الشارع المغاربي: على امتداد 10 سنوات كانت تونس على موعد مع حملات بلا هوادة وترسانة قانونية جديدة وهيئة دستورية وجزر للشفافية وصواريخ على المنصات بدعوى محاربة الفساد والنتيجة كانت نجاحا لافتا في محاصرة أبرز الفاعلين في هذه الحرب وفرض حظر إداري واقتصادي عليهم وتحجيم دورهم.. عفوا الحصار لم يطل ممتهني سرقة المالية العمومية والارتزاق من السطو المنظم على مقدرات الشعب والتحايل على الصفقات والقوانين والإجراءات الإدارية وانما استهدف أبرز كتيبة كانت لها الريادة في الاشتباك مع عصابات نهب خزينة الدولة وتفليس المؤسسات العمومية والتلاعب بقوت التونسيين. هي كتيبة كاشفي الفساد والمبلغين عنه وحراس اركان دولة ما انفك ينهشها مقوضوها وأثرياء الأزمات.
طيلة عشرية كاملة برع الماسكون بزمام السلطة والإدارة والمشرعون في ادارة حرب كلامية وتسويقية دون كيشوتية ضد اشباح من الفاسدين بينما باتت أروقة وزارات مثل الداخلية والمالية والفلاحة والصناعة والنقل والطاقة فضاءات لمعارك افتكاك مساحات بين كاشفي الفساد وسراق المالي العمومي في سباق محموم بين صفوف كل شق لإعداد العدة قبل الاجهاز على الخصم. هؤلاء بالوثائق والدعائم والشهادات والتبليغات وأولئك بإجراءاتهم الإدارية التعسفية وقضاياهم الكيدية وشبكاتهم العنكبوية الضاربة في مختلف الهياكل والقطاعات. أسبوعية “الشارع المغاربي” رصدت تجربة ثلة من المبلغين فكان هذا التحقيق.
اختلاس وتدليس في البنك المركزي
يعرّف مكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات والجريمة الفساد بـ “السلوك المخادع أو الاحتيالي من قبل أولئك الموجودين في السلطة” و”السلوك غير الأمين أو غير القانوني خاصة من جانب ذوي النفوذ”. على هذا الأساس تحرك كمال كمون الموظف بالبنك المركزي بعد تفطنه الى اختلاس أموال ودادية موظفي المؤسسة والى تجاوزات في أكثر من مناظرة عمومية للالتحاق بالبنك.
يقول كمون: “تفطنت في 2007 بحكم عملي كمراقب بالبنك المركزي الى ان المشرفين على الودادية لم يكونوا يمسكون حساباتها المالية منذ سنة 2000 وان ميزانيتها كانت تقدر بأكثر من 5 ملايين دينار” مشيرا الى ان الأوضاع لم تتغير الى حين اندلاع ثورة 2011 رغم ابلاغ ادارته بها.
بعد سقوط نظام بن علي أبلغ الموظف إدارة البنك الجديدة بمختلف الإخلالات مدعما موقفه بتقرير مفصل وتشخيص دقيق لما ألت اليه الأوضاع بالودادية. في الأثناء تطورت الاحداث.
يؤكد المراقب ان المشرفين على الودادية قرروا في أكتوبر 2013 التعجيل بطي صفحة التجاوزات الماضية بالسعي لعقد جلسة عامة قصد انتخاب هيئة جديدة وانه أعلم الراحل الشاذلي العياري محافظ البنك المركزي السابق بضرورة وضع حد للتسيب الذي تشهده الودادية لافتا الى ان العياري أصدر قرارا تنظيميا بحل الهيئة المديرة للودادية وتسمية أعضاء جدد والى ان هذا الاجراء غير قانوني ولا يدخل في صلاحيات محافظ البنك.
في 7 جانفي 2016 عين رئيس الحكومة الأسبق الحبيب الصيد المحامي شوقي الطبيب رئيسا للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد خلفا للراحل سمير العنابي فكان كمال كمون من أوائل المبلغين المتصلين بالهيئة بعد ان استبشر خيرا بضخ دماء جديدة في هيئة كانت مكبلة وغير مسنودة ماليا ولوجستيا.
يتذكر المراقب العمومي تجربته مع الهيئة قائلا: “بعد موافاة إدارة الهيئة بكل الوثائق والمعطيات المتعلقة بتجاوزات ودادية البنك المركزي وقفت على مماطلة غير مفهومة في التعاطي مع الملف فلجأت الى القضاء مقدما في أكتوبر 2017 قضية الى وكيل الجمهورية ضد الأعضاء المعينين من قبل محافظ البنك المركزي”.
ويتابع: “عدت مرة أخرى الى هيئة مكافحة الفساد للتبليغ عن تجاوزات مقترفة في مناظرتين وطنيتين لانتداب إطارات بالبنك المركزي بعد وقوفي على شبهة ضلوع أعوان عموميين في المحاباة وافتعال وثائق والتدليس خاصة ان مسؤولا عن الانتداب تدخل لضمان نجاح زوجته عوض التجريح في نفسه للمطالبة بإعفائه من الاشراف على المناظرة. كما استظهر مشاركون اخرون بوثائق مريبة من إدارات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي والجباية والبلدية رغم انتمائهم للوظيفة العمومية في إدارات مثل “الستاغ” و”الصوناد”.
في نفس الاطار يشدد المتحدث على أن بعض الناجحين كانوا محسوبين على حزبي النهضة ونداء تونس.
ويشدد كمون على انه رغم تأكد إدارة التدقيق بالبنك من كل التجاوزات التي أشار اليها رفقة زميلة له استقر قرارها على إيقافهما عن العمل بدعوى ضلوعهما في ثلب زملائهما.
ويواصل: “من جهة أخرى اكتفت هيئة مكافحة الفساد بإحالة ملف الودادية على وكيل الجمهورية متجاهلة في بادئ الامر ملف المناظرات المشبوهة قبل أن تحيله ضد مجهول وهو أمر غير مستغرب، بما اننا اكتشفنا ان إدارة البنك المركزي منحت مجموعة من الحواسيب القديمة الى جمعية تحت اشراف رئيس الهيئة لتوزيعها على بعض المدارس الابتدائية”.
كمال كمون لفت الى بطء الزمن القضائي مبينا ان الأبحاث القضائية المتعلقة بملف ودادية البنك لم تبلغ الى اليوم مرحلة التحري مع أعضاء الودادية منذ أكتوبر 2017 تاريخ رفعه الشكاية، معرجا في ذات الوقت على تواصل وجود من اسماهم أشباه مسؤولين بمؤسسة في حجم البنك المركزي رغم كل ما اقترفوافي حق البلاد من جرائم على حد تعبيره.
وبعد عقود من العمل في البنك المركزي تقاعد كمون دون ان يتم تمكينه من حقه في الترقية المهنية او التعاطي الجدي مع ملفات الفساد التي أثارها. في المقابل تواصل ادارته تجاهل طلبات المحكمة الإدارية لتمكينها من ملفه التأديبي معتبرا ذلك سعيا محموما من قبل البنك لطمس مختلف التجاوزات التي طرأت على الإجراءات التعسفية التي طالته رفقة زميلة أخرى.
مُلاحقة المبلغة بدل الضالعين
تواجه نعيمة باشا الموظفة السابقة بوزارة المالية حكما بالسجن بالإضافة الى إمكانية فرض عقلة على راتبها بعد تبليغها عن فساد مالي بإحدى القباضات المالية بتونس كلّف الدولة خسائر بعشرات الالاف من الدنانير.
حكاية الموظفة تعود الى سنة 2016 عندما توجهت الى وزارة المالية ووزارة الوظيفة العمومية والحوكمة ومكافحة الفساد ثم الى الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد كاشفة عن ضلوع مسؤولين باحدى قباضات العاصمة في اختلاس اموال واسقاط ديون عمومية وافتعال تصاريح جبائية وشطب خطايا من المنظومة المعلوماتية وافتعال شهائد رفع يد في ممتلكات معقولة وشطب خطايا جولان سيارات.
بالتزامن مع تحرك المُبلغة عن الفساد توجه عدد من المحامين وعدول التنفيذ والمحاسبين بشكايات الى وزارة المالية في 30 سبتمبر 2016 للمطالبة بفتح تحقيق سريع وجدي في شأن القباضة المعنية.
واكد المشتكون في مراسلتهم ان أعوان بالقباضة يتعمدون ترك مكاتبهم خلال التوقيت الإداري للعمل كمحاسبين لدى بعض التجار وان مثل هذه الممارسات تزج بهم في وضعيات تضارب مصالح وتعطل شؤون قاصدي المؤسسة العمومية في نفس الوقت.
في ذات السياق أشارت المبلغة في احدى شكاياتها للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد الى ان رئيسها المباشر توسط لاحد المتمتعين بالعفو التشريعي العام لتعيينه بالقباضة المعنية والى ان الموظف العائد بعد فترة من العزل كان يمسك حسابات شركة محاذية للمؤسسة العمومية بالتوازي مع عمله في نفس القباضة.
ولفتت الى ان القباضة تحولت الى ما يشبه مكتب محاسبة في خدمة التجار والشركات على حساب مصلحة القباضة العمومية التي يفترض ان ينصب نشاطها الاساسي على تحسين استخلاص الضرائب والتصدي للتهرب الجبائي.
وشددت على أن مديرا عاما سابقا للمحاسبة العمومية وأمين مال سابق للقباضة المالية المشار اليها ضالعان في شطب ديون جمعيات رياضية كبرى بصفة غير قانونية وعلى انهما اسندا لإحدى الجمعيات شهادة رفع يد لإعفائها من دفع ديون بأكثر من ملياري دينار.
استماتة المبلغة في التصدي للإهدار الممنهج للمال العمومي تسبب في تعرضها لهرسلة إدارية متواصلة.
تقول المبلغة: “أحالني رئيسي المباشر على مجلس التأديب ثم رفض تمكيني من الحصول على راحتي السنوية والأغرب من ذلك انه تم تدليس رخصة مرضية باسمي.”
وتضيف: “تواصل التعسف الإداري في حقي ليتم ايقافي عن العمل لمدة خمسة عشر يوما قبل ان يأتي قرار نقلتي تعسفيا الى قباضة اخرى والأخطر من كل ذلك اني بت ملاحقة قضائيا بعد أن لفقوا لي قضية كيدية.”
وتتلخص تفاصيل القضية التي تواجهها المبلغة في اتهامها بالإساءة للغير عبر مواقع التواصل الاجتماعي بينما تؤكد هي ان بعض الضالعين في نهب اموال عمومية رفعوا بها شكايات بدعوى ثلبهم على موقع “فايسبوك” بعد اعادة نشرها بيانا لمنظمة تدعى “توانسة ضد الفساد”.
وتؤكد المبلغة انها حاولت الاحتماء بالهيئة الوطنية لمكافحة الفساد للحصول على قرار حماية يقيها من التتبعات القضائية وأنها راسلت مختلف الوزراء المتعاقبين على المالية مشيرة الى انها لم تجد اذانا صاغية ولا دعما كافيا في معركتها مع الفاسدين.
وتبين انها كانت ضحية تواطؤ عدة جهات متضررة من كشف التلاعب بأموال دافعي الضرائب والى ان محسوبين على هيئة مكافحة الفساد تعمدوا كشف هويتها لدى ادارتها بما عرضها لصعوبات جمة بلغت إلى حد الحكم عليها بالسجن في قضية تعتبرها ملفّقة.
نعيمة باشا أشارت الى انها وجهت بعد 25 جويلية 2021 نداء استغاثة إلى رئاسة الجمهورية والى انها لم تتلق الى حد الان أي رد.
مُبلغان معزولان بوزارة الصناعة
إثر سنوات طويلة من العمل في الوكالة العقارية الصناعية وجد الموظف حافظ السالمي نفسه معزولا بعد أن قررت الإدارة العامة في 11 جانفي 2022 تسليط عقوبة من الدرجة الثانية عليه.
ولئن يشير القرار الممضى من سهيل شعور الرئيس المدير العام للوكالة المذكورة الى ان الموظف المعزول “ارتكب اخطاء جسيمة تتمثل في الإخلال بواجباته المهنية والمنافية لمدونة سلوك وأخلاقيات العون العمومي” فإن الوثائق التي حصلت عليها أسبوعية “الشارع المغاربي” من السالمي تؤكد انه توجه منذ 2018 الى الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد للتبليغ عن تجاوزات في انجاز صفقات عمومية بأكثر من منطقة صناعية.
السالمي أكد انه مكن الهيئة من معطيات ووثائق تثبت اقتراف تجاوزات خطيرة في أشغال انجاز المدخل الرئيسي للمنطقة الصناعية في معتمدية السبيخة التابعة لولاية القيروان عبر تضخيم الأشغال المنجزة وعدم اتخاذ اية اجراءات ادارية ضد المقاولة المكلفة بالانجاز والمهندس المراقب واستعمال مواد غير مطابقة للمواصفات وعدم اجراء تجارب على المنشآت المائية وخلاص المقاولة رغم ثبوت اقترافها عدة اخلالات”.
يقول الموظف المعزول: “أحالت هيئة مكافحة الفساد ملف تهيئة مفترق المنطقة الصناعية بالسبيخة من ولاية القيرون الى القضاء بعد تأكدها من صحة المعطيات ثم مكنتني من قرار حماية في أفريل 2019”.
ويواصل: “رغم الإجراءات التي اتخذتها الهيئة أوقفت الادارة العامة للوكالة تنفيذ قرار الحماية في مواصلة للتنكيل بي سواء عبر إيقاف راتبي او تعمد نقلتي تعسفيا لاكثر من ولاية او رفع قضايا كيدية عليّ”.
الزمي الصمت
في نفس الوزارة كانت الموظفة المعزولة هناء عياد محل تضييقات ادارية واعتداءات وتنكيل واحالة على مجلس تأديب غير قانوني ثم الطرد التعسفي بعد ان اعلمت في 2013 ادارة شركة البحث عن النفط واستغلاله “سيرابت” بوجود ما اعتبرته “خللا مقصودا في منظومتها الاعلامية وتلاعبا بالمعطيات وافتعال فواتير وانجاز انتدابات مشبوهة”.
وتؤكد هناء ان رد فعل الادارة كان مطالبتها بالالتزام بالصمت والاعتذار من المشرفين على المنظومة الاعلامية مشيرة الى ان ما صدر عن الادارة العامة من ايقاف راتبها وعزل تسبب في تعرض عائلتها الى ضائقة مالية باعتبارها العائل الوحيد لأم طريحة الفراش واخ مريض واخت عاطلة عن العمل.
وتتابع: “انعكس قرار العزل على مستقبلي المهني الذي بات مهددا جراء الرفض المتكرر الذي كنت اجابهه كلما طرقت ابواب شركات اخرى نتيجة ما اتته في حقي ادارة “سيرابت”.
لم تكتف هناء باعلام ادارتها بمختلف التجاوزات بل راسلت هيئة مكافحة الفساد ورئاسة الجمهورية ووزارة الصناعة والطاقة والمناجم التي خصت ملفها بالتحري والتفقد.
تقول الموظفة: “ما أثار استغرابي ان التقرير الذي انجزته تفقدية وزارة الصناعة انصفني باقرار صحة التجاوزات التي اثرتها بخصوص منظومة الاعلامية لكن لم تتم اعادتي الى سالف نشاطي بسبب اشتراط استظهاري بقرار حماية من هيئة مكافحة الفساد المغلقة منذ اوت الماضي”.
وتتابع: “الخطير ان الوزارة لم تتخذ اجراءات جدية في شأن الاخلالات المؤيدة بتقرير تفقد ليتواصل الحال على ما هو عليه بـ “سيرابت”.
وتختم هناء العايدي حديثها بالقول: “ما تعرضت له من تضييقات وتنكيل يكشف ان مآل كل من يحاول التصدي لبعض العصابات المندسة في مؤسسات عمومية هو العزل والابعاد رغم كل المؤيدات التي يستعين بها “.
12 قضية
كان المبلغ عصام البناني على موعد نهاية الأسبوع المنقضي مع فرقة الشرطة العدلية بحي الخضراء للادلاء بشهادته في شكاية كان قد رفعها على إدارة الشركة الوطنية للنقل بين المدن بتهمة الاستيلاء على أموال عمومية وافتعال اختام عمومية.
عصام البناني الموظف المعزول من الشركة المذكورة بسبب تبليغه على الفساد في 2017 دأب منذ سنوات على مقاضاة مسؤوليها رافعا عليهم 12 شكاية.
ويؤكد البناني انه تفطن بعد تصديه قبل خمس سنوات لصفقة فاسدة لشراء حافلات من قبل الادارة العامة السابقة الى ان التجاوزات صلب الشركة طالت أغلب انشطتها والى من قضاياه ضد عدد من مسؤوليها مست التصرف المالي والمناظرات المشبوهة وصفقتي حافلات والات التذاكر والاستيلاء على الوقود.
البناني كان من المبلّغين المتضررين من اغلاق مقر هيئة مكافحة الفساد في شهر اوت المنقضي بعد ان تسبب قرار الغلق في حرمانه من الحصول على قرار حماية جاهز منذ شهور. في المقابل ينتظر المبلغ صدور حكم استئنافي يتعلق باعادته الى سالف عمله اثر انصافه في الطورين الإبتدائي والاستئنافي.
وكانت اسبوعية “الشارع المغاربي” قد تطرقت في مقالين سابقين الى تجاوزات بالشركة الوطنية للنقل بين المدن طالت حوكمة مناظرات انتداب واستغلال حافلة عمومية للاستيلاء على ملك خاص.
ملفات الولاية
“لستَ سوى وجه فقر يرفض الانضمام للمجموعة لتحسين اوضاعه المالية ويفتقد لاي طموح مهني.” جملة لا تزال راسخة في ذاكرة سنية الحرباوي المتصرف بوزارة الداخلية تلخص سنوات تراوحت بين الهرسلة والتهديد والتنكيل والترغيب.
تؤكد الموظفة ان هذه الكلمات صدرت عن وال سابق ببن عروس في محاولة منه لشراء ذمتها بعد استنفاد كل السبل لاسكاتها وثنيها عن كشف مختلف التجاوزات الادارية والمالية وعن احاطة الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد علما بها.
تؤكد الحرباوي ان تجربتها مع التصدي للفساد كانت مريرة ومتشعبة وانها انطلقت في سنة 2018 بكشف تجاوزات في اموال ودادية اعوان ولاية بن عروس وحرق ارشيف مناظرات صلب الولاية وأرشيف التراخيص التي تصدرها نفس الادارة والتلاعب باملاك الدولة وتدليس المنظومة الاعلامية لمكتب الضبط المركزي وانتهت بالوقوف على ملفات خطيرة تتعلق بافشاء اسرار دولة وقضايا كبرى في ميناء رادس.
سنية الحرباوي شددت على ان ملف التلاعب بمنظومة الضبط المركزي يبدو للوهلة الاولى بلا اهمية تذكر وانه مع ذلك يخفي في طياته تلاعبا بصفقات عمومية وتصرفا غير قانوني في املاك عمومية بالمليارات، لافتة الى ان التدليس الذي مس المنظومة الاعلامية تسبب في تغيير معطيات بالغة الخطورة.
في هذا الاطار اكدت المبلغة ان كاتبا عاما سابقا بالولاية رفض الامضاء على التفريط في املاك وعقارات عمومية وان مآله كان الطرد من العمل وان واليا سابقا استغل هذا الطرد للامضاء على بعض الوثائق المريبة مع وضع ختم الكاتب العام في اجراء اعتبرته اجرامي.
وتتابع: “مع مرور الايام تجاوز الخطر المحدق بي التنكيل والمس من معنوياتي وسكب البنزين امام منزلي ليبلغ حد محاولة الحاق الضرر بابنائي مما دفعني الى توفير حماية خاصة لهم “.
سنية الحرباوي بينت من جهة أخرى انها كانت من المستفيدين من اغلاق الهيئة جراء كشف هويتها لدى ادارتها من قبل نفس الهيئة مشيرة الى تعرض الهيئة الى الاختراق من قبل ادارات واطراف لا علاقة لها بمكافحة الفساد.
وطالبت المبلغة بضرورة تطهير الهيئة ثم فتحها حتى تكون ملجأ حقيقيا وجديا لعشرات المبلغين المهددين والمشردين.
اما عن وضعيتها الحالية فاكدت محدثتنا ان وزارة الداخلية التي تعود لها بالنظر انصفتها باعادتها في مارس 2021 الى سالف نشاطها بمقر ولاية بن عروس مشيرة الى ان ذلك لم يمنع الوالي محل التبليغ من حرمانها من مختلف وسائل العمل قبل ان يكلفها عز الدين شلبي الوالي الحالي بدراسة العرائض والشكايات الواردة على الادارة.
في الأثناء لم يتوقّف التنكيل الاداري بالمبلغة خاصة بعد تعيين كاتب عام جديد لم يكتف بعدم اهتمامه بمكافحة الفساد قائلا بصريح العبارة ” ليس من المعقول ان تتعهد موظفة مكافحة للفساد بملفات الفساد الواردة على الولاية” بل سحب منها مهمة دراسة الشكايات والعرائض، حسب تأكيد سنية الحرباوي.
في ذات السياق استغربت الموظفة من تمادي الكاتب العام الجديد في حرمانها من ابسط حقوقها الادارية والمتمثلة في مكتب او حاسوب اداري او حتى آلة طابعة لافتة الى ان ذلك دفعها الى انجاز اشغالها الادارية على نفقتها الخاصة.
ورغم حصولها على قرار من المحكمة الادارية يقضي بتصحيح مسارها المهني وترقيتها الى رتبة متصرف رئيس تقول الموظفة ان الحكم القضائي ظل حبرا على ورق ملتمسة من وزارة الداخلية ورئاسة الجمهورية تفعيل القرار في اقرب الآجال مع تطبيق كل الفصول التي تضمنها قرار الحماية والتي تنص على تمكينها من كافة مستحقاتها المالية ومن مكتب مجهز ومن وسائل العمل وحمايتها امنيا مع الحيلولة دون الهرسلة الإدارية.
جريمة في حق البحث العلمي
انتظرت سامية بوحامدي الطبيبة البيطرية بمعهد البحوث البيطرية خمس سنوات للحصول على قرار من المحكمة الادارية يقضي بحمايتها كمبلغة رغم لجوئها الى الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد للتبليغ عن تجاوزات في معهد البحوث البيطرية منذ سنة 2017.
وكانت الطبيبة قد امدت الهيئة بمعطيات ووثائق عن تجاوزات مالية وادارية صلب ادارتها من بينها الاثراء غير المشروع واستغلال النفوذ وتضارب المصالح والمحسوبية، فضلا عن تصديها لتجاوزات مالية صلب العمادة الوطنية للاطباء البياطرة.
ورغم الحكم القضائي الصادر عن المحكمة الادارية منذ جويلية 2021، واصلت ادارة المعهد حرمان الموظفة من ابسط وسائل العمل.
تقول الطبيبة: “أعاني منذ سنة 2018 من تجميد اداري قاتل. فقد اصبحت اتردد يوميا على مكتبي دون تقديم اية قيمة مضافة او انجاز اية بحوث”.
وتتابع: “سبق لي أندرست بفرنسا اين حصلت على شهادة الدكتورا فقررت العودة الى بلادي حتى اعود بالنفع عليها لكن ما راعني الا ان يتم سد كافة المنافذ امامي بمعهد البحوث البيطرية”.
وتواصل : “لو وفرت لي ادارتي الامكانات الضرورية لتمكنت من انتاج لقاح ضد التسمم المعوي لدى الحيوانات الذي يتم توريده بالعملة الصعبة خاصة انني المختصة الوحيدة في مجال الجراثيم اللاهوائية والسموم بتونس وسبق لي ان انجزت مختلف مراحل هذا التلقيح بمعهد باستور”.
سامية بوحامدي تؤكد انها كانت في وقت مضى لا تتوانى عن السفر الى الخارج على حسابها الخاص لاستكمال بحوثها بمعهد باستور الفرنسي وان رحلاتها البحثية توقفت سنة 2018 بعد احالتها على التجميد الاداري واغراقها في مطبات ادارية مصطنعة.
اما عن مسار ملفها لدى الهيئة فقد استغربت من عدم اسراع ادارتها في استكمال ابحاثها مؤكدة ان ذلك دفعها الى رفع شكاية لدى القطب القضائي المالي والاقتصادي في 2020 وانه ختم في جوان 2021 ابحاثه قبل ان يوجه مجموعة من التهم لمدير معهد البحوث البيطرية.
استطلاع
في سعي منها للاحاطة اكثر بملف المبلغين انجزت “الشارع المغاربي” استطلاعا مس 30 كاشفا عن الفساد وخلص الى ان 90 بالمائة منهم عبروا عن عدم ندمهم عن التصدي لعصابات نهب المال العام رغم تأكيد 73 بالمائة منهم احساسهم بالخذلان تجاه الادارات العاملين بها والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد ورئاستي الجمهورية والحكومة والبرلمان والقضاء.
في هذا السياق فسر الباحث الاجتماعي عادل بالكحلة تعبير نسبة كبيرة من المبلغين عن عدم ندمهم بعوامل جينية مشيرا الى ان بعض الافراد يرثون خصال تحدي الصعاب والتمسك بالقانون والتحلي بالروح القتالية في فضح الفساد.
كما شدد الباحث على تحلي المبلغين عن الفساد بنزعة طهورية تكون دافعا للتشبث برفض اي توجه نحو الفساد مشيرا في نفس الوقت الى دور التراث الوطني الزاخر بنضالات في مجالات مختلفة في تكوين شخصية بعض التونسيين من بينهم المبلغين عن الفساد.
وأشار 64 بالمائة من المبلغين الى ان اداراتهم حاولت بطرق غير مباشرة شراء صمتهم على ملفات فساد مقابل تسوية وضعياتهم المهنية بينما قال 20 بالمائة ان عروض شراء الذمم كانت تاتي مباشرة من اداراتهم ونفى 16 بالمائة تعرضهم الى مساومات مباشرة او غير مباشرة. واعتبر 89 بالمائة من المبلغين المستجوبين ان اغلاق هيئة مكافحة الفساد عاد بالضرر عليهم.
من جهة تؤكد منظمة الامم المتحدة ان الفساد يتسبب في تقويض أهداف التنمية المستديمة ويعمق الفقر وعدم المساواة ويؤدي الى تردي جودة السلع والخدمات وسوء البنية التحتية وانه يساهم في بناء أنظمة اجتماعية مزورة وقائمة على الانانية والغش والتحيل والتواكل.
كما يكرس استشراء الفساد وفق نفس المنظمة الاممية سياسة قائمة على الإفلات من المحاسبة ويغذي التيارات الشعبوية ويرفع منسوب الجريمة المنظمة والإرهاب ويفقد الناس الثقة في القادة وفي النظم الاجتماعية والمؤسسات العامة. أليس هذا حال تونس اليوم؟
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 29 مارس 2022