الشارع المغاربي: حينما نلقي نظرة على الخارطة السكانية والحضرية والثقافية للبلاد التونسية عبر التاريخ، تصدمنا ظاهرة الموت التدريجي لأهم المدن والمراكز الثقافية العظيمة التي عمرت في الماضي دواخل البلاد التونسية (بلاريجيا، دقة، سبيطلة، زامة (سليانة)-القيروان وغيرها)؛ مرة أولى خلال القرون التي تلت وصول المسلمين العرب إلى بلادنا (الإرث الروماني البيزنطي في مجمله)، ومرة ثانية بعدما خسرت القيروان مكانتها السياسية والاقتصادية والثقافية لفائدة المهدية ثم لفائدة تونس )الإرث الإسلامي المؤسس) . وقد تزامن هذا الموت التدريجي في مرحلة أولى مع توسع نمط العيش البدوي في الدواخل على حساب نمط العيش الفلاحي والمديني، وفي مرحلة ثانية مع استعادة البحر لأهميته الاستراتيجية في الاقتصاد والحرب والتواصل والتثاقف. وخلال كل هذه الفترة التاريخية الطويلة كان الانسحاب الاقتصادي والديمغرافي والسياسي يسير دوما من الدواخل باتجاه السواحل. ولقد ورثت النخب التونسية الحديثة النماذج الذهنية والاعتبارية التي تولدت عن هذا المنجز التاريخي السلبي )من منظور التوازن الحضاري الداخلي ،( الذي عمقه الاستعمار بفرض مرجعيته الثقافية على هذه النخب، فواصلت الدولة التونسية، بنفس تمثلها الثقافي لمجالها السيادي، في تعميق الآثار المهلكة لهذا الانزياح التاريخي. والنتيجة تضخٌم الرأس في قرطاج وضمور الجسد الحيوي والكثيف في الدواخل. ولقد حان الوقت لمراجعة هذه النماذج الذهنية، وهذه المرجعيات التي تجسدت في الأشياء والعقول، لبعث الحياة من جديد في كامل أطراف جسد تونس. ينبغي أن يُفهم هذا المشروع في إطار الدعوة إلى إعادة التوازن الثقافي والحضاري بين كل مكونات بلدنا بأكثر أدوات العصر الحديث جدة وبمفاهيم المشاريع الاستراتيجية المندمجة.
المنطلقات الأساسية للفكرة
بالمقارنة مع تجارب تنموية ثقافية سياحية لبلدان قريبة أو بعيدة من تونس )إسبانيا، إيطاليا، الهند…( تأكد اليوم أن سياحة الشمس والبحر والصحراء لا تدر كثيرا من المال مقارنة بما تأخذه من موارد تحتاجها البلاد في مجالات أخرى ) المياه والأراضي الخصبة والطبيعة الموسمية للأنشطة)، بينما تدر السياحة الثقافية أضعاف ذلك وبطاقة تشغيلية عالية:
• أغلب السياح الذين يزورون تونس لا يصرفون الكثير من المال، فهم يأتون من الطبقات الاجتماعية الأوربية فوق الفقيرة أو المتوسطة أو من أوروبا الشرقية التي ليس للسياح القادمين منها تقاليد إنفاق سياحي عالية، ويبقون على الشاطئ أغلب الوقت. فبحسب بعض التقديرات بلغ معدل صرف السائح للعملة الصعبة في تونس سنة 2022 حوالي 450 أورو مقابل 600 أورو في المغرب -الذي يشبهنا- على سبيل المثال. وهذا في الحالتين قليل.
• السياح الذين يأتون من الجوار – من غير المغاربيين المهاجرين في أوروبا- لا يجدون في السياحة التونسية الموجهة للأوربيين ما يجلبهم إلا قليلا، والكثير يأتي للتداوي وزيارة الأقارب أو الأصدقاء، وقسم كبير منهم يؤجر منازل في المدن الرئيسية على السواحل ويعيش مثله مثل بقية التونسيين الذين يسكنون هذه المناطق )الليبيون والجزائريون بالخصوص) .
• أغلب تجهيزات البنية التحتية للسياحة مركزة في المناطق الساحلية والواحية، ما خلق عدم توازن هيكلي بينها وبين المناطق الداخلية حيث البطالة عالية جدا، أحيانا رغم الموارد المحلية الهائلة.
• هذا النوع من السياحة يخلق ويعيد إنتاج التوزيع اللامتكافئ للمداخيل (إذا دخلت إلى البلاد)، المتأتية من السياحة الشاطئية والصحراوية ويعيق فرص الاستثمار في الدواخل وخلق مواطن الشغل.
• والأهم من كل هذا: لا تشكل السياحة الشاطئية والصحراوية قاطرة حقيقية لتنمية مستدامة ونظيفة، ولا تدمج بشكل فعلي وظيفي العديد من القطاعات الاقتصادية في منظومة وحركة واحدة.
• في الأثناء هناك طلب عالمي كبير على السياحة الثقافية والبيئية
• هناك تحولات جيوساسية استراتيجية في أفق المنطقة، ربما تفضي خلال الخمسة عشر سنة القادمة إلى الاستثمار في السياحة بموارد قوية وبقدرة تنافسية تصاعدية أعلى بكثير مما تملكه تونس.
المشروع الثقافي-الاقتصادي المقترح:
• يمكن تصنيفه من نوع التنمية الثقافية المندمجة، ويمكن أن يشكل – إذا ما طبق بحماس وبحرفية- نقطة تحول في التفكير والفعل، تقلب المعادلات الثقافية-السياسية والتنموية السائدة في المناطق الداخلية. إنه مشروع يُخرج الاستثمار الثقافي من حقوله التقليدية، ويوسع من مجاله بحيث يخرج من حالة الاحتكار الحضري الفئوي التي هو عليها الآن، ويحرره من المقولة الفلكلورية، ويحوله إلى فلسفة استثمار اقتصادي-اجتماعي وظيفية مبتكرة وعادلة.
• يتوجه المشروع أساسا إلى كل فئات الشباب أصحاب الدبلوم الجامعي والعاطلين عن العمل والمستثمرين المحليين ومن كل أنحاء الوطن.
• يخلق ثقافة جديدة للتشغيل متحررة من فكرة الوظيفة مقابل راتب، وينزل من على كاهل الدولة فكرة أنها المسؤول الأول عن تشغيل المواطنين في مؤسساتها العامة (البيروقراطية الضخمة المعطلة للتنمية).
• يخلق المشروع المقترح توازنا مع المناطق الساحلية، فيدخل بموجبها سكان الوسط الغربي للبلاد والمناطق المحيطة في ديناميكية إنمائية ثورية غير مسبوقة، وبتفاعل وظيفي مع المدن الساحلية.
• المشروع مغروس في التاريخ الثقافي والسياسي والاجتماعي لمناطق وسط البلاد، ومن المحتمل جدا أنه يجلب الاستثمارات الخارجية إذا ما قُدم عالميا بشكل جيد ومن طرف فريق جيد محترف تقوده إرادة صلبة وطموحة.
تنطلق فكرة المشروع من الملاحظة الميدانية التالية: تتمتع منطقة الوسط الغربي للبلاد وامتداداتها نحو الجنوب، حيث تتقاطع حدود أربعة أقاليم وثمانية ولايات بثلاث ميزات ثقافية-تاريخية، اقتصادية وجغرافية، تشكلت على أرضية موارد مادية ولامادية غير محدودة:
• رأس مال لامادي كثيف جدا: المناظر الطبيعية الخلابة، البعد عن مناطق التلوث، التاريخ الثقافي المميز والمسجل في الذاكرة العالمية.
• موارد طبيعية فلاحية ومائية مهمة جدا، يمكن أن تتحول – في بعض مناطقها المحلية- إلى ركيزة تونس في الفلاحة البيولوجية المتنوعة .
• توجد المنطقة وسط مثلث اقتصادي سياسي تاريخي ضخم، منفتح على الشمال الغربي للبلاد )الكاف باجة جندوبة) ، والشمال الشرقي )زغوان ، تونس الوطن القبلي) والوسط الغربي (القصرين سيدي بوزيد، القيروان) مع امتداد مخروطي حتى شط الجريد.
والأهم من الكل أن هذه المنطقة شاركت بشكل ملحمي في ثلاثة أحداث تاريخية عالمية صنعت ذاكرة التونسيين، وقسم كبير من البلدان المتوسطية الشمالية والمشرقية والمغاربية: هذه الأحداث هي:
• آخر معركة لحنبعل في زاما قادما من روما .
• آخر معركة للكاهنة في سبيطلة أمام الجيوش الإسلامية .
• الملحمة الهلالية التي اخترقت جميع مناطق الوسط المغاربي وتركت بصمة ثقافية كثيفة في مخياله من برقة إلى المحيط الأطلسي.
المعارك التاريخية الكبرى )زاما وسبيطلة( قادتها شخصيات قرطاجية ورومانية وأمازيغية وعربية إسلامية من الطراز الأول ومشهورة عالميا (حنبعل القرطاجي والقائد الروماني الذي خاض ضده معركة زاما/ القائدة البربرية الكاهنة والقائد العربي المسلم حسن ابن النعمان القادم من الشرق) . وفي كلا المعركتين كانت هناك آراء وتمثلات بشأن إفريقية وسكانها، ومصالح اقتصادية واستراتيجية سياسية مرتبطة بها، وخلفيات ثقافية ودينية متصارعة ومتلاقحة تهم مفهوم الإنسان والكون والحياة.
مغامرة بنو هلال: تجربة اجتماعية وثقافية وفنية أثرت بعمق في الذاكرة المغاربية عموما، وكذلك في مصر والجزيرة العربية، مضمونها الصراع الأبدي بين البداوة والاستقرار، بين المدينة والبادية، بين السلطة المركزية والتخوم التي ترفض الدولة )هناك مثل ليبي يقول: الدولة أرض والعرب طيور) . ومن هذا الباب فإن ملحمة الجازية تعد تجربة إنسانية فريدة، كثفتها الذاكرة التونسية وتستحق الاحتفال واللقاء بالآخر والتفكير والتأريخ والتفلسف والشعر.
ثلاثة مهرجانات بأبعاد اقتصادية اندماجية
بناء على هذه الاعتبارات تقوم الفكرة العملية للمشروع على تنظيم: ثلاثة مهرجانات سنوية تبدأ تجريبيا بالتداول وتتطور عند النجاح لتأخذ وتيرة سنوية تتابعية : الأول عالمي، والثاني-مشرقي-مغاربي والثالث: مغاربي جنوب صحراوي.
المهرجان الأول يدور حول آخر معركة لحنبعل في زاما بسليانة قادما من حربه في عقر دار الإمبراطورية الرومانية. وتقوم الفكرة على إعادة إحياء المعركة في شكلها الطبيعي، أي جيشان حقيقيان من 500 إلى 1000 فارس من كل فريق (قرطاجي وآخر روماني)، يتبعان نفس الطرق التي سلكها الأولون (يحددها المؤرخون ويأخذون بعين الاعتبار الجانب اللوجستي والأمني ) انطلاقا من زغوان والكريب (على سبيل المثال). ويشارك فيها كفرسان وقادة سياح من طراز رفيع، وبدرجات متفاوتة حسب الرتبة في الجيوش (على سبيل المثال نجمين سنمائيين كبيرين تهدى لهما -للدعاية- قيادة الجيشين، بينما يشتري الآخرون رتبهم ومكانتهم) ليسجلوا ذلك في رصيدهم الخاص (تبدأ الفكرة التجريبية بعدد أقل ثم يتوسع بقدر ما تتوسع البنية التحتية المستقبلة للمشروع).
• يجري تشييد بوابة إلكترونية تواصلية وتسويقية ضخمة يتعامل بواسطتها الحرفاء مباشرة مع المؤسسات التونسية )بالشراكة مع شركات تسويق عالمية كبرى) لرفع المداخيل إلى أقصاها.
• يقوم الحرفيون – الذين يجب أن يكونوا من المناطق المعنية مباشرة بمسرح العمليات- بتجهيز هذه “القوات” بكل ما يلزم وفق التقاليد القديمة كما يحددها لهم علماء الآثار ومصمموا الأزياء، الذين سيشيدون في هذه المناطق الورشات الحرفية المناسبة.
• تشبيك وظيفي مع الجمعيات التنموية المحلية / بناء مشاريع توأمة مع جمعيات عالمية مختارة بعناية.
• تنشأ شبكة من النزل والمنازل الريفية المصممة من منظور السياحة البيئية لإسكان المشاركين. يشيّد المنازل شبان وشابات من المنطقة على طول خط سير السياح-بتمويلات المؤسسات الممولة ومنها البنوك التي ستنظمّ للمشروع، مع تدريب على مفهوم السياحة البيئية وممارستها تحت إشراف وزارات السياحة والثقافة والبيئة. في الأوقات العادية تُستخدم هذه البيوت للسياحة البيئية-الثقافية طيلة كامل السنة، مع استخدام ما يتوفر من اللوجستيك الخاص بالمهرجانات.
• تنهض في هذه المناطق فلاحة بيولوجية توفر الغذاء.
• تنهض تربية الخيول
• تنشأ شبكة من الأدلاء السياحيين المرافقين بعد تكوينهم وتدريبهم، إلى جانب منشطين ثقافيين وفنانين وموسيقيين مختلفين يحوّلون الليالي المقضية في الطريق إلى فرصة ثقافية ثرية.
• يجري تشغيل قسم كبير من الفئات الشبابية المتعلمة
يلتقي الجمعان في زاما: وعوضا عن الحرب يتحول اللقاء في مسرح زاما، الذي سيجري ترميمه وتهيئته، إلى مهرجان فني ضخم يدعو إلى السلام، ويدوم عدة أيام تعرض فيه:
• الموسيقى من جميع أنحاء العالم ومن كل العصور
• المأكولات والمشروبات البيولوجية المحلية المختلفة، التي يمكن لمراكز التغذية ومدارس فنون الطبخ والعرض أن تساعد في تطويرها.
• يعرض فيه الرسامون الكبار (وطلاب معاهد الفنون الجميلة) أعمالهم .
• تجري فيه عروض أزياء متنوعة
• يلقي خلاله الشعراء شعرهم
• يُغنى فيها للسلام والتسامح.
• تكون فرصة لوسائل الإعلام المحلية والعالمية للعمل، وتكون فرصة للمنظمين لبيع المنتوج الإعلامي للقنوات السمعية-البصرية .
المهرجان الثاني يكون مداره معركة الكاهنة بسبيطلة: ينطلق جيش الكاهنة من حيدرة في أقصى غرب ولاية القصرين (وربما من الجزائر)، وينطلق الجيش المقابل من جنوب سيدي بوزيد (المكناسي وأهلها من مربي الخيول الأصيلة). ومثل الحالة الأولى تقوم ديناميكية حرفية فلاحية سياحية ثقافية حول التظاهرة، مع اعتبار اختلاف السردية واللباس….إلخ. عندما يلتقي الجمعان في سبيطلة يتحول المسرح الروماني هناك إلى فضاء ثقافي وفني ضخم للموسيقى والمسرح والشعر، تتخلله نقاشات فكرية حول الأديان في الشرق والغرب والشمال والجنوب، ودعوة للوئام والتسامح الديني بين الشعوب، مع نفس الفوائد التشغيلية والثقافية والاقتصادية للأول.
المهرجان الثالث: السيرة الهلالية. يكون هذا مهرجان مغاربي بامتياز، منفتح على جنوب الصحراء ذي التاريخ البدوي، ويدور حول السيرة الهلالية، لكنه يعطي فرصة كبيرة للتراث البدوي شعرا وفنا وفلسفة في الحياة (وقد عاد الآن بقوة إلى الأعراس في الأرياف بصيغ جديدة). ويجري تنظيمه بنفس الطريقة منطلقا من قبلي والحامة (مرازيق-بني زيد) باتجاه سيدي بوزيد، وفي كل محطة هناك احتفال، ثم يجري الحوار التاريخي، الفلسفي والفني، بين الثقافة البدوية والثقافة الحضرية (مركز المهرجان سيدي بوزيد).
هناك جوانب فنية أخرى لهذا المشروع الضخم، تحتاج نقاشا متشعبا قبل اعتمادها، وعملا شاقا لفرق فنية مختلفة ومتعددة، تأخذ كفايتها من الوقت لتصميم المشروع بشكل مهني يأخذ في الحسبان الأسس الرئيسة وأولها التمويل.
لقد مر المشروع على عدد من أهل الفن والخبرة، وعرض على وزيري ثقافة، وهو موجود في قصر قرطاج منذ 2019. نتمنى فقط أن يصادف ذوي العزم من أبناء تونس. ويعتبر المشروع ملكية فكرية خاصة.
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 10 اكتوبر 2023