الشارع المغاربي: دعت المفوضية الأوروبية في رسالة موجهة الى وزيرة التجارة إلى تعليق العمل بإجراءات الرقابة القبلية المفروضة حديثا على بعض الأصناف من السلع الموردة معتبرة ان مثل هذه التدابير تمس بجوهر العلاقات التجارية التونسية الأوروبية باعتبار انها تؤدي عمليا إلى إرساء ترخيص مسبق على التوريد. لكن الوزارة تؤكد ان هذه التدابير ترمي الى الترشيد والتحكم في نسق استيراد شريحة من السلع غير الأساسية المشمولة أيضا منذ بداية السنة برفع الرسوم الديوانية مما سيفضي حسب المسؤولين الأوروبيين إلى تقييد حركة التجارة الأوروبية على نحو يتعارض مع التزامات تونس التعاقدية مع الاتحاد الأوروبي ومع المنظمة العالمية للتجارة. ودعت المفوضية لإجراء مشاورات مع تونس حول هذا الموضوع مبدية قلقها الشديد من التوجه نحو توسيع قائمة السلع الأوروبية الخاضعة لهذه القيود بما فيها بعض المكونات المرتبطة بالنشاط الاستثماري الأوروبي مما سيضر بجهود تونس الإصلاحية وبجاذبيتها في مجال استقطاب الاستثمارات الخارجية.
والملاحظ ان الاتحاد الأوروبي الذي تنكر لكافة تعهداته المقدمة الى تونس في إطار قمة مجموعة السبع المنعقدة بفرنسا في ماي 2011، يسمح لنفسه اليوم باعتبار بعض الإجراءات الوقائية المحدودة، خروجا عن التزاماتنا الدولية ويطالب الحكومة بالعدول عنها. ولا يستبعد ان يحقق الجانب الأوروبي مبتغاه مثلما حصل ابان حكومة الفخفاخ التي تراجعت تحت الضغط الغربي، عن قرارها المعلن رسميا في ماي 2020 بإيقاف اللجوء الى الاقتراض الخارجي بسبب انفجار المديونية الخارجية وخروجها عن السيطرة.
وللتذكير، فإن هذه التدابير، التي يعتبر الاتحاد الأوروبي انها مضرة بمصالحه الحيوية، مضمنة بقانون الميزانية والتأخر في تفعيلها يكشف مدى التأثير الأوروبي الغربي المتغلغل داخل الإدارة التونسية وصلب اجهزة الدولة وبعض أجهزة الاعلام التونسية الموجهة التي تتبنى الدعاية الأوروبية الغربية المضللة في مجال التغطية عن حجم العجز التجاري والمالي المنفلت الذي يشكو منه ميزان المدفوعات مع أوروبا وهو ما كان يقتضي تطبيق البنود الوقائية الواردة بالاتفاقيات المبرمة مع الجانب الأوروبي التي تسمح لتونس بتقييد الحركة التجارية والتعاملات المالية الى حين استعادة المالية العمومية توازناتها. ويبدو ان دخول رئيس الجمهورية على الخط لطلب ترشيد التوريد والحد من استيراد الكماليات في ظل الازمة الحادة لتزويد الأسواق بالحاجات الأساسية، هو الذي دفع الحكومة مكرهة لاتخاذ هذه الاجراءات التي زادت من تعميق حالة الاحتقان في العلاقات التونسية الاوروبية.
ضرورة التفكير في مراجعة علاقات الشراكة مع اوروبا
المعلوم ان الاتحاد الأوروبي ومجموعة السبع نجحا طيلة العقد الماضي في دفع تونس للتمسك بسياسة الاندماج في العولمة التجارية عبر بوابة الاتحاد الأوروبي من خلال ما يسمى ببرامج الاصلاح الهيكلي المتواترة مع صندوق النقد الدولي وأيضا بإدماج اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق بالقوانين التونسية. واللافت ان رئيس الجمهورية لم يغير من هذه التوجهات منذ توليه كافة السلطات، رغم انتقاداته المتكررة لنتائجها الحتمية المتمثلة في تفاقم آفات المديونية وتهريب الأموال والعجز المالي والتجاري المرتبطة بشدة بمنظومة اقتصاد السوق التي تسعى حكومته لمزيد ترسيخها.
فقد تم الإعلان مؤخرا عن الاتفاق المبدئي مع صندوق النقد الدولي الذي تحصلت بموجبه تونس على قرض مشروط بقيمة 1.9 مليار دولار، في أجواء مفعمة باحتدام الازمة المالية والاقتصادية فضلا عن تعدّد بؤر التوتر والاحتقان المتصلة بعجز أجهزة الدولة عن الحد من التضخم ومن انهيار الظروف المعيشية للتونسيين مثلما هي عاجزة عن التعاطي بجدية ومسؤولية مع قضاياهم الحارقة وهو ما جسّدته مأساة حادثة المفقودين بسواحل جرجيس وحرمان الاف التلاميذ من حقهم في التعليم…. وكل ذلك في ظل غياب التواصل والتفاعل من كبار المسؤولين المصرّين على إخفاء حجم الانهيار في المالية العمومية باعتباره السبب المباشر لاحتدام ازمة النقص في عديد المواد الأساسية الغذائية واتساع دائرتها في مجال التزود بالطاقة والوقود. وتبدو دعوات رئيس الجمهورية الحكومة لترشيد النفقات والتحكم في المديونية مع حصر الواردات في المواد الأساسية الضرورية، غير مجدية وغير منسجمة مع سماحه لها بمواصلة الانخراط في العولمة التجارية والاستثمارية والمالية القائمة على إعطاء اولوية الانفاق لتسديد القروض القذرة للحكومات السابقة باللجوء الى مزيد التداين والاقتراض الانتحاري الموجه أساسا لتمويل الواردات الأوروبية وتأمين مستحقات وأرباح المستثمرين على حساب متطلبات الشعب الذي اضحى عاجزا في معظمه عن تأمين الحد الأدنى من متطلبات الحياة الكريمة.
وهكذا يتضح ان التحدي الأساسي الذي يواجه تونس اليوم شديد الارتباط بالتوجهات الدبلوماسية والاقتصادية الكبرى وحتمية إعادة التوازن لعلاقاتنا الخارجية باتجاه مراجعة الأطر الاستراتيجية المختلة المنظمة للتعاون والشراكة مع أوروبا وشركائنا الرئيسيين وذلك استنادا الى تقييم شامل لحصيلتها وهو ما لا يبدو مطروحا في أذهان كبار المسؤولين المنغمسين في صراع عقيم على السلطة والحال ان تونس تمر بمرحلة بالغة الخطورة ومفتوحة على أسوإ الاحتمالات. صحيح ان الحديث عن إعادة النظر في الخيارات الكبرى يبدو خارج سياق الاحداث في ظل المأزق السياسي المستحكم وانسداد افق الحوار الوطني الضروري لمواجهة المخاطر الجمة المحدقة بتونس. غير ان التطورات الإقليمية والدولية المتحولة بسرعة في محيطنا الأوروبي والمتوسطي تفرض علينا التفكير في كافة الفرضيات بما في ذلك احتمال حصول تحولات كبرى في موازين القوى الدولية باتجاه بروز عالم جديد متعدد الأقطاب قد يتيح لتونس إمكانية تنويع علاقاتها الدولية والخروج من كافة اشكال التبعية المفرطة إزاء المعسكر الغربي.
لكن التفكير في مثل هذه الفرضيات لا يعني الدخول في علاقة صدامية مع الجانب الأوروبي الغربي سيما ان اطر التعاون القائمة معه تسمح لتونس بتفعيل البنود والفصول الحمائية الواردة بالاتفاقيات التجارية المبرة مع الاتحاد الأوروبي وتحديدا اتفاق الشراكة والتبادل الحر الموقع سنة 1995 الذي يسمح في فصله 35 باتخاذ التدابير الأحادية الظرفية المناسبة لتقييد الصفقات والحركة التجارية الجارية بغرض تدارك الضغوط الكبرى المسلّطة على ميزان المدفوعات علما ان هذه الشروط تنطبق تماما على تونس كما سبق بيانه في عديد المناسبات.
وللتذكير سبق لتونس ان طلبت رسميا خلال عهدة الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي بإجراء حوار استراتيجي مع الاتحاد الأوروبي للتوصل الى إطار تنظيمي جديد للعلاقات التونسية الأوروبية أكثر ملائمة مع مصالح تونس ومقتضيات المرحلة التاريخية التي تمر بها. وقد كشف وزير الخارجية التونسي آنذاك عن هذا التوجه في حديث صحفي لصحيفة “لا براس” صادر في جويلية 2017. لكنه من الواضح ان الجانب الأوروبي غير مستعد للتجاوب مع مثل هذه المساعي ويصر على إبقاء تونس مكبلة باتفاق 95 رغم حصيلته الكارثية علما ان هذا الاتفاق يسمح في فصله 93 لتونس بطلب الخروج من هذا الإطار التعاقدي في غضون ستة أشهر من تاريخ ابلاغ ذلك الى الشريك الأوروبي.
يبقى ان نشير الى ان التفكير في مستقبل علاقات تونس بالاتحاد الأوروبي لا تمليه فقط مقتضيات المصلحة الوطنية في ابعادها الاقتصادية والتجارية سيما في ضوء ما كشفت آخر الأبحاث الأكاديمية والتاريخية حول الخلفية الجيوسياسية الكامنة وراء احداث هذا التجمع والأهداف الاستراتيجية الموكولة اليه غداة الحرب العالمية الثانية من قبل القوى الاستعمارية الأوروبية وفي طليعتها فرنسا. فقد حرص القادة الفرنسيون والاوروبيون غداة الحرب على تكوين المجموعة الاقتصادية الأوروبية وربطها بعلاقات عضوية مع افريقيا لحاجتهم الماسة للسيطرة على ثرواتها وسعيا لإبقاء هذه القارة في دائرة النفوذ الاستغلالي الأوروبي. وسنعود لاحقا بأكثر تفصيل الى هذا المشروع الذي كان وراء بروز مفهوم “الاورافريك” الذي ثبت انه يستمد جذوره من اطروحات عنصرية ونيواستعمارية موجهة ضد القارة الافريقية باعتبارها فضاء حيويا لا يمكن لأوروبا الاستغناء عنه وعن ثرواته المادية والبشرية بأي شكل من الاشكال. وقد تجسد هذا المشروع في اتفاقيات الشراكة والتبادل الحر المفروضة منذ فجر الاستقلال على بلدن القارة الافريقية بما أدى ال انكار حق الشعوب الافريقية في تقرير مصيرها وحقها في الاستقلال والسيادة على ثرواتها ومقدراتها.
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 25 اكتوبر 2022