الشارع المغاربي: اسدل الستار على قمة هيروشيما لمجموعة الدول الغربية المكونة لـ”نادي السبع” تحت وقع الهزيمة الأوكرانية في باخموت واحتدام الصراع مع الصين. لم تشفع بقايا خراب القيامة النووية التي ابقاها اليابان شاهدة على مآسي الحروب في ثني قادة الغرب عن التفكير في مواصلة المجهود القتالي في سهول الدومباس ولا في التلميح الى ضرورة اعادة التموقع الاستراتيجي في بحر الصين الجنوبي للبدء في تنفيذ مخطط خنق بيكين. لكن، خلف واجهة الوحدة والاجماع التي حاولت القيادات الغربية ترويجها للإعلام، برزت تباينات مهمة بين توجهات الوفود الحاضرة خاصة على مستوى الأولويات وأجندات العمل الخاصة بملفات حارقة لم تجد لها صدى في هيروشيما.
مثلت الندوة الصحفية التي عقدتها رئيسة المجلس الايطالي جورجيا ميلوني اهم خروج عن الخط العام لاجتماع الدول السبع بتركيزها على الملف الجيوسياسي الإقليمي في حوضي البحر المتوسط بشقيه الاقتصادي والأمني المتصل بقضايا الهجرة وتهريب البشر. اكدت ميلوني على معادلة الاستقرار جنوب المتوسط والقدرة على التحكم في مسارات التسلل الى أوروبا عبر سواحل ايطاليا. فبالنسبة لروما، لا يمكن الحديث عن سياسات واستراتيجيات لصد الموجات البشرية القادمة على متن قوارب الموت انطلاقا من شواطئ تونس دون العمل الجدي والجماعي على حماية بلادنا من أخطار الانهيارات المالية والأزمات الاقتصادية الاجتماعية. فحسب رئيسة المجلس ميلوني، سيمثل اي اخلال في الأمن الاجتماعي بتونس حافزا قويا لانطلاق الموجات البشرية باتجاه القارة العجوز مذكرة بأن دفق الهجرة نحو بلادها شهد في المدة الأخيرة نسقا تصاعديا غير مسبوق قارب الـ 300٪ مع بدء استقرار الأوضاع المناخية.
ان صعود السيدة ميلوني الى الخط الطليعي الأول للترويج لضرورة الاهتمام بقضية الأمن المتوسطي يعكس عمق الخوف الذي ينتاب الكثيرين في أوروبا ازاء التفاعل الأحادي الأمريكي مع تعقيدات العالم وخاصة تواصل الانكار في الملف الاوكراني وتأثيراته الكارثية على اقتصادات القارة المنهكة.
اما الدعوة المركزية التي اطلقتها السيدة ميلوني فكانت موجهة لمؤسسات بريتون وودز المالية العالمية لتحثها على اقراض تونس دون شرط او تأخير لتمكين البلاد من الإيفاء بتعهداتها والحفاظ على سلمها الأهلي. لكن الدعوة بقيت يتيمة ولم تلهم بقية القادة الأوروبيين الذين تجاهلوا اشكاليات الهجرة وفضلوا التركيز على المجهود الحربي في شرق القارة او التحالف التجاري المعادي للصين.
من الواضح ان الأصول السياسية للسيدة ميلوني تمثل في عيون النخب الكلاسيكية الحاكمة بشمال أوروبا خطرا انتخابيا يتهدد احزاب السلطة وهذه من اهم اسباب استراتيجية العزل التي تواجهها ميلوني ضمن جوقة القيادة في القارة العجوز.
ان الصمت الأوروبي على كارثة الموت في المتوسط وتورط العديد من العواصم في تمويل الميليشيات الليبية التي تعمل على احتجاز عشرات الآلاف من المهاجرين في محتشدات ليس بها أدنى مقومات الحياة البشرية، يُؤشران لتوجه باريس وبرلين في المقام الأول ولندن في المقام الثاني لمعاقبة السيدة ميلوني على تجرّئها في فضح المسؤولية التاريخية للقوى الاستعمارية عن الفقر المدقع الذي يعصف بالمجتمعات الافريقية. كما ان انهيار المشروع السياسي للتحالف الحاكم في روما لعدم قدرته على لجم الموجات البشرية للهجرة، سيمثل انتصارا، ولو بثمن باهظ امنيا واجتماعيا، لتيارات اليمين والوسط التي بدأت تتحسس خطر صعود اليمين القومي المحافظ.
لكن موقفيْ باريس وبرلين من تونس في الملتقيات الدولية او في المنابر الرسمية وان غلب عليهما الصمت والسطحية يكشفان عن تباين واضح بين العاصمتين الأوروبيتين وقرطاج في العديد من الملفات السياسية والإقليمية.
من المؤكد ان انقطاع التواصل بين فرنسا وألمانيا أساسا من جهة وتونس من جهة أخرى حول المسار السياسي الداخلي ورفض الأوساط الرسمية في بلادنا الخوض في ملفات المحاكمات والإيقافات قد ألقيا بظلالهما على العلاقات وسلَباها دفئا كان يغذيه سابقا تساهل مفرط لدى المنظومة السابقة مع تدخلات الخارج في الشأن الوطني. لذا يمثل المسار المتعثر للقرض المرتقب من المؤسسات المالية الدولية رافعة للضغط الأوروبي على قرطاج حتى تعيد ترتيب الأوضاع الداخلية بما يتلاءم مع الانتظارات الأوروبية وكل الاتفاقات السابقة حول تشكيل الطيف الحاكم.
في المقابل، وازاء هذا الصد الأوروبي على المستوى المالي، او على الأقل التلكؤ في الاستجابة لحاجة بلادنا الماسة للقرض الدولي، لم تنجح الحكومة الى حد الآن في كسر الحصار الغربي واستنهاض السند عربيا. فقيمة القرض لا تمثل مستوى يتجاوز قدرات الاقتصادات الخليجية تمويليا. حين نطلع على القروض والضمانات والشراءات التي تعقدها بعض الدول العربية الغنية في المدة الأخيرة والتي توزعت بين اقتناء فرق كروية اوروبية مفلسة او استثمارات في أسواق تركيا المتعثرة او شراء حصص بنوك سويسرا المنهارة بأرصدة تتجاوز اضعاف القرض التي تسعى بلادنا لتحصيله، فانه من المشروع جدا ان نتساءل عن اسباب هذا التردد. يبدو ان السياسة، مرة أخرى، هي المحدد للموقف الخليجي الذي لا يرى في اختيارات قرطاج، على مستوى الاقليم وفي ما يخص بعض القضايا الداخلية، تناغما مع مشاريعه.
ان تقارب قرطاج والمرادية يغضب بعض عواصم الخليج الحليفة للمملكة المغربية وخاصة الحلف الثلاثي الذي يجمع الرباط بالدوحة والكويت. كما ان للسعودية ملاحظات جدية على تجاوز تونس ما يصطلح على تسميته بسُنّة التشاور العربي بما يعني ذلك من التزام بالمبادرات الصادرة عن الرياض في المقام الأول.
لقد اختارت الحكومة التونسية التوجه للمؤسسات الدولية لتحصيل قرض اكدت انه سيكون احد محركات الخروج من الأزمة المعقدة التي ألمت باقتصاد ومالية البلاد ولكنها لم تُعد قراءة شاملة لخارطة الصداقات والبدائل والتكامل بين الفرص. لذا حانت لحظة التحيين باعتماد سياسات مركبة لا تضحي بالمكاسب الديبلوماسية وانما تستثمر في الحوار والتوضيح والانصات لشركائنا التقليديين مع اطلاق حملة تواصل متعددة الأشكال والمحاور باتجاه الرياض وابي ظبي أساسا دون اسقاط الخيارات الأخرى التي تستوجب ابداعا جديدا في طرق مقاربتنا للتعامل مع شركاء جدد لهم امكانات تمويلية ضخمة واساليب تعامل وشبكات علاقات لم تعمل بلادنا لسنوات طويلة على استيعابها ويبدو ان الوقت حان لنفقه مفرداتها.
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 23 ماي 2023