الشارع المغاربي – رشوة‭ ‬الاستبداد‭ ‬السرية‭ ‬للتعليم‭...‬/بقلم: مولدي الأحمر-الجامعة التونسية  

رشوة‭ ‬الاستبداد‭ ‬السرية‭ ‬للتعليم‭…‬/بقلم: مولدي الأحمر-الجامعة التونسية  

قسم الأخبار

20 يوليو، 2023

الشارع المغاربي: قضيت‭ ‬25‭ ‬سنة‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬التونسية‭ ‬أدَرسُ‭ ‬الطلبة،‭ ‬وأشرف‭ ‬على‭ ‬البحوث،‭ ‬وأتابع‭ ‬أبحاثي‭ ‬الأكاديمية‭.‬وخلال‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬المدة‭ ‬لم‭ ‬يسألني‭ ‬يوما‭ ‬لا‭ ‬رئيس‭ ‬القسم‭ ‬ولا‭ ‬عميد‭ ‬الكلية‭ ‬ولا‭ ‬رئيس‭ ‬الجامعة‭ ‬ولا‭ ‬مدير‭ ‬التعليم‭ ‬العالي‭ ‬ولا‭ ‬سعادة‭ ‬الوزير‭ ‬إن‭ ‬كنت‭ ‬أطور‭ ‬باستمرار‭ ‬دروسي‭ ‬بما‭ ‬يتماشى‭ ‬مع‭ ‬تطور‭ ‬النقاش‭ ‬العلمي‭ ‬العالمي‭ ‬حول‭ ‬المواضيع‭ ‬التي‭ ‬أدرسها‭. ‬ولم‭ ‬تقيم‭ ‬أية‭ ‬لجنة‭ ‬–‭ ‬عدا‭ ‬لجان‭ ‬التدرج‭ ‬المهني‭ ‬في‭ ‬سلك‭ ‬التعليم‭ ‬العالي‭ ‬المتباعدة‭ -‬من‭ ‬5‭ ‬إلى‭ ‬10‭ ‬سنوات‭- ‬بشكل‭ ‬مهني‭ ‬قيمة‭ ‬البحوث‭ ‬التي‭ ‬أشرفت‭ ‬عليها،وإن‭ ‬كانت‭ ‬تتفق‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭ ‬مع‭ ‬خطط‭ ‬تنموية‭ ‬وطنية‭ ‬كبرى‭ ‬وضعتها‭ ‬الدولة‭ (‬وهي‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬لم‭ ‬تضعها‭)‬،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬تطوير‭ ‬التفكير‭ ‬النقدي‭ ‬وعزيمة‭ ‬الابداع‭ ‬والابتكار‭. ‬ولم‭ ‬تهتم‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الهيئات‭ ‬بإنتاجي‭ ‬الفكري،‭ ‬ولم‭ ‬تجازيني‭ ‬على‭ ‬إنتاجي‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬جيدا،‭ ‬ولم‭ ‬تحاسبني‭ ‬على‭ ‬تكاسلي‭ ‬وتكلسي‭ ‬إن‭ ‬ثبت‭ ‬علي‭ ‬ذلك‭. ‬بل‭ ‬والأنكى‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬عندها‭ ‬أية‭ ‬فكرة‭ ‬عن‭ ‬حقيقة‭ ‬قيامي‭ ‬بواجباتي،‭ ‬وإن‭ ‬كنت‭ ‬أتغيب‭ ‬كما‭ ‬يفعل‭ ‬الكثيرون‭ ‬في‭ ‬أغلب‭ ‬الأحيان‭ ‬بذرائع‭ ‬واهية‭ ‬ومفتعلة‭ ‬ولا‭ ‬قانونية‭ ‬ولا‭ ‬أخلاقية،‭ ‬ولم‭ ‬تتساءل‭ ‬عما‭ ‬إذا‭ ‬كنت‭ ‬أقضي‭ ‬أغلب‭ ‬وقتي‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬خارج‭ ‬الجامعة‭ ‬بمقابلرغم‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬قوانين‭ ‬تنظم‭ ‬هذا‭ ‬المجال،‭ ‬وإن‭ ‬كنت‭ ‬أتخلى‭ ‬عن‭ ‬واجباتي‭ ‬تجاه‭ ‬الطلبة‭. ‬ولم‭ ‬تتكلم‭ ‬النقابة‭ ‬يوما‭ ‬بشأن‭ ‬هذه‭ ‬الرداءة‭ ‬واكتفت‭ ‬بالمطالبة‭ ‬بتحسين‭ ‬الأجور‭ ‬وظروف‭ ‬العمل،‭ ‬فبدت‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أنها‭ ‬تتغاضى‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬أوتدافع‭ ‬موضوعيا‭ ‬على‭ ‬الرداءة‭.‬

لم‭ ‬ينجز‭ ‬نظام‭ ‬الاستبداد‭ ‬الذي‭ ‬انفجرت‭ ‬في‭ ‬وجهه‭ ‬الثورة‭ ‬أيه‭ ‬عملية‭ ‬تأهيل‭ ‬جدية،‭ ‬بأهداف‭ ‬واضحة‭ ‬ومتابعة‭ ‬لصيقة،‭  ‬للجامعة‭ ‬وللمعاهد‭ ‬الثانوية‭ ‬و‭ ‬للمدارس‭ ‬الابتدائية‭ ‬المأزومة‭. ‬أولا‭ ‬كدست‭ ‬التلاميذ‭ ‬والطلبة‭ ‬بأعداد‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬مؤسسات‭ ‬لا‭ ‬تستوعبها‭: ‬في‭ ‬بداية‭ ‬العشرية‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬القرن،‭ ‬الثائر‭ ‬فكريا‭ ‬وتكنولوجيا‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬سائد،كان‭ ‬عدد‭ ‬المسجلين‭ ‬في‭ ‬كلية‭ ‬العلوم‭ ‬الانسانية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬بتونس‭ ‬يفوق‭ ‬10‭ ‬آلاف‭ ‬طالب‭(‬ة‭) ‬بينما‭ ‬طاقة‭ ‬الاستيعاب‭ ‬كانت‭ ‬لا‭ ‬تتجاوز‭ ‬3‭ ‬آلاف‭. ‬والنتيجة‭ ‬تغيب‭ ‬الطلبة‭ ‬بنسب‭ ‬عالية‭ ‬جدا‭ (‬قامت‭ ‬إحدى‭ ‬طالباتي‭ ‬آنذاك‭ ‬ببحث‭ ‬صغير‭ ‬حول‭ ‬الموضوع‭) ‬وتأسيس‭ ‬التغيب‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬الوزارة‭ ‬كحق‭ ‬مكفول‭ ‬بالقانون‭. ‬أما‭ ‬المكتبة‭ ‬فلم‭ ‬تكن‭ ‬تستوعب‭ ‬إلا‭ ‬طالبا‭ ‬واحدا‭ ‬من‭ ‬بينكل‭ ‬12‭ ‬طالب‭ (‬قمت‭ ‬أنذاك‭ ‬بالتحقق‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬بنفسي‭)‬،‭ ‬بينما‭ ‬كان‭ ‬الطلبة‭ ‬يشقوْن‭ ‬جدا‭ ‬في‭ ‬حل‭ ‬مشكلة‭ ‬السكن‭ ‬والغذاء،‭ ‬دعكم‭ ‬من‭ ‬التهالك‭ ‬الأقصى‭ ‬لبيئة‭ ‬الدراسة‭ ‬في‭ ‬حد‭ ‬ذاتها‭ ‬في‭ ‬المؤسسات‭ ‬الجامعية‭ ‬والتعليمية‭ ‬عامة‭.‬

وفي‭ ‬المعاهد‭ ‬والمدارس‭ ‬العمومية‭ ‬اكتضت‭ ‬الأقسام‭ ‬بالتلاميذ،‭ ‬وتحولت‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المدارس‭ ‬إلى‭ ‬شبه‭ ‬ساحات‭ ‬صراع‭ ‬بين‭ ‬التلاميذ‭ ‬والادارة،‭ ‬التي‭ ‬تحمي‭ ‬نفسها‭ ‬أحيانا‭ ‬بالمشبكات‭ ‬الحديدية‭ (‬قامت‭ ‬إحدى‭ ‬طالباتي‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬الماجستير‭ ‬بإعداد‭ ‬دراسة‭ ‬ميدانية‭ ‬حول‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭)‬،‭ ‬وفي‭ ‬الأثناء‭ ‬وبينما‭ ‬غاب‭ ‬الأولياء‭ -‬إلا‭ ‬للسؤال‭ ‬عن‭ ‬نتيجة‭ ‬الامتحان‭-‬سيطر‭ ‬على‭ ‬محيط‭ ‬المعاهد‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬لفظته‭ ‬المدرسة‭ ‬وجاء‭ ‬ينتقم‭ ‬منها‭ ‬ومن‭ ‬تلامذتها‭ ‬وأساتذتها‭ ‬بالساطور‭ ‬والزطلة‭ ‬التي‭ ‬يبيعه‭ ‬إياها‭ ‬كبار‭ ‬المجرمين‭. ‬

ليس‭ ‬المجال‭ ‬هنا‭ ‬لتوصيف‭ ‬جميع‭ ‬مظاهر‭ ‬تلك‭ ‬الأزمة،‭ ‬لكن‭ ‬من‭ ‬مظاهرها‭ ‬التي‭ ‬فاقمت‭ ‬انكاسات‭ ‬كل‭ ‬عناصر‭ ‬الأزمة‭ ‬الأخرى‭ ‬الاستهتار‭ ‬الوقح‭ ‬بشروط‭ ‬الحياة‭ ‬الكريمة‭ ‬لسلك‭ ‬المعلمين‭ ‬والأساتذة‭ ‬والجامعيين،‭ ‬والعض‭ ‬بالنواجذ‭ ‬على‭ ‬خيار‭ ‬جعْلهم‭ ‬موظفين‭ ‬أشقياء‭ ‬كادحين‭ ‬يفكرون‭ ‬كامل‭ ‬يومهم‭ ‬وليلهم‭ ‬في‭ ‬غذائهم‭ ‬وملبسهم‭ ‬وسكنهم‭ ‬وتنقلهم،‭ ‬دون‭ ‬أي‭ ‬اعتبار‭ ‬لقيمتهم‭ ‬التنموية‭ ‬الاستراتيجية‭. ‬لا‭ ‬أنسى‭ ‬أبدا‭ ‬الصوت‭ ‬المخنوق‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬جمعة‭ ‬مساء‭ ‬في‭ ‬عز‭ ‬الشتاء،‭ ‬ونحن‭ ‬نغادر‭ ‬الكلية،‭ ‬لزميل‭ ‬لي‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬أستاذ‭ ‬تعليم‭ ‬عالي‭ (‬حصل‭ ‬على‭ ‬رتبته‭ ‬هذه‭ ‬عن‭ ‬جدارة‭ ‬وكتبه‭ ‬مرجعية‭ ‬اليوم‭ ‬خارج‭ ‬تونس‭): “‬مكسبي‭ ‬خمسة‭ ‬دنانير،‭ ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أستعمل‭ ‬تاكسي،‭ ‬وإذا‭ ‬استعملت‭ ‬الحافلة‭ ‬سأصل‭ ‬إلى‭ ‬المنزل‭ ‬متأخرا‭ ‬ومنهكا‭ ‬بالرفس‭ ‬والعفس،‭ ‬ولن‭ ‬أستطيع‭ ‬قراءة‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬الليلة‭”!‬

كان‭ ‬خيار‭ ‬إنتاج‭ ‬مدرسين‭ )‬في‭ ‬كل‭ ‬مراحل‭ ‬التعليم‭( ‬فقراء‭ ‬تعساء،‭ ‬ومؤسسات‭ ‬تعليمية‭ ‬عمومية‭ ‬غاية‭ ‬في‭ ‬التردي،‭ ‬عاملا‭ ‬حاسما‭ ‬في‭ ‬اختراع‭ ‬التعليم‭ ‬الموازي‭ ‬والدروس‭ ‬الخصوصية‭. ‬ولأن‭ ‬انخراط‭ ‬المؤسسات‭ ‬التعليمية‭ ‬في‭ ‬ثقافة‭ ‬الدروس‭ ‬الخصوصية‭ )‬التي‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬المتقدمة‭ ‬وظائف‭ ‬أخرى‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬لها‭ ‬بما‭ ‬صار‭ ‬إليه‭ ‬الأمر‭ ‬عندنا)جاء‭ -‬سرا‭- ‬لإغاثة‭ ‬المدرسين‭ ‬الفقراء،‭ ‬المطالبين‭ ‬بالإنصاف،وليس‭ ‬لمساعدة‭ ‬التلاميذ‭ ‬المحتاجين‭ ‬تعليميا،‭ ‬فقد‭ ‬استشرت‭ ‬الظاهرة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬المؤسسات،‭ ‬واختفت‭ ‬من‭ ‬مدارسنا‭ ‬كل‭ ‬أنشطة‭ ‬ثقافية‭ ‬تبني‭ ‬شخصية‭ ‬التلميذ‭ ‬والطالب‭ ‬ليكون‭ ‬إنسانا‭ ‬مقتدرا‭ ‬في‭ ‬الحياة‭. ‬وقد‭ ‬أنتج‭ ‬ذلك‭ ‬تمثلا‭ ‬مهنيا‭ ‬وأخلاقيا‭ ‬وبيداغوجيا‭ ‬غير‭ ‬سليم‭ ‬بالمرة‭ ‬للعملية‭ ‬التعليمية،‭ ‬وانشطر‭ ‬التعليم‭ ‬بين‭ ‬عمومي‭ ‬محظوظ‭ ‬وعمومي‭ ‬محروم،‭ ‬وخاصراقي‭ ‬وخاص‭ ‬تافه‭ ‬وفاسد،‭ ‬وانشطر‭ ‬معه‭ ‬التلاميذ‭ ‬والأساتذة‭ ‬والأولياء‭ ‬والوطن‭.‬

كانت‭ ‬هذه‭ ‬الكارثة‭ ‬من‭ ‬صنع‭ ‬نظام‭ ‬الاستبداد‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يصنع‭ ‬السياسات‭ ‬العامة‭ ‬للبلاد‭ ‬بنخبة‭ ‬فقدت‭ ‬الشجاعة‭ ‬والقدرة‭ ‬الذهنية‭ ‬والمعيارية‭ -‬إلا‭ ‬نزر‭ ‬قليل‭- ‬على‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬السياسات‭ ‬العامة‭ ‬خارج‭ ‬الخوف‭ ‬على‭ ‬المنصب‭ ‬بفوائده‭ ‬واعتباراته‭ ‬الزائفة‭. ‬ففي‭ ‬مقابل‭ ‬عدم‭ ‬استعداد‭ ‬هذا‭ ‬النظام‭ ‬لمواصلة‭  ‬الإستثمار‭ ‬الجدي‭ ‬في‭ ‬التعليم‭ ‬العمومي،‭ ‬وعدم‭ ‬اعتبار‭ ‬المدرسين‭ ‬ثروة‭ ‬تنموية‭ ‬استراتيجية‭ ‬عالية‭ ‬القيمة،‭ ‬وعدم‭ ‬اعتبار‭ ‬العملية‭ ‬التعليمية‭ ‬برمتها‭ ‬بوابة‭ ‬المستقبل‭ ‬المضمونة‭-‬عكس‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يراه‭ ‬بورقيبة‭ ‬وفريقه‭-‬قدمت‭ ‬الدولة‭ ‬لأعضاء‭ ‬هذا‭ ‬السلك‭ ‬رشوة‭ ‬ضخمة‭ ‬غاية‭ ‬في‭ ‬الدناءة‭: ‬لا‭ ‬أطلب‭ ‬منكم‭ ‬شيئا‭ ‬وتدبروا‭ ‬حالكم‭ ‬بالدروس‭ ‬الخصوصية‭ ‬والعمل‭ ‬خارج‭ ‬الجامعة‭ ‬وتغيبوا‭ ‬وتكلسوا‭ ‬فلا‭ ‬أحد‭ ‬يسألكم،‭ ‬وتخاصموا‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬فقركم‭ ‬وكسلكم‭ ‬وتكلسهم‭ ‬وطمعكم‭ ‬فيً،‭ ‬ولينتشر‭ ‬بينكم‭ ‬الفساد‭ ‬مثلما‭ ‬أنثره‭ ‬بشكل‭ ‬مخفي‭ ‬وعلني‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭!‬

إن‭ ‬المدرسة‭ ‬والمعهد‭ ‬والجامعة‭ ‬مؤسسات‭ ‬مصممة‭ ‬أصلا‭ ‬لتنتج‭ ‬وتطور‭ ‬الفكر‭ ‬والأفكار‭ ‬بشكل‭ ‬منفتح‭ ‬على‭ ‬المحيط‭ ‬الإنتاجي‭ ‬الاجتماعي‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬أبعاده،‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬الاستهتار‭ ‬بقيمتها‭ ‬وبنيتها‭ ‬وبيئتها‭ ‬ومواردها‭ ‬البشرية‭. ‬ولم‭ ‬تنجح‭ ‬القوى‭ ‬السياسية‭ ‬التي‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬الحكم‭ ‬بعد‭ ‬الثورة‭ ‬في‭ ‬التوصيف‭ ‬بشكل‭ ‬مهني‭ ‬وشجاع‭ ‬وثوري‭ ‬لهذا‭ ‬الوضع‭. ‬فأغلب‭ ‬السياسيين‭ ‬توجهوا‭ ‬إلى‭ ‬المدارس‭ ‬والمعاهد‭ ‬والجامعات‭ ‬بصفتها‭ ‬معقل‭ ‬المثقفين‭ ‬والنقابيين‭ ‬الذين‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬ربحوا‭ ‬مساندتهم‭ ‬ربحوا‭ ‬معاركهم‭ ‬السياسية،‭ ‬فبئس‭ ‬التجارة‭ ‬الخاسرة‭!‬

هناك‭ ‬رهان‭ ‬استراتيجي‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكسبه‭ ‬أي‭ ‬حاكم‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬وإلا‭ ‬مآله‭ ‬الفشل‭: ‬المؤسسات‭ ‬التعليمة‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬مصانع‭ ‬لإنتاج‭ ‬الأفكار‭ ‬والحلول‭ ‬العملية‭ ‬للمجتمع‭ ‬والتفلسف‭ ‬في‭ ‬نماذج‭ ‬الحياة‭ ‬الممكنة‭. ‬ولأنها‭ ‬كذلك‭ ‬فهي‭ ‬تستدعي‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬كل‭ ‬طاقم‭ ‬المؤسسة‭ ‬التعليمية‭ ‬من‭ ‬المنخرطين‭ ‬في‭ ‬مشروع‭ ‬إنجاح‭ ‬العملية‭ ‬التعليمية‭: ‬أفرغوا‭ ‬وفق‭ ‬مخطط‭ ‬محكم،‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬متوسط،‭ ‬الجامعات‭ ‬والمعاهد‭ ‬والمدارس‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬ليس‭ ‬منخرطا‭ ‬عن‭ ‬وعي،‭ ‬بالمستوى‭ ‬التعليمي‭ ‬والتكوين‭ ‬المطلوبين،‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬التعليم‭ ‬والتكوين‭ ‬والبحث‭. ‬في‭ ‬العشرية‭ ‬التي‭ ‬سبقت‭ ‬الثورة‭ ‬كان‭ ‬مستوى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬60‭% ‬من‭ ‬الطاقم‭ ‬الإداري‭ ‬الذي‭ ‬يعمل‭ ‬بكلية‭ ‬العلوم‭ ‬الانسانية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬بتونس‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬مستوى‭ ‬البكالوريا‭ (‬عن‭ ‬عميد‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭)‬،‭ ‬فكيف‭ ‬لطاقم‭ ‬غير‭ ‬متخصص‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬مصنع‭ ‬الأفكار‭ ‬تحديدا‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬وظيفيا‭ ‬للطلبة‭ ‬والأساتذة،‭ ‬وكيف‭ ‬لوزارة‭ ‬ترفض‭ ‬توظيف‭ ‬متخصصين‭ ‬في‭ ‬علوم‭ ‬المكتبة‭ ‬في‭ ‬مكتبة‭ ‬جامعية‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬ماسة‭ ‬لذلك،‭ ‬وتسمح‭ ‬لبعض‭ ‬طاقم‭ ‬التنظيف‭ ‬أن‭ ‬يصبحوا‭ ‬مكتبيين،‭ ‬أن‭ ‬تحقق‭ ‬الرهان؟‭. ‬وكيف‭ ‬لجامعة‭ ‬لا‭ ‬تحرص‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬طاقمها‭ ‬التعليمي‭ ‬والبحثي‭ ‬متجدد‭ ‬المعارف‭ ‬ومتحمسا‭ ‬للأنتاج‭ ‬المعرفي‭ ‬أن‭ ‬تكسب‭ ‬الرهان‭ ‬المعقود‭ ‬عليها؟‭.‬

ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يدرك‭ ‬من‭ ‬هو‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬الحكم‭ ‬أن‭ ‬المؤسسة‭ ‬التعليمية‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬قد‭ ‬هرمت‭ ‬وتهجنت‭ ‬وأفل‭ ‬أفقها،‭ ‬وأن‭ ‬المدرسة‭ ‬التونسية‭ ‬والانتاج‭ ‬الفكري‭ ‬التونسي‭ ‬اليوم‭ “‬يجبد‭ ‬من‭ ‬العضم‭”. ‬صحيح‭ ‬أن‭ ‬لدينا‭ ‬إنجازات‭ ‬خارقة‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الميادين،‭ ‬ولكنها‭ ‬فردية‭ ‬ومبعثرة‭ ‬وليست‭ ‬مضبوطة‭ ‬بسياسة‭ ‬عامة‭ ‬واضحة‭ ‬وعنيدة‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬الأهداف‭ ‬بإخلاص‭ ‬وجدية‭ ‬والتزام‭. ‬لا‭ ‬مصير‭ ‬مشرق‭ ‬لنا‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬الاستثمار‭ ‬في‭ ‬التعليم‭ ‬وكسب‭ ‬رهانه‭ ‬بوطنية‭ ‬صادقة‭ ‬تعود‭ ‬فائدته‭ ‬على‭ ‬البلاد‭!‬

*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 18 جويلية 2023


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING