الشارع المغاربي: لم تكن المظاهرات وأشكال المساندة التي يعبّر عنها التونسيّون لإخوانهم في غزّة إلا رجع الصّدى لعلاقات تاريخيّة نسجتها المحن والأيّام بين الشعبين، فتونس التي احتضنت المقاومة الفلسطينيّة أيام الشدّة والعسرة هي نفسها تونس التي أنجبت في القرن الماضي الشّيخ محمد الصّادق بسيّس الذي اشتهر باسم “الشّيخ الفلسطيني”، فهو شيخ لأنّه تخرّج في جامع الزيتونة حيث درس ودرّس وفلسطيني لأنّ فلسطين مثّلت القضيّة الأمّ التي ناضل في سبيلها منذ ثلاثينات القرن الماضي قبل أن تنشأ إسرائيل ذاتها، وبقي على العهد إلى أن وافته المنيّة فجأة يوم 12 أكتوبر 1978، ومن الجدير بالملاحظة أنّ نشاطه الميداني لمناصرة القضيّة الفلسطينيّة لم يمنعه من المساهمة في الحياة الفكريّة والثقافيّة في البلاد فالرجل متعدّد الاهتمامات إذ بجانب مقالاته السياسيّة ساهم بالكتابة والنشر في المجالات الأخرى كالنقد الأدبي والتراجم والدراسات الحضاريّة كما أثرى المكتبة التونسيّة بكتابين على غاية قصوى من الأهميّة الأوّل منهما ترجمته للشيخ محمد بن عثمان السنوسي والثاني تحقيقه للنازلة التونسيّة حيث وثّق السنوسي لأوّل تحرّك قام به التونسيّون بعد الحماية سنة 1885 ضدّ تعسّف البلديّة وخروج مظاهرة للتنديد بذلك اتّجهت إلى المرسى لتقديم مطالبها إلى الباي.
هو الشيخ محمد الصّادق بسيّس ولد في مدينة تونس في 2 نوفمبر 1914 وهو سليل عائلة ماجدة من بني خيار، درس في جامع الزّيتونة حيث قضّى حياته كاملة إلى أن تقاعد وهو يدرّس في كلية الشريعة وأصول الدين، ونحن هناك كنّا نشاهده يسير بتؤدة لإصابة قديمة في رجله متوجّها إلى قاعة المحاضرات، ولم نكن ندري أنّ الرجل علامة بارزة في الدفاع عن القضيّة الفلسطينيّة وفي مواجهة الدعاية الصهيونيّة في تونس، بعد أن انتقل الشيخ إلى عفو ربّه وبعد أن اتّسعت المعارف واغتنت التجربة عرفنا الدّور الهام الذي أدّاه في التعريف بمظلمة العصر وفي ربط الصّلة بين النخبتين التونسيّة والفلسطينيّة عبر المراسلات والإعانات ونشر الأخبار.
بعد إعلان ثورة 1936 في فلسطين تأسّست في تونس “جمعيّة إغاثة منكوبي فلسطين” التي ترأّسها الحكيم أحمد بن ميلاد صحبة أمين مالها الشيخ محمد الصّادق بسيّس وقد عملت الجمعيّة على جمع التبرّعات الماليّة وإرسالها إلى الحاج أمين الحسيني المفتي العام للقدس وأحد أبرز الشخصيّات الفلسطينيّة التي سيربط معها الشيخ علاقات وطيدة في قادم الأيّام، يتحدّث الشيخ الصّادق بسيّس عن تلك الفترة فيقول بأنّهم: ”يقومون بواجب الاحتجاج والإضراب والإغاثة الماديّة… بل إنّ تلك الحركة التي قُمنا بها لفلسطين كانت مظهرا من مظاهر شعور تونس بواجبها نحو إخوانها… وقد كنت سمعت من الزعيم الخطيب الشيخ الثعالبي رحمه الله يقول: إنّ تونس كانت تعدّ في الشرق ثالثة في إعانة فلسطين يعني بعد سوريا والعراق ولمّا هاجر الزعيم الكبير الحبيب بورقيبة إلى مصر لخدمة وطنه وفضح السياسة الاستعماريّة، اعتزّ بتلك السمعة الطيّبة التي تنعم بها بلاده في ربوع النيل وبَرَدَى والفرات”(1).
بعد الحرب العالمية الثانية وبعد أن اضطربت الأحوال في فلسطين وانتشر الإرهاب الصهيوني أُعيد تأسيس هذه الجمعيّة تحت عنوان آخر هو “لجنة الدفاع عن فلسطين العربيّة” برئاسة الشيخ الصّادق بسيّس وتدلّ التسمية الجديدة على أنّ المهمّة اتّسعت ولم تعد مجرّد الإغاثة وجمع التبرّعات بل انتقلت إلى أشكال أخرى أبرزها الدعاية والمحاضرات والنشر، وقد أدّى الشّيخ دورا أساسيّا في التعريف بالقضيّة الفلسطينيّة عبر مقالاته ودراساته المنشورة في أغلب الجرائد وهو ما لفت أنظار الإقامة العامّة الفرنسيّة التي استدعته، عن ذلك كتبت جريدة النهضة بتاريخ 18 ماي 1948 ما يلي: “بدعوة من كاهية الديوان المدني المقيم العام زار أمس السفارة العامة الشّيخ محمد الصّادق بسيّس رئيس لجنة الدفاع عن فلسطين وقد استغرقت المقابلة وقتا طويلا وكانت مجالا للخوض في القضيّة الفلسطينيّة وصداها في تونس، وتأييد الشعب التونسي لإخوانه تأييدا قويّا عظيما حتى نحرّر فلسطين من نازيّة الصهيونيّة الخاسرة، وقد بسط رئيس اللجنة أمام كاهية المدير النشاط الصهيوني بتونس وطالب بتعطيل صحف الصهيونيّة ومنع هجرة اليهود التونسيّين إلى فلسطين ومصادرة المال المجموع من يهود تونس ومنع ذلك… وأكّد للكاهية أنّ الشعب التونسي سيتمادى على إعانة فلسطين والدفاع عنها وبذلك يشارك إخوانه من الشعوب العربيّة في الجهاد ضدّ الصهيونيّة ما دامت جامعته الإسلاميّة ووحدته العربيّة”(2)، هذا النشاط الكثيف والمتّقد حماسا أوغر صدور الصهاينة والاستعماريّين في تونس فتقدّموا بقضيّة ضدّه إلى المحكمة الجناحيّة الفرنسيّة التي حكمت عليه بغرامة ماليّة، وقد كانت المحاكمة فرصة لتعبئة الرأي العام العربي ضدّ الصهيونيّة انتصارا للفلسطينيّين حيث نُشرت المقالات وصدرت البرقيّات لتأييد الشيخ والإشادة به في مختلف العواصم العربيّة كالجزائر ودمشق وغيرهما، تلك هي القضيّة التي نذر لها الشيخ حياته ولكنّه في نفس الوقت كان منغرسا في النضال من أجل تحرير بلاده من الاستعمار الفرنسي إذ سُجن إثر مشاركته في مظاهرة 9 أفريل.
بعد هزيمة 1976 كتب الشيخ في جريدة الصباح بتاريخ 27 جوان 1976 ما يمكن عدّه وصيّة منه للحكّام العرب: “وكم أحبّ لحكومات الشرق، اعتبارا من هذه النكبة الوجيعة التي أُصبنا بها، أن تعوِّد الجماهير استخدام العقل، في عصر لا يعرف إلا العقل قائدا، وكم أحبّ لوسائل إعلامها من إذاعة وتلفزة وسينما وصحافة أن تُكاشف الجماهير بحقائق الأشياء بالمقدار المعقول المفصّل على حدّ الإمكانيّات، والمقدّر لقوى العدوّ دون مبالغة أو تضليل أو تغيير، وأن لا تمسّ من أوتار العاطفة إلا الوتر المهذّب ما دامت العاطفة لازمة إنسانيّة ضروريّة وما دامت تثار بِرُشد ورويّة”(3)، إلا أنّ هذه الوصيّة لم يُعمل بها وأصبحت القضيّة الفلسطينيّة اليوم الوسيلة الفُضلى للتغطية على فشل الحكّام الذين يتعمّدون إثارة الجماهير بدفعها إلى الرّكض في الشوارع واستغلال عواطفها النبيلة تجاه قضيّة عادلة للتستّر على سوء صنيعهم الذي أدّى بنا إلى الهوان وبهم إلى السّير في ركاب الأعداء، في تأبينه لصديقيه الفلسطينيّين الشيخ أمين الحسيني ومحمد علي الطاهر صاحب جريدة الشورى قال الشيخ بسيّس في جريدة الصباح بتاريخ 6 سبتمبر سنة 1964: “إنّ القضيّة الفلسطينيّة لم يضرّها بشيء مثلما ضرّها اتخاذها منبرا للدعاية السياسيّة، وميدانا للمساومات وتكييف المواقف نحوها من إملاء المصالح لا المبادئ”(4)، رحم الله المناضل محمد الصّادق بسيّس الشيخ الفلسطيني وأجزل ثوابه بقدر ما ناصر قضايا الحقّ والعدل.
————–
الهوامش
1)”محمد الصادق بسيّس، حياته وآثاره” أبو زيان السّعدي، سلسلة ذاكرة وإبداع الصادرة عن وزارة الثقافة رقم13، تونس 2002، ص48.
2) م ن، ص52.
3)م ن، ص 55 و156.
4) م ن، ص 215.
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 24 اكتوبر 2023