الشارع المغاربي: يلحظ المتابع للشأن السياسي أن حكم 25 جويلية يُجهد نفسه ويفتعل المبرّرات لمنع عبير موسي وحزبها من القيام بأيّ نشاط أيّا كان مضمونه عبر اختلاق العراقيل الإداريّة ووضع الحواجز الحديديّة في حين يُسمح في نفس الوقت لحزب التحرير المعادي للنظام الجمهوري بعقد مؤتمراته تحت حمايته فضلا عن حراسته المتواصلة منذ سنتين لبؤرة القرضاوي التي أصبحت في تقديرنا شبيهة بــ”الشركات الأهليّة” ولسائل أن يسأل لماذا هذا الحصار وما الذي يبرّره؟
للجواب عن ذلك وجبت العودة إلى سنة 2011 وما تلاها حيث نجد أنّ قسما من التونسيّين لم يعتبروا أنّ ما حدث أيامها ثورة بل مؤامرة مستدلّين في ذلك على أنّ الثوار لا ينهبون ولا يقبلون بالتعويض المادي ولا يتشفّون من خصومهم مع ما انجرّ عن ذلك من تدمير مُمنهج للدولة ومؤسّساتها. فالثوّار الذين حفظ التاريخ سيرتهم كانوا أيمّة في التسامح والرِّفعة حتى مع من أساء إليهم وقدّموا خير النماذج عن التضحية ولعلّ تاريخنا المعاصر يحفظ لنلسون مانديلا ومناضلي حزبه المثال الأبرز. لذلك بمرور الأيام اتّضح لكلّ ذي بصر وبصيرة أن الثورجيّين إنّما استُقْدِموا لتنفيذ مخطّطات لا علاقة لها بتونس فاغتنموا الفرصة لاقتسام السلطة وخيرات البلاد باعتبارها غنيمة ولم تكن الأصوات الرافضة لِما تتعرّض له البلاد من نهب مُنظّمة أو مُهيكلة في حزب أو جمعيّة بل كانت مشتّتة وموزّعة في الساحة لا ينظمها ناظم إلى أن تأسّس الحزب الدستوري الحرّ وبعد أن ترأسته عبير موسي سنة 2016 اتضحت سياساته الرافضة لِما حصل في البلاد من تدمير ممنهج على أيدي حركة النهضة وحلفائها في تلك الفترة. كانت تتمّ دعوة عبير للمشاركة في البرامج التلفزيّة والإذاعيّة إلى أن تفطّن الثورجيّون الى أن هذا الحزب آخذ في التمدّد والتوسّع نتيجة الحضور اللافت لزعيمته. عندها دُفع ببعض الإعلاميّين والكراكير (جمع مبتكر على غير قياس مفردها كرونيكور الأعجميّة) إلى تسفيه مقال عبير ومشاكستها لإحراجها إلا أنها كانت في كلّ مرّة تلقمهم حجرا بحسن جوابها وحضور بديهتها. ولمّا تبيّن لهم أنّ المواجهة معها تنتهي دائما وأبدا لصالحها غيّروا تكتيكهم خصوصا بعد أن دخل الحزب الدستوري الحرّ إلى البرلمان وابتكرت كتلته أسلوبا جديدا في العمل البرلماني عبر كشفها مخطّطات كادت أن تؤدّي إلى المسّ من سيادة القرار الوطني وفضحت علاقات التبعيّة المذلّة بين الحكم وعلى رأسه الغنوشي والتنظيم العالمي للإخوان المسلمين بنقل وقائع الجلسات عبر وسائل الاتصال الحديثة الأمر الذي أجّج الغضب الشعبي لِما آل إليه حال المجلس من عنف وتجاوز لأبسط القواعد الأخلاقية فاستغل حكم 25 جويلية الفرصة وافتك السلطة بعزله رئيس الحكومة وإغلاق البرلمان بسهولة ويسر لقيا ترحيبا كبيرا من المواطنين الذين خرجوا مهلّلين فرحين حيث ذهب في اعتقادهم أنّ حكم الإخوان ورقة طُويت وانتهى أمرها.
وظهرت عبير موسي
فاجأت رئيسة الحزب الدستوري الحرّ الجميع بطرح مغاير تماما لهذا التمنّي مؤكدة أن سيناريو الباجي والغنوشي في التوافق سيعاد مرة أخرى لكن بشرط استبعاد الغنوشي من حركة النهضة. حذّرت سلطة 25 جويلية من أن تفسد فرحة التونسيين بالتخلص من برلمان الاخوانجية ودخلت بسرعة في سياسة تصادمية مع قيس سعيد من خلال الوقفات الاحتجاجيّة والنقاط التنويريّة. ولأنّ نظام 25 جويلية يعلم أنّه غير قادر على إسكاتها بقوّة الحجّة والرأي الراجح عمد استراتيجيا الى محاصرة عبير موسي وحزبها متوهّما بذلك أنّه يضعف حظوظها في الانتخابات القادمة. غاب عن أهل الذكر من أنصاره أنّ الوقائع عنيدة لا تستجيب لرغباتنا ما لم تكن مسنودة إلى حقائق تترجم موازين القوى الى واقع سياسي متغيّر. اليوم أصبحت عبير وحزبها الرقم العصيّ على الإغفال في المعادلة السياسيّة القائمة. ولأنّ حكم 25 جويلية فقير معرفيّا ولا يمتلك القدرة على الإضافة وإثراء النقاش السياسي بالبرامج والاقتراحات فإنّ أقرب الناس للرئيس من أساتذة كليات الحقوق وممّن ساندوه في البداية انتقلوا إلى صفّ المعارضة لِما ذكر.
ولأنّه لم يعد لدى حكم 25 جويلية ما يقدّم بعد التفافه على المطلب الأساسي لِمن ساندوه التجأ إلى محاصرة المعارضة الجدية ممثّلة في عبير موسي وحزبها من خلال التضييق عليها ومنعها من الاتصال بالجماهير بأساليب أُدرجها في باب الحيل الفقهيّة كمنع الحافلات من الوصول إلى مقرّ الاجتماع أو إغلاق بعض الأنهج بتعلات واهية أو منع بعض النشاطات الثقافيّة كإلقاء محاضرة عن مجلة الأحوال الشخصية )وهو ما حدث معي) أو قطع الإرسال مثلما صنع الغنوشي في برلمان 2019 .
المحاصرة سالبة للخير وناشرة للشرّ لأنها تمنع ولا تضيف، تُفقر الحياة المدنيّة ولا تثريها، وتحرم التجربة السياسيّة الوليدة من التطوّر وإصلاح الأخطاء. محاصرة اليوم هي الوجه الثاني لنفس العملة المسماة سلفيّة وتطرّف وما تناسل منهما فإن كان وجهها تمثّله سلفيّة الإخوانجية المتمسّكة بالنصوص المحرّمة لأيّ اجتهاد خارجها فإن قفاها تمثّله المحاصرة وهي سلفيّة لقيطة تشترك معها في التمسّك بالقديم وترفض تغييره للإبقاء عليه. فنتائج الانتخابات الرئاسيّة لسنة 2019 هي في تقدير أتباع الرئيس ثابتة لا يمكن أن تتغيّر ومن ثمّ تجدهم يعملون على تأبيدها بمختلف الوسائل والحيل ومن بينها المحاصرة رغم أن ماء النهر ما بقي على حاله. وها إننا نشاهد حكم 25 جويلية وهو يراكم الأخطاء على بعضها البعض صامّا آذانه عن النصح رغم أن قراءة جدية للخارطة السياسيّة تُسْلِمُ إلى وجوب الإقلاع عن السياسات التي ثبت فشلها وعلى رأسها إهمال ملفّات التسفير والتعويضات والاغتيالات والجمعيّات أوّلا وثانيا ضرورة التوقّف عن محاصرة الحزب الدستوري الحرّ وزعيمته عبير موسي إن لم نقل أنّه من الوطنيّة الإصغاء إليها حتى لا ينطبق على حكم 25 جويلية قول حفص بن غياث لمّا سئل عن فقه أبي حنيفة فقال: “كان أجهل الناس بما يكون وأعرفهم بما لا يكون”.
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 12 سبتمبر 2023