الشارع المغاربي: لمْ يَعُدْ خَافيًا على المتابعين للساحة السياسية في تونس أنّ خطّة حركة النهضة، أو بالأحْرى رئيسها، تقوم على اسْتنباط كلّ الوسائل من أجل دفْع الرئيس قيس سعيّد إلى الرجوع إلى جَادّة الصَواب، صواب الغنوشي طبعا!
ولتحقيق هذا الغرض، لم تَأْلُ الحركة جُهْدًا في تَتْفِيهِه وتَصْغِيره كمَا شَيْطَنَتِه وتَسْوِيده دون أن ننْسى المُنَاكَفة التي يتقنها الغنوشي بغاية جَرِّ قيس سعيّد إلى الخطأ، والأهمّ من كلّ ذلك، مُواصلة الجُهْد المَحْمُوم خارجيًا من أجْل اسْتصْدار البيانات التي تشْجَبُ “انقلاب” قيس سعيّد، والدفْع حاليا إلى التدْويل، – مثلما لاحظْنا ذلك مُبكّرا-، وما يعني ذلك من إمكانية فقْدان تونس لِسِيَادتها نهائيا إن تَمَّ فعلا وبصفة كاملة، وهنا بالذات، سنجد لسان حال حركة النهضة أو رئيسها يقول: كلّ شيء يهُون من أجل اسْترداد الحكم والمبادرة، وإن لزم الأمر تحريرها، لكن هذه المرّة تحرير المبادرة يعني اسْتِدْرَار التدخّل الأُمَمي، مثلما نادت بذلك بعض الأصوات “النَاعِقَة” مؤخرا.
نعم! نحن نشهد حاليا أعْلى مرْحلة من مراحل الاسْتِقْوَاء بالأجنبي على بَنِي جِلْدَتِنَا، بلْ والتَلَذّذ بذلك، والمُجَاهَرة فالافْتِخار به، طَمَعًا في “لَعْنَةِ” التدْوِيل على تونس، وهنا مرّة أخرى قد نجد لسان حال الغنّوشي يقول: “صَبْراً آل النهضة صبْرًا ! سيُضطرّ قيس سعيّد إلى المجيء إلينا صَاغِرًا ويعْتذر عن كلّ ما بدر منه تِجَاهنا”.
إنّ هذا الوَهْمَ بالذات هو مُنْتهى الهروب إلى الأمام والإنْكار، إنْكار الحَقِيقة المَاثِلة للْعِيَان، وهي أنّ زمن حركة النهضة السياسي كَمَا مُسْتقبل رئيسها السياسي قد انتهى، وبصفة باتة وتامّة، ولن تَتَرَبّع ثانيةً على صُدُور التونسيين فتَجْثم عليْها حتى تَكْتُم أنْفاسهم، كما فعلت بهم ذلك طيلة عشْرِية الخَراب، وإِنْ جَرّبت ذلك، حتى وإن لم يعد قيس سعيّد في الحكم لِأَيِّ سببٍ كان، فستجد غالبية التونسيين في مواجهتها، إنْ عاجلاً أو آجِلاً.
وقد باتت الدعوات المتكرّرة لِمَلْيُونِيَاتٍ احْتجاجية مُبْتَذلة جدّا ومصْدرا للسخرية والتهكّم، وقد بانَ واضحا أنّ حركة النهضة عاجزة في كلّ مرّة عن اسْتنفار سوى بضْع مئات رغْم الديكور الذي تزيّنه من خلال ما سُمّي بـ:”مواطنون ضدّ الانقلاب” وعرْضهم المستمرّ في الواجهة، واجهة الشارع وواجهة الإعلام، وذلك، حتى يحْصل الانْطباع خاصّة للدوائر الغربية، بأنّ حركة النهضة ليست لِوَحْدها في مواجهة ما تسمّيه هي انقلابا، ونتوقّع قوْلها لاَحِقًا لهؤلاء المُزَيّنين: “شكر الله سعيكم”، وذلك في صورة ما إذا تمكّنت بِتَلاَبِيبِ السُلْطة من جديد، كما فعلت مع بعْضهم من قبل ولم يَتَعِظ، بالرغم من الكيْل الهائل من السباب والشتم تجاهه من صفحات معروف مصدرها.
فالأوْلى هنا، أن تُسْرع حركة النهضة بالمُراجعات الموْعودة، والتي ظلّت دون تجْسيم، وأن تَنْكَفئ على نفْسها وتنْزَوي اتقاءً لِمَا هو آتٍ، إِنْ احْتدم الوضع الاقتصادي والمالي، فـإِنْ حدث يوْمًا مَا “الانفجار” الذي تعوّل عليه حركة النهضة حاليا، وتحديدا رئيسها من خلال كلّ هذا الجهد المَحْموم، فإنّه سيكون على النهضة وعلى كلّ ما يُرْمز لها، وفي هذه اللحظة بالذات، لن تجد هذه الحركة قيْسًا سعيدًا آخر يحميها ممّا كان ينتظرها يوم 25 جويلية 2021، ومن الواضح، أنّها لم تستوعب أنّ كلّ تحرّك تقوم به حاليا، إنّما تذكّر به العديد من التونسيين بمسؤوليتها في كلّ ما حدث طيلة العشرية السابقة، وتذكّرهم خاصّة بمسؤوليتها حاليا أمام التردّي المُرِيعِ لأوْضاعهم المعيشية.
هذه هي الحقيقة العَارِية التي لم يقع اسْتيعابها بعد، ومهما كان التهافت على أعتاب الدوائر الغرْبية مُتَوَاتِرًا ومُلِحًّا، إلاّ أنّه لن يَحْجُب هذه الحقيقة! ولن يُمَوّه هذه الدوائر!
ممّا تقدّم، هل يعني أنّ الرئيس قيس سعيّد لم يرتكب أخطاء في نظرنا؟ بالتأكيد ارتكب وخاصّة منها في التقييم وبالأخصّ إمعانه في أن يبقى وحيدا، وعدم تقديره لمخاطر الانهيار الاقتصادي لا قدّر الله، ورغبته الشديدة على الأرجح في الذهاب إلى مشروعه المعروف بالبناء القاعدي، والأهمّ من كلّ ذلك هاجسه في اعتبار “التاريخ” بدأ آخر سنة 2010 بينما ما قبله هو ما قبل التاريخ أو الخراب مثلما تعتقد حركة النهضة! لذلك، لم يُولِ كبير اهتمام بالأعياد الوطنية، الأعياد الرسمية للدولة التونسية، والحال أنّه رمز هذه الدولة!
لكن، لنْ يصل انتقادنا هنا لقيس سعيّد إلى اعتبار ما قام به “انقلابا” كما تردّد حركة النهضة و”ببّغاواتها المُزرْكشة”، وذلك لسبب بسيط، ألا وهو، إنّ الاصْطفاف وراء هذه الكلمة يعني الاصْطفاف الموضوعي وراء حركة النهضة، وهذا خطّ أحمر بالنسبة إلينا! ونحن لنْ نمْنح صَكًّا مَجّانيا لِمَن اعْتَبَرْنَاهم سابقًا، وما زلنا، مُخَرِّبي الأوْطان!
في الأثناء، هناك توجّه آخر لحركة النهضة ومَاكِينَتها يدْفع نحو تلْبيس” تَرِكَتِها” الثقيلة، والتي أدّت إلى ما تعيشه تونس حاليا من شبه انهيار اقتصادي ومالي حقيقي إلى قيس سعيّد وذلك على إثر اتخاذه إجراءات 25 جويلية 2021 وما بعدها، وهنا منتهى اسْتبْلاه التونسيين الذين بات شعارهم: “لا يُلْدغ المؤمن من جُحْرٍ مرّتين”! وعليه، لن تُجْدِيَ نفْعًا الدغدغة المتكرّرة هذه الأيّام، والتي يقوم بها الغنّوشي من أجل تهْيِيجِ مشاعر التونسيين من قَبِيل الإكثار من سرْد الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة وأداء صلاة التراويح كلّ ليلة في مسجد، لأنّ التونسي اكتسب مناعةً من الوقوع في فخّ المتدثرين بِدِثَارِ الدين بغاية اصطياد بعض الساذجين واستعمالهم لاحقًا وَقُودًا لِمَحْرَقَةٍ يكْتَوُون بها كي يَنْتَفِع بها من أمرهم بذلك ومن وَالاَه.
لكن، الاسْتبلاه الأقصى الذي يرْقى إلى حدّ الوقاحة في نظرنا هو السَطْو المُمَنْهج على الأعْياد الوطنية والاسْتيلاء عليها وعلى رمْزيتها بَحْثًا عن “طُهُورِيَة” لنْ تأْتِيَ و”عُذْرِية” مفْقودة أصْلاً وشرْعية تاريخية مُنْعَدمة تمامًا.
وتَكْمُن الوَقَاحَة في أنّ هذه الحركة منْذ ما قبل أن تُبدّل جِلْدَها بهذه التسمية الحالية، وخاصّة رئيسها، لم تأْلُ جُهْدًا في التشْكيك في الدولة الوطنية وفي العمل على استهدافها بكلّ الطرق التي رأينا بعض مظاهرها في أواسط ثمانينات القرن الماضي وبداية التسعينات، ووصل الأمر بالغنوشي إلى توصيف الدولة الوطنية بـ: “دوْلة ما بعْد الاسْتِعْمَار”، وذلك، لأنّه لا يعترف باستقلال تونس، ولا يسمح لنفسه باستعمال عبارة دولة الاستقلال التي ستذكّره حتما بعدوّه اللدود الرئيس الحبيب بورقيبة ودوْره المحوري في التخلّص من الاستعمار، بينما عبارته “دولة ما بعد الاستعمار” تشْفي غَلِيله في اسْتهداف عَدوّه من خلال التواتر في إظهار كلّ البُهْتان والإفْك في صورة الحبيب بورقيبة كالعَمَالة لفرنسا والتغْريب…
وقد تمّ تجسيم هذا التوجّه نحو هدْم الأسس التي تقوم عليها الدولة الوطنية المعاصرة من خلال استهداف أسسها الذي لاح تباشيره في آخر سنة 2009 وشُرع في تطبيقه مع ربيع 2011 واسْتُحِثت الخُطَى فيه مع 2012 التي شهدت حكم النهضة فعليًا لتونس، وكان أهمّ مظهر لهذا التوجّه الذي يحاول مَحْو إرْث الدولة الوطنية هو عدم الاحتفال بذكرى عيد الاستقلال وعيد الشهداء…ثمّ تمّ التعويل لاحقا على الذراع الطُولَى للغنوشي وهي ما سمّي هيئة الحقيقة والكرامة كي يُقنّن مَا خُيّل لهم ألا وهو الشطْب النهائي لمشْروعية هذه الدولة! وإضْفاء شرعية وهْمِية على الحركة، من خلال الدفع لِسَرْدِية المَظْلومية والضَحِيّة التي تعرّضت للمِحْنَة زمن بورقيبة وبن علي من أجل الحرّيات وحقوق الإنسان والديموقراطية!!
في المقابل، اسْتُحِثت الخُطى كي يتربّع الغنوشي على كرسي حكم تونس، كان ذلك واضحا في مؤتمر الحركة سنة 2016 الذي بدأ في التمهيد لذلك، وأعطيت بعض الإشارات في سنة 2017، ولمّا تلقفناها، وقلنا وقتها، بأنّ الغنوشي يطمح في رئاسة الجمهورية استهجن البعض قولنا، وما قبول الغنوشي برئاسة مجلس النوّاب إلاّ بعد تأكّده بأنّه لن يتمكّن من أن يحقق أمنيته الغالية، فعوّضها من خلال محاولة الهيمنة على “العصفور النادر” حتى يكون طَوْع بَنانِه، وعوّضها أكثر من خلال تصرّفه وهو رئيسا لمجلس النوّاب على أساس أنّه هو الرئيس الفعلي للدولة..والبقيّة معروفة تفاصيلها..
وتكمن الوقاحة أكثر بعد خروجها من السلطة حاليا في محاولتها الاسْتِيلاء على هذه الأعياد الوطنية التي لا تعترف بها أصْلا، فباتت بيانات حركة النهضة كما رئيسها تدعو إلى التظاهر احتفالا بذكرى 20 مارس 1956، عيد الاستقلال ! وأيضا وخاصّة ذكرى 9 أفريل 1938 عيد الشهداء ! وقامت بعملية توْأَمَة قيْصَرية بين المناداة ببرلمان تونسي في أفريل 1938 وبرلمان الغنوشي 2019 ، فتمّت عملية التجْسِير المَوْهُوم بين الحَدثيْن، وهكذا وبقدرة قادر، تمّ التنادي بشعار برلمان تونسي يوم 10 أفريل 2022 تأسّيا بما نادى به “الآباء والأجداد” وفق قول أحد مُزَيّني ديكور النهضة الديموقراطي في هذه الوقفة التي لم تكن ببعيدة عن مكان وقفة 8 أفريل 1938 التي رفعت بالمناسبة صورها هذا الأحد!!
وهكذا، توهّمت حركة النهضة أنّها باتت بهذا السلوك امْتِدادٌ لنضال شعبي تونسي تجاوز 80 سنة! وتعتقد أنّ هذا التكرار المتتالي لِهَكَذَا مَزَاعِم سيمكّنها من أن تخْلق شَرْعِية تاريخية مَوْهُومة لها في هذا الفضاء الخاصّ والحِكْر بالدولة الوطنية خاصّة بعد فشل مشروعها الشرعياتي المزْعوم المتمثل في خُرَافَة الجدّ المشترك عبد العزيز الثعالبي.
لكن، ما فات القائمون على محاولة عملية الاستيلاء الخطيرة على الذاكرة الوطنية أنّ جهدهم المَحْمُوم لا يمكن أن يكون إلاّ عَبَثِيًا، ولا يقتصر هذا العبث عليهم فقط، بل على كلّ من يعتقد بأنّه قادر على تحريف الوقائع التاريخية لصالحه بحثا عن شَرْعِيَةٍ مَا.
وعليه، فإنّ أيّام أفريل 1938 المجيدة هي من صُنْع حزب الدستور الجديد وتحْديدا قيادته وعلى رأسها الحبيب بورقيبة، والشهداء هم شهداء حزب الدستور الجديد، والقمع الذي طال الوطنيين التونسيين آنذاك، وكان رهيبا جدّا تواصل لسنوات، إنّما طال مناضلي وقيادات حزب الدستور الجديد، أي حزب من يعتبره الغنوشي عدوّا لدودا له، وذكرى 20 مارس 1956، ذكرى عيد الاستقلال، هي تتْويجٌ لِمَلْحَمَة تونسية حقيقية بدأت يوم 18 جانفي 1952، عندما اعتقلت فرنسا من يعتبره الغنوشي عدوّه اللدود: أي الحبيب بورقيبة، وتواصلت هذه الملحمة حوالي سنتين ونصف سنة، وقاد هذه الملحمة حزب الدستور الجديد إذ كان رأْس حِرْبَتِها المُتَقدّم، وهو الذي خطّط منذ منتصف أربعينات القرن الماضي كي تتحقق هذه الملحمة التونسية الوحيدة في التاريخ التونسي المعاصر.
لذا، لا يحقّ لأيّ كان التطاول والاستيلاء على إِرْثِ غيره بالمُخَاتَلَة والاحْتِيال خاصّة أنّ الورثة أحياءٌ يُرْزَقُون، أي أبناء وأحفاد هؤلاء الوطنيين الذين قارعوا الاستعمار وضحّوا بأغلى ما لديهم من أجل تحرير الوطن واستقلاله، ولم يطالبوا بتعويضات كما فعل من يعتبر نفسه عَدُوًّا لهم خلال الأشهر والسنوات الأخيرة، ولو تَمَكَّن بالدولة من جديد، فلن يتورّع عن ذلك بأكثر جشعٍ ممّا كان عليه من قبل.
والذي يبعث على الاستغراب حقاّ، هو أنّ حركة النهضة دافعت بشراسة منذ 2011 عن شخصية صالح بن يوسف، بل وَعَدّت نفسها امتدادا له في نطاق بحثها عن التَمَوْقع الشرعياتي، ومن هنا نفهم لماذا كان التوجّه منذئذ في التشكيك في معاهدة الاستقلال وعدم الاعتراف بها واعتبار تونس محتلّة فرنسيا إلى الآن؟! لأنّ من شأن هذا التوجّه أن يغذّي نرْجسية الغنوشي الراغب في مَحْوِ كلّ ما هو إيجابي لغريمه الحبيب بورقيبة وإظهاره للتونسيين الذين يجهل جلّهم تاريخ بلدهم بمظهر الخائن والعميل والكافر….فكان القرار في إبراز صالح بن يوسف ومواقفه واعتماد اغتياله “قَمِيص عُثْمَان” يُنْهَى به كلّ ذِكْرٍ لبورقيبة.
لكن الآن، نَكَصَت الحركة وترَاجَعت عن هذا التوجّه الذي لم يعد ينفع بالنسبة إليها، ولسان حالها يقول: كلّ شيء يهون من أجل محاربة قيس سعيّد بما فيه الاعتراف بعيديْ الشهداء والاستقلال واعتمادهما، دون أن يعْنِي ذلك الاعتراف بفضل الحبيب بورقيبة وحزب الدستور الجديد في هذين اليومين بالذات، ومن هنا مَا لُوحِظَ هذه الأيّام في الخطابات المتتالية على أساس السهْو المتكرّر والتَعْتِيم المُتَعَمّد عن كلّ ما يمتّ إلى الحبيب بورقيبة بِصِلَةٍ في هذه السَرْدِية الجديدة التي تعمل حركة النهضة جاهدةً على فرضها على التونسيين، مُستغلّةً جهْل الكثيرين بتاريخهم وخاصّة الحقْد المَرَضِي للبعض الآخر.
لكن…لن يَمُرّوا !
افتتاحية أسبوعية “الشارع المغاربي” في عددها الصادر بتاريخ الثلاثاء 12 أفريل 2022