الشارع المغاربي – قيس سعيّد: «باجي» جديد؟ / بقلم: معز زيود

قيس سعيّد: «باجي» جديد؟ / بقلم: معز زيود

قسم الأخبار

3 يوليو، 2021

الشارع المغاربي: فور فوزه في الانتخابات الرئاسيّة بنتيجة فاقت كلّ التوقّعات، وصف الرئيس قيس سعيّد صعوده إلى قصر قرطاج بـ»الابتلاء»… اليوم تُنبئ بعض المؤشّرات بأنّه استطاب البقاء على كرسيّ الحكم، باحثا عن صلاحيّات أوسع، فهل تحوّل إلى مثال معدّل من الباجي قائد السبسي الذي تمسّك بالحكم إلى لحظة الرحيل الأكبر. تساؤلات وفرضيّات مشروعة!…

للرئيس قيس سعيّد كلّ الحقّ في اعتبار منصبه «ابتلاءً» نظرًا إلى جسامة المسؤوليّة الملقاة على عاتق من يشغل أعلى منصب على رأس الدولة منذ لحظة أدائه القسم على احترام دستورها ورعاية مصالحها، دون سواها. «ابتلاء» قد يُعمي الأبصار، فطالما شكّل حلمًا راود الكثير من السياسيّين المتضخّمين، حتّى من لا تفوق حظوظهم صفرًا في أفضل الاحتمالات.

لا يخفى أيضا أنّ ابتلاء الرئيس قيس سعيّد قد أبان بعض سماته، على امتداد أشهر طويلة، إذ كانت له آثاره البارزة في الأزمة السياسيّة العميقة التي تشقّ البلاد وتُعمّق الصدام غير المسبوق بين رأسي السلطة التنفيذيّة. هذا الابتلاء بضرورة الإيفاء بالوعود والتعهّدات الانتخابيّة المتمثّلة في تحقيق انتظارات الشعب «الذي يُريد»، يبدو أنّ رئيس الجمهوريّة اعتبره أكبر من كلّ شيء، ولو كان الدستور ذاته. ولذلك حاول رئيس الدولة أن يجعل من رئيس الحكومة مجرّد وزير أكبر تحت إمرته، أسوة بما كان عليه الوزير الأوّل زمن النظام السابق، وفي مخالفة صريحة وبيّنة لمقتضيات الدستور الراهن. في الحقيقة، يبدو أمر هذا النظام السياسي معقّدا ومتضاربًا أحيانا فكيف يسمح، ولو ضمنيّا، للحزب المهيمن بالتلاعب كما يشاء بقرارات الحكومة، فكيففي حين يمنع ذلك عن رئيس الجمهوريّة الذي انتخبه الشعب «انتخابا عامّا، حرّا، مباشرا، سريّا، نزيها، وشفّافا وبالأغلبيّة المطلقة للأصوات المصرّح بها» مثلما ينصّ عليه الفصل الـ75 من دستور 2014؟!.

إكراهات الأزمة…

لم ينفكّ قيس سعيّد، منذ خوضه حملته للانتخابات الرئاسيّة، يُردّد بكونه مختلفا منهجا ومضمونا عن جميع سابقيه وربّما لاحقيه من السياسيّين القدامى والمستجدّين. ومع ذلك لم ير التونسيّون بعد مضي ما يزيد عن عام ونصف العام على تربّعه على كرسيّ الرئاسة شيئا من وعوده المتعلّقة بالتغيير، وإن كانت تعهّدات غامضة وذات صبغة عامّة تتلخّص في الاستجابة لانتظارات الشعب الذي انتخبه بالملايين.

معلوم طبعًا أنّ قيس سعيّد قد جاء من خارج الدوائر المعتادة لعموم السياسيّين. وعلى الأرجح أنّ ذلك أسهم بشكل كبير في سطوع نجمه بين عامّة التونسيّين، لاسيما أنّ النخب السياسيّة قد تسّاقطت سمعتها إلى أسفل السافلين لدى المواطن العادي، وباتت عنوانا مرادفا للانتهازيّة والوصوليّة والتسلّق والفساد والتطرّف وضرب مؤسّسات الدولة وتشويه سمعتها في كلّ مناسبة ومكان. ويكفي تأمّل الفضائح المتواترة التي تحدث بشكل متواتر في حرم مجلس نوّاب الشعب أو يرتكبها العديد من النوّاب خارجه، لنفهم دواعي تراجع منسوب الثقة إلى درجة العدم في محترفي السياسة الجدد أو حتى شيوخها…

واضح إذن أنّ أكثر من صوّتوا لصالح قيس سعيّد خلال الانتخابات الأخيرة، كانوا ممّن سئموا من الوعود الكاذبة والعهود المنكوثة لسائر السياسيّين. كان هؤلاء التونسيّون البسطاء يبحثون حقّا عن التغيير الفعلي والفعّال. وربّما تدلّ نتائج التصويت على الرغبة في معاقبة المرشّحين الآخرين والتصدّي الجماعي لمن يرونهم رموزًا للفساد أكثر من الاختيار الواعي لقيس سعيّد نفسه الذي ما كانوا يعرفون عنه الكثير. وربّما كان يمثّل بالنسبة إليهم الصوت الجهوري الذي يُذكّرهم بأمجاد الماضي الغابر ونقاء النفس الصالحة ونظافة اليد وحتّى الأب العطوف المنقذ من واقع مغرق في العبث والعدم… أمّا اليوم، فلم تبق الأمور كما كانت، بل زادت الأوضاع بؤسا وتعفّنا على كافّة الأصعدة، سياسيّا أوّلا ثمّ اقتصاديّا واجتماعيّا وصحيّا، باعتبار أنّ السياسة تكمن في إدارة الشأن العام، بما ينعكس على سائر المجالات والقطاعات.

وفي المحصّلة، فإنّ شعبيّة رئيس الجمهورية قد تراجعت بدورها، وهو أمر طبيعي ومنتظر بعد أشهر طويلة من ممارسة صلاحيات أعلى سلطة في البلاد دون تحقيق أي تغيير إيجابيّ يذكر في أيّ مجال. تراجعت شعبيّة الرئيس قيس سعيّد أيضا لأنّه تجرّأ على ليّ ذراع حركة النهضة وأصرّ على امتداد أشهر على رفض الانصياع لمحاولاتها المتعلّقة بالهيمنة على دواليب السلطة. وبطبيعة الحال فإنّ الإسلاميّين بشكل عام وأنصار حركة النهضة وحلفاءها التابعين بشكل خاصّ باتوا يُشيطنون رئيس الجمهوريّة، بل ربّما يصوّرونه في صورة «الشيطان الأكبر»، على الرغم من أنّ الرئيس سعيّد قد حاول في حدّ ذاته كسر احتكار المرجعيّة الإسلاميّة وسحب البساط من هؤلاء الخصوم عبر الإيغال في استخدام «خطاب الحقيقة» في تصريحاته وخطبه اعتمادا على التراث والنصّ المقدّس…

وفي الآن ذاته لم ينفكّ سعيّد، طيلة فترة تجاوزت العام، على تضمين خطبه رسائل التهديد والوعيد ذاتها ولو بعبارات وأمثلة تراثيّة متنوّعة، علاوة على الإشارة مرارا وتكرارا إلى الدسائس السياسيّة التي يحوكها البعض ضدّه وضدّ مصالح الدولة. ولا يخفى عن ذي فهم أنّه يقصد طبعا خصومه السياسيّين. وقد بلغ الأمر حدّ تخوين بعض من يقول إنّه يعرفهم جيّدا دون أن يسمّيهم. وربّما كان بصدد التلميح فعلا إلى ممارسات وتجاوزات خطيرة قد جدّت على أرض الواقع ولا علم لغيره بها ولا يسمح عقل الدولة الكشف عنها، باعتبار أنّ عددا من الأجهزة المؤتمرة دستوريّا بأوامر رئيس المجلس الأمن القومي والقائد الأعلى للقوّات المسلّحة تُتيح لرئيس الجمهوريّة الإحاطة بمعلومات دقيقة وفي منتهى السريّة. وفي تونس اليوم بات كلّ شيء واردا دون أدنى اعتبار للأضرار التي قد تلحق بالدولة ومؤسّساتها السياديّة، حتّى أنّ النائب راشد الخياري كان قد وجّه إلى رئيس الجمهوريّة تهمًا ترقى إلى «الخيانة العظمى»، دون تقديم أيّة براهين أو حجج دامغة يقبلها العقل السليم، باستثناء من تُعمي أبصارهم أحقاد القطيع. ونتيجة لهذا التهوّر والاستهتار غير المحدود الذي يرقى إلى درجة الجرم والمسّ بالأمن القومي للدولة والإمعان في استضعافها، لا يزال النائب المذكور يتحصّن بمخبئه «السريّ» بتواطئ عَملة حلفائه المتواطئين، بعد أن أخلّ متلبّسًا بحصانته البرلمانيّة.

ورغم كلّ ذلك نشهد هذه الأيّام تحرّكات غير مألوفة لنزع فتيل الصراع المحتدم بين رئيسي الجمهوريّة والبرلمان، قد تُنبئ بملامح «صفقة توافق» يبدو أنّها طُبخت على عجل، وربّما وُلدت ميّتة.

من الوعيد إلى التوافق!

تمثّل الجديد إذن في لقاء ثنائي جمع الرئيس قيس سعيّد برئيس مجلس نوّاب الشعب راشد الغنوشي بعد انقطاع اللقاءات بينهما لأشهر طويلة. جرى هذا اللقاء، كما هو معلوم، عقب حضور الغنوشي مراسم الاحتفال بالعيد الرابع والستّين للجيش الوطني في قصر الرئاسة بقرطاج. ولئن كان من الواضح أنّ رئاسة الجمهوريّة هي التي طلبت هذا اللقاء بالذات، فيبدو أنّها لم تُفلح في اختيار هذا الموعد المتزامن مع الاحتفال المذكور، حتّى وإن شاءت بذلك أن تُقنع دون جدوى بأنّه مجرّد لقاء بروتوكولي. فهذا اللقاء لا يمكن أن يكون، بأيّ حالٍ من الأحوال، لقاءً عاديّا بعد قطيعة طويلة بين الجانبين. فمن المعلوم أنّ تحرّكات عدّة سبقته مهّد لها القيادي النهضويّ المحوريّ السابق واللاحق لطفي زيتون. وعلى الرغم من أنّ رئيس الجمهوريّة يعدّ من أكثر الشخصيّات الوطنيّة حديثا عن ضرورة الالتزام بالشفافيّة ونقدا لما يحاك في الغرف المغلقة بليل، فإنّها لم تُفصح ولو بكلمة واحدة عن مضمون اللقاء. أما مكتب راشد الغنوشي فقد استنسخ بلاغ رئاسة الجمهوريّة الجافّ المكوّن من جملة واحدة مبهمة، وأضاف له عبارة: «وتناول اللقاء الوضع العام بالبلاد»، وذلك عملا بتعليمات الغنوشي المتعوّد على سياسة الكتمان وفقه التقيّة.

وإذ تؤكّد بعض المصادر أنّ قيادة حركة النهضة كانت قد فرضت شروطا استبقت هذا اللقاء، وطالبت أساسا بألّا يتمّ تصويره بالفيديو تجنّبًا لتكرار سيناريو يُشبه آخر لقاء جمعهما في القصر قبل أشهر طويلة، حين أقدم قيس سعيّد على إظهار نفسه في صورة «الأستاذ» الذي يعطي دروسا قانونيّة لـ»تلميذه» الغنوشي. وهي شروط متوقّعة بل وطبيعيّة أيضا نظرا إلى ضرورة عدم سقوط أي كان في تتفيه الآخر أو تقزيمه، ذلك أنّ التقليل من قيمة رئاسة البرلمان أو رئاسة الحكومة يُعدّ في حدّ ذاته تقليلا من هيبة رئاسة الجمهوريّة، بصرف النظر عن الشخصيّة التي تشغل هذا المنصب أو ذاك.

مؤشّرات مثيرة

في المقابل، تلاحقت المؤشّرات التي تُثبت أنّ هناك محاولات لطبخ اتّفاق مّا قد يُعلي البعض من شأنه ليجعله «صفقة» مكتملة الأوصاف. فبالتزامن مع هذه التطوّرات نشر رياض الشعيبي، وهو المستشار السياسي للغنوشي، تدوينة مسهبة على صفحته بشبكة «فايسبوك» يصف فيها الرئيس قيس سعيّد حرفيّا بأنّه «مرتبك، مضطرب ومشوّش، لا يعرف حتّى ما يريد، ولا كيف يسلك وسط عزلة سياسيّة ونفسيّة تذكّرنا بعزلة المرحوم الباجي قائد السبسي آخر أيامه بقصر قرطاج». وبعد ساعات اضطرّ الشعيبي إلى الاعتذار بعد حذف تدوينته المذكورة التي أعلن فيها عن قرب إقدام الأغلبيّة البرلمانيّة المستقوية على تشكيل حكومة سياسيّة. والأمر مشابه بالنسبة إلى التونسي النهضوي والأمريكي الهوى رضوان المصمودي الذي أخذ يُبرّر بأشكال مختلفة إقدامه على نشر إعلان كاذب يقول فيه حرفيا: «#عااااااااااجل: الخارجية الأمريكية تطالب تونس رسميًّا بتركيز المحكمة الدستورية وإستكمال المؤسسات الدستورية والديمقراطيّة». فقد نشر مكتب رئيس حركة النهضة بلاغين إعلاميّين متلاحقين، ذكر في أوّلهما أنّ الغنوشي «لم يذكر أنّ إلغاء حواره مع احدى القنوات التلفزية الوطنية جاء بطلب من رئيس الجمهورية»، مشدّدا على أهميّة «الحوار البناء مع رئيس الجمهوريّة»، في حين أكّد في البلاغ الثاني على ضرورة «الاحترام الكامل للرموز الوطنية وفي مقدمتها رئيس الجمهورية»…

من الواضح إذن أنّ قيادة حركة النهضة هي التي ردعت منظوريها وطالبتهما بالتوقّف، ولو ظرفيّا عن استهداف رئيس الجمهوريّة في انتظار ما قد تسفر عنه التحرّكات والتوافقات غير المعلنة الأخيرة. ومع ذلك فإنّ راشد الغنوشي يقف اليوم في موقع قوّة، ولا سيما بفضل ضمان ولاء الكتلة البرلمانيّة لحليفه قلب تونس، بعد إفراج القضاء عن رئيسه نبيل القروي. ولا ينفي هذا الأمر، في الآن نفسه، أنّ الغنوشي قد بات يستخدم بذلك سياسة «العصا والجزرة» مع الرئيس قيس سعيّد.

ولا غرابة في أن نرى أيضا معظم من كانوا بصدد شيطنة قيس سعيّد اليوم يمتدحونه غدا في حال أقدم على إبرام «توافق» مع الشيخ الغنوشي على طراز اتفاق باريس بين الشيخين الباجي الراحل والغنوشي الماثل والمتأهّب دائما لاصطياد الفرص التي تُتيح له ولجماعته الحفاظ على النفوذ والتمكّن من أجهزة السلطة ومؤسّساتها. حينها سيقول المشيطنون القدامى أن سعيّد ثاب إلى رشده بعد أن استغنى عن الخيول الخاسرة وراهن على الأحصنة الرابحة. إذن المشكل لا يكمن أساسا في الأتباع، أي في من لديهم الاستعداد الطوعي لتغيير مواقفهم وولاءاتهم في ظرف لا يزيد عن ربع ساعة، سواء في حركة النهضة أو لدى خصومها.

ذهنيّة غامضة

يكمن المشكل إذن في ذهنيّة قيس سعيّد التي مازال الغموض يلفّها. فهل قرّر الرئيس تغيير المسار والتحالفات بعد أن اشتدّ عليه الحصار؟! وهل ركبه هوى كرسي الحكم والرغبة في البقاء التي كانت قد تمكّنت من الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي رغم مرضه العضال، فعمّقت آنذاك حرب الخلافة من حوله؟. لا يمكن طبعا المقارنة بين الشخصيّتين على أكثر من صعيد، غير أنّه من الضرورة التنبيه من خطورة إعادة إنتاج الفكر المخزني بصور جديدة، باعتبار أنّه كفيل بحبك التوافقات غير المبدئيّة والرمي عرض الحائط بمصالح الدولة أمام الإغراءات الواسعة لكرسيّ السلطة!.

نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” في عددها الصادر بتاريخ الثلاثاء 29 جوان 2021


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING