغلغل نفوذ القطب الأحادي الأمريكي-الأوروبي ووكلائه المحليين في القرار الوطني الذي يتضح من خلال تراجع دور البنك المركزي في إعادة إحياء تفعيل هذه الاتفاقيات المجدية؟
ولا شيء يمنع من الانخراط في أي تجمع واعد يعتمد ترشيد التوريد ويخفف ثقل الضغط الأمريكي-الأوروبي على تونس في إطار خطوة توحد الشعب التونسي وتقدم بديلا تنموي منتج واعد لخلق مواطن شغل لموطنينا وخلق الثروة والتنمية والرفاهة.
*نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 2 ماي 2023