الشارع المغاربي: عادت العلاقات بين تونس والاتحاد الأوروبي والكتلة الغربية عموما إلى مربع التوتر وعدم الاستقرار على خلفية انزعاج رئيس الجمهورية مما اعتبره إخلالا أوروبيا بالالتزامات الواردة في مذكرة التفاهم الموقعة بين الجانبين بتاريخ 16 جويلية المنقضي بخصوص الهجرة غير النظامية فضلا عن عدم إيفاء الجانب الأوروبي بمخرجات القمة المنعقدة بايطاليا للبحث في معالجة جماعية لجذور هذه المعضلة بما يراعي مصالح كافة الأطراف المتدخلة ويجنب تحميل تونس وحدها تبعاتها الأمنية والاقتصادية والاجتماعية. هذا الموقف تواكب مع منع وفد من البرلمان الأوروبي من الدخول إلى الأراضي التونسية للتقصي حول أوضاع حقوق الإنسان ثم الإعلان عن تأجيل المباحثات التي كان من المفترض أن يجريها وفد أوروبي مع المسؤولين التونسيين في أعقاب تصاعد وتيرة تدفقات المهاجرين الوافدين من السواحل التونسية باتجاه إيطاليا.
وقد عكس هذا الإجراء غير المسبوق هشاشة التفاهمات التي تم التوصل إليها مع الجانب الأوروبي الذي أضحى يتهم تونس ضمنيا بالتقصير في الإيفاء بتعهداتها مما دفعه للتلويح باستعمال القوة البحرية الأوروبية بهدف التصدي لموجات المهاجرين في البحر وإعادتها قسرا إلى السواحل التونسية. وهذا ما أثار حفيظة السلطات التونسية مما بدا استخفافا بجهود تونس في التعامل مع المعضلة وتشكيكا أوروبيا في كفاءة الأمن التونسي وهو ما يستشف من عروض قيادات أوروبية بتقديم الإحاطة الميدانية من الخبراء الأوروبيين إلى القوات الأمنية التونسية في مقاومة شبكات التهريب ومنع مغادرة قوارب الهجرة من تونس باتجاه السواحل الأوروبية .
وفي خطوة تصعيدية غير مسبوقة تم الإعلان عن قرار صادر عن رئاسة الجمهورية برفض تونس مساعدة أوروبية بستين مليون أورو لدعم الميزانية، ويستشف من البيان والتصريحات الرسمية التونسية أن هذا الموقف يعزى إلى الاستياء التونسي من أسلوب التعاطي الأوروبي مع تونس الذي لا يتقيد بمقتضيات الاحترام المتبادل والقواعد المتعارف عليها في العلاقات الدولية بتوخيه منطق التعالي والوصاية مع تونس الى جانب سعيه لتوظيف ورقة المساعدات للمساومة بربطها بوجوبية البقاء في منظومة اقتصاد السوق من خلال الاتفاق مع صندوق النقد الدولي مع تكرار تدخله في الشؤون الداخلية التونسية بخصوص أوضاع الديمقراطية وحقوق الإنسان بتونس فضلا عن الربط بين هذه الملفات وقضية التطبيع مع إسرائيل.
حقيقة الأمر، إن هذه التقلبات المزمنة في العلاقات بين تونس والاتحاد الأوروبي قد تكون مرشحة للاستفحال والتعقيد بحكم ارتباطها باعتبارات جيوسياسية غير معلنة مردها خشية الجانب الأوروبي الغربي من تراجع نفوذه بتونس وفي دول جنوب المتوسط على غرار ما يحصل بإفريقيا جنوب الصحراء وفي الشرق الأوسط حيث تسعى مجموعة “بريكس” لاستقطاب المزيد من الدول العربية والإسلامية الوازنة على غرار ومصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة المعروفة تقليديا بانتمائها وتبعيتها للمعسكر الغربي . غير أنها أضحت تتطلع تفاعلا مع التحولات المتصلة بالصراع العربي الإسرائيلي وبالمواجهة الروسية الصينية الأطلسية لإنهاء الأحادية القطبية لإضفاء المزيد من التوازن في علاقاتها الخارجية وهو ما تجسد حديثا بانضمامها مع إيران إلى كتلة “بريكس” وشروعها في برامج تعاون وتنسيق ذات أبعاد استراتيجية مع روسيا والصين الشعبية تزامنا مع المصالحة السعودية الإيرانية عبر البوابة الصينية.
والمرجح ان الاتحاد الأوروبي ومجموعة السبع غير مرتاحين لكل هذه التطورات ولبوادر انضمام تونس حديثا لكتلة البلدان “المطعبة” مع روسيا والمنفتحة على توسيع دائرة شراكاتها الإستراتيجية مع كتلة “بريكس” دون أن يكون ذلك على حساب علاقاتها الوثيقة مع الشركاء التقليديين مثلما ورد في التصريحات والأحاديث الصحفية لوزير الخارجية التونسي ومنها المؤتمر الصحفي الذي جمعه بنظيره الروسي أثناء زيارته الأخيرة إلى روسيا.
وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى ما تم تأكيده من إرادة مشتركة لتكثيف التشاور السياسي وتوسيع الشراكة باتجاه تنويع قاعدة التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري لتشمل مجالات حيوية جديدة ومنها التكنولوجيا والطاقة النووية السلمية وفقا لتأكيدات وزير الخارجية الروسي الذي شدد على مكانة تونس الهامة كشريك لروسيا في إفريقيا، مشيرا إلى ارتفاع المبادلات التجارية إلى 1.2 مليار دولار بالنسبة للسداسي الأول من السنة الجارية. كما أشار إلى ارتفاع مشتريات تونس من الحبوب الروسية وإلى وصول الدفعة الأولى منها في إشارة إلى أن روسيا بصدد التحول إلى مزود رئيسي لتونس بهذه المادة الاستراتيجة في ظرف تواجه فيه البلاد رهانات مصيرية تتعلق بصعوبة التوصل إلى اتفاق جديد مع صندوق النقد الدولي وفشل منظومة اقتصاد السوق المتداعية بما يقتضي حتمية البحث عن مصادر بديلة للتمويل والتعاون مثلما يقتضي إدخال مراجعات جذرية على الخيارات الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية الكبرى لتونس.
وفي خضم هذه التحولات، عادت القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي بأبعاده الدينية والإستراتيجية إلى الواجهة من خلال “طوفان الاقصى” الذي أعاد خلط الأوراق في المنطقة وفي العالم وجعل قضايا التحرر الوطني في المنطقة العربية محددا أساسيا للأمن والاستقرار الدوليين. وقد أثبتت هذه التطورات المتشابكة أنه لا يمكن فصل النضال من اجل تحرير فلسطين عن معركة التحرر الوطني الجديدة المفروضة في تقديري على جل الدول العربية التي تعرضت بعد الحرب العالمية الثانية وفي ظل الأحادية القطبية إلى أشكال جديدة من السيطرة والهيمنة المعولمة المستندة إلى التحالف الكوني بين المحافظين الجدد واللوبي الصهيوني الداعم لإسرائيل صلب الكتلة الغربية ومنظومة اقتصاد السوق المستندة الى مجموعة السبع والاتحاد الأوروبي والمؤسسات المالية الدولية.
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 10 اكتوبر 2023