الشارع المغاربي: بعد أحداث سنة 2011 رُفع قيد القانون عن الجمعيّات وتمكّنت من حرية الحركة قبضا ودفعا وتحويلا، وأصبحت جهة من الجهات المموّلة للأحزاب السياسيّة ماديّا وبشريّا لتلعب أدوارا كبرى في كلّ المحطات الانتخابيّة الماضية، ورغم أنّ بعضها تحوم حوله شبهات كثيرة لعلاقته بتمويل التطرّف والإرهاب والتسفير إلى بؤر التوتر، فإن حكم 25 جويلية لم يفتح هذا الملف وحصر اهتمامه في الأحزاب السياسيّة التي لم يتوقّف عن محاصرتها، ولعلّي لا أجانب الصواب إن قلت إنّ أخطر الجمعيّات هي الجمعيّات التي تتوسّل بالدين وبالثقافة في أنشطتها المختلفة لأنّها تستهدف صناّع الرأي العام من صحفيّين وأساتذة جامعات وطلبة وحتى تلاميذ وتقنيي المعرفة وعموم المواطنين، واحدة من أخطر هذه الجمعيّات أسّسها منتسبون سابقون لحركة الاتجاه الإسلامي )النهضة حاليا( سمّوا أنفسهم اليسار الإسلامي وعقدوا مؤتمرا تأسيسيّا سنة 1980 في منزل تميم ترأّسه زياد كريشان، وفي سنة 1982 مكّنهم محمد مزالي -المتحالف مع الإسلاميّين عموما في إطار الصراع من أجل خلافة الزعيم بورقيبة- من رخصة إصدار مجلة سمّوها مجلة الإسلام المستقبلي 15/21، بعد تغيير السابع من نوفمبر وفي فترة الانفراجة التي تلته عُيّن محمد الشرفي وزيرا للتربية لمباشرة الإصلاح التربوي، فكلّف احميدة النيفر بملف التربية الإسلاميّة بصفته مستشارا له في ديوانه لسابق علاقة بينهما، حيث يعتقد هو وغيره من اليساريّين في تلك الفترة أن جماعة النيفر يحملون رؤية حداثيّة وتنويريّة للإسلام تخالف ما عليه حركة النهضة، ولهذا السبب بالذات فُتحت لهم رابطة حقوق الإنسان ليمثّل فيها الجورشي جماعته وكأنه يمثّل تيّارا سياسيّا له وزنه داخل البلاد كما مُكِّنَ الجماعة من الإشراف على الصفحات الدينيّة في جرائد الصباح والرأي والصدى وغيرها، في تلك الفترة أي سنة 1990 تحصّل احميدة على الرخصة لمنتدى سمّاه “منتدى الجاحظ” وتتكوّن هيئته التسييريّة من صلاح الدين الجورشي ومحمد القوماني وزوجته وعبد الرزاق العياري وزياد كريشان وعبد العزيز التميمي وغيرهم، عقد المنتدى في سنواته الأولى بعض الجلسات ولكن بعد جريمة باب سويقة واتجاه الحكم إلى تدمير حركة النهضة وأجهزتها ومحاصرة التيارات الإسلاميّة توقّف منتدى الجاحظ عن النشاط، كما أنّ مكتبة الجديد ودار البراق التابعتين لتيّار احميدة النيفر وقع إغلاقهما ومُنعت مجلة 15/21 عن الصدور بحيث دخل اليسار الإسلامي في حالة سبات شتوي وتحوّل قادته إلى العمل تحت جناح الحزب الديمقراطي التقدمي PDP وجريدته الموقف، بعد أحداث سنة 2011 عاد منتدى الجاحظ إلى النشاط فعقد ندوات لا عدّ لها ولا حصر تدور جميعها حول التلبيس على خلق الله بالتخفيف من شناعة جرائم الإرهابيّين تحت ستار ندوات لمعالجة التطرف لدى الشباب أو الأئمة في الجهات مثلا والاصطفاف وراء الخيار الأمريكي الذي يمثّله ويدعو له مركز الإسلام والديمقراطيّة لصاحبه رضوان المصمودي، خلال الأيام الماضية عقد المنتدى مؤتمرا انتخب فيه أسماء جديدة لتسييره وهو ما دعانا إلى ضرورة كشف الغطاء عن حقيقته.
نشر الأستاذ محمد الحمّار وهو من قدماء اليسار الإسلامي وعضو المنتدى رسالة هامة في جريدة عرابيا بتاريخ 26 أوت 2012 تحت عنوان )خطاب مفتوح إلى الأخوين صلاح الدين الجورشي ورضوان المصمودي: القرار ينطلق من تونس لا من خارجها( تحدّث فيها عن الارتباط الوثيق بين منتدى الجاحظ ومركز المصمودي قال: “سوف يجيء الوقت الذي سأراك (يقصد الجورشي) فيه شريكا عضويّا مع رضوان المصمودي… وكان ذلك سنة 2008...” ومن نتائج هذه الشراكة إمضاء محمد الحمّار نيابة عن منتدى الجاحظ الرسالة الشهيرة التي تدعو الرئيس الأمريكي أوباما إلى التدخّل في بلادنا لفرض الديمقراطيّة وهي الرسالة التي أمضاها رضوان المصمودي والمنصف المرزوقي وسيد الفرجاني وغيرهم، أمّا عن الندوات التي عقدت في تونس وحضرها الغنوشي ومورو وغيرهما من التبّع والأذيال فيقول عنها الأستاذ الحمّار: “ولكن الذي أعيبه عليك في هذا السياق أن من كان يشرف على هذه الفعاليات كانوا معظمهم أمريكان أو كنديّين أو أنقليز عدا بعض الوجوه المصريّة الإخوانيّة مثل عبد المنعم أبو الفتوح، لا أستحضر محاضرا عربيّا مستقلا واحدا ناهيك أن يكون تونسيّا… ولم يقلقني شيء حصل أثناء الندوة أكثر من السلبيّة التي تقبّل بها الجمع المحلي كلمات الخبير الأمريكي في الشؤون السياسيّة مارك لنتش أثناء مداخلته لإبداء رأيه في الكيفيّة المثلى التي تصلح بتونس بخصوص الانتقال الديمقراطي والتي تقول )عليكم أن تحترموا الخطوط الحمراء ولا تتجاوزوها(“، هذا الاصطفاف الذي عليه المنتدى مدفوع الثمن إذ نشر الصندوق الأمريكي لدعم الديمقراطية أنّ منتدى الجاحظ تحصل على 115 ألف دولار سنة 2011 و65 ألف دولار سنة 2013(1)، كما خصّص الصندوق العالمي لمساعدة المجتمعات المحلية سنة 2019 مبلغ مليون دولار أمريكي لجمعيّات من بينها منتدى الجاحظ دون ذكر المبلغ وفي نفس الإطار بيّن رئيس منتدى الجاحظ عبد الرزاق العياري أنّ مشروع جمعيّته يستهدف أئمة المساجد بكلّ من ولاية القصرين ومدينة الساحلين)ولاية المنستير( لتنوير وتطوير خطابهم الديني بتنظيم دورات تدريبيّة في الغرض(2).
لا يخفي اليسار الإسلامي بواجهتيه المجلّة والمنتدى ترويجه للتشيّع الفارسي في صوره المختلفة ومنها الأشدّ تطرّفا التي يحملها الخميني فمكتبتهم )مكتبة الجديد( ودار نشرهم )(دار البراق( طبعت وروّجت كتابات الشيعة الفرس لأسماء كثيرة كعلي شريعتي ومرتضى مطهري وباقر الصدر وغيرهم وبالنسبة للكتب التي لم تتمكّن المكتبة من جلبها من إيران حيث طبعت تقوم بتصويرها وبيعها، وكاتب هذه السطور يمتلك البعض منها رغم أنّ في ذلك اعتداء على حقوق المؤلّفين ولكن لا حرج في ذلك طالما أنّها موجهة للتثقيف الحزبي والدعاية المؤدلجة، هذا النفس الشيعي الفارسي يحضر في كلّ ما يتعلّق بنحلة اليسار الإسلامي البارحة واليوم وغدا كذلك، فاحميدة النيفر المعيّن حديثا رئيسا لقسم الدراسات الإسلاميّة في بيت الحكمة استدعى خلال شهر ماي الماضي المعمّم الشيعي الفارسي محمد علي ميرزائي وهو ليس بعالم دين بل صاحب مواقف سياسيّة بعضها يهمّ الشأن التونسي إذ سبق له أن نصح الإخوانجيّة على صفحته بأن يستعدّوا للسجون كما حصل لجماعتهم في مصر، أمّا عبد الرزاق العياري رئيس المنتدى المتخلي وأحد مؤلفي كتاب التربية الإسلامية للسنة السادسة من التعليم الثانوي أيام كان النيفر مستشارا في ديوان محمد الشرفي فإن صفحته محشوّة بالترويج للتشيّع الفارسي وشعاراتهم وبكائيّاتهم عن الحسين، من ذلك أنه كتب على صفحته “مفتاح النجاة، من لم يكن عليا مولاه فإن الشيطان مولاه اكتبوها في بيوتكم وانقشوها في قلوبكم”، الأمر الذي يؤكّد أن هذا المنتدى هو في خدمة الخطّ الشيعي الفارسي وإن لم يصرّح بذلك فإنّ كتابات قادته ومنشوراته تصبّ في هذا الاتجاه، وحتى نؤكّد ما عليه الجماعة من تشيّع للفرس نجدهم يمارسون التقيّة التي تعني أن يُظهر الإنسان غير ما يُبطن وهو ما مارسه احميدة النيفر مع محمد الشرفي الذي توفي إلى رحمة ربّه دون أن يعلم حقيقة الذي ائتمنه على ملف التربية الإسلاميّة، وبيان ذلك أنه لم يطل بقاء النيفر في ديوان الوزير أكثر من سنتين شنَنْت فيهما حملة أسبوعيّة على اليسار الإسلامي وعلى الجماعة التي باشرت مادّة التربية الإسلاميّة، آتت أكلها سريعا ففي شهر جويلية 1991 صدر أمر بعزل احميدة النيفر وفي شهر أوت من نفس السنة نشر فهمي هويدي أحد أبرز قادة اليسار الإسلامي الذي ينتمي إليه احميدة النيفر مقالا عنوانه (هؤلاء العلمانيّون المتطرّفون) جاء فيه: “كانت قضيّة ما سُمّي بالخطر الأصولي مثارة في إحدى الدول المغاربيّة وتولي وزارة التربية والتعليم شخصيّة ذات ميول ماركسيّة دعت إلى تطوير مناهج التعليم وقالت الصحف آنذاك إنّ هدف التطوير هو تربية الأجيال الجديدة على روح المحبّة والتسامح وليس على قيم التعصّب والعنف، رحّب بعض الخبراء الإسلاميّين بالدعوة وقبلوا بالمشاركة في لجنة التطوير باعتبار أنّ مثل ذلك التطوير المنشود يتوق إليه الإسلاميّون أيضا لأنّه الأكثر تعبيرا عن روح الإسلام ومقاصده. عندما بدأت اللجنة أعمالها تبيّن أن التطوير المطلوب يستهدف )تجفيف منابع التديّن لدى الأجيال الجديدة للحيلولة دون انخراطهم في جماعات التطرّف( هكذا قال لي أحد الخبراء الإسلاميّين الذين لقيتهم أخيرا بعدما أبلغني أنّه قدم استقالته من اللّجنة بعدما انكشفت أمام عينيه حقيقة مهمّتها”(3)، هذا ما نقل فهمي هويدي عن احميدة النيفر سنة 1991 وبعد وفاة محمد الشرفي سنة 2008 كتب احميدة: “ليس هنا مجال الحديث المفصّل عن المشروع الإصلاحي التربوي الذي قاده محمد الشرفي والذي قمت فيه بإدارة مراجعة مناهج الدراسات الإسلاميّة ومقرّراتها مع ثلّة من الأساتذة والباحثين التونسيّين، لكن ما أراه جديرا بالذكر في هذا الصدد أنّني لم أتلق مرة واحدة من الوزير ما يمكن أن يتضمّن تعليمات ذات خصوصيّة إيديولوجية معادية للإسلام عقيدة وسلوكا وحضارة”(4)، فأيّهما نصدّق احميدة سنة 1991 أو احميدة سنة 2008؟.
في كل عشريّة يظهر لنا احميدة النيفر في ثوب جديد ففي القرن الماضي ظهر في ثمانيناته من خلال مجلة 15/21 وفي تسعيناته من خلال منتدى الجاحظ وها إنه يعود في بداية القرن الحادي والعشرين ليظهر مجدّدا من خلال رابطة تونس للتعدّد والثقافة وهي جميعها نسخ طبق الأصل عقيدة وتمويلا.
الهوامش:
1)انظر دراسة ” الوضع الجمعياتي في تونس بين الاستقلاليّة المعلنة وتبعيتها للوبيات السياسيّة والماليّة” للدكتور سامي بن نصر رابطها كالتالي:
http://wwwtunisiafreeblogspotcom.blogspot.com/2015/04/blog-post.html
وجريدة الجمهورية رابطها:
https://www.jomhouria.com/art23593_%D8%AA%D9%85%D9%88%D9%8A%D9%84%20%D8%A3%D9%85%D8%B1%D9%8A%D9%83%D9%8A%20%D9%84%D8%AC%D9%85%D8%B9%D9%8A%D8%A7%D8%AA%20%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%A9%20%D9%81%D9%8A%20%D8%AA%D9%88%D9%86%D8%B3
2) انظر أخبار أون لاين ورابطها:
https://www.akherkhabaronline.tn/ar/ %D9%88%D8%B7%D9%86%D9%8A%D8%A9/99926/2-9-%D9 %85%D9%84% D9%8A%D9%88%D9%86-%D8%AF%D9%8 A%D9%86%D8%A7%D8%B1-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%86%D8%AF%D9%88%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%8A-%D9%84%D9%85%D8%B3%D8%A7%D8%B9%D8%AF%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AD%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D9%81%D8%A7%D8%A6%D8%AF%D8%A9-%D8%AE%D9%85%D8%B3-%D8%AC%D9%85%D8 %B9%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D9%84%D8%AA%D9%86%D9%81%D9%8A%D8%B0-%D9%85%D8%B4%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%B9-%D9%84%D9%84%D8%AA%D9%88%D9%82%D9%8A-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B7%D8%B1%D9%81-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%86%D9%8A%D9%81.html
3) مجلة “المجلة” العدد 601 بتاريخ 20 أوت 1991، ص35.
4)جريدة الصباح بتاريخ 22 جوان 2008.
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 19 سبتمبر 2023