الشارع المغاربي: قبل تعيين الوزير الحالي للشّؤون الخارجيّة والهجرة والتونسيين بالخارج نبيل عمّار كان كاتب الدّولة بنفس الوزارة منير رجيبة لا يبخل عن انتقاد الوزير السّابق عثمان الجرندي شأنه كشأن مختلف “المعسكرات” المساندة للرئيس سعيّد بمن فيهم “المساندون الناقدون”. اركان الانتقاد تتلخّص عموما في ما يعاب على الجرندي من جمود وانعدام الحركيّة خاصّة في المناسبات التي كان من “المفروض” ان يكون هو ومنظوريه اكثر ديناميكية ومبادرة في الدّفاع عن سياسات الرّئيس سعيّد في المحافل الدّوليّة متناسين أنّ السّياسة الخارجيّة هي من اختصاص رئيس الدّولة وأن أيّا كان الوزير فإن هامش التحرك يبقى في حدود ما يسمح له به صاحب الحقيبة الاصلي أي رئيس الجمهورية!
غير انه وللأمانة ودون أيّ تجريح في شخص الوزير السّابق عثمان الجرندي، لم يكن صعبا على أيّ ديبلوماسي مِهني أن يتجاوز بوضوح أداء الجرندي الذي ربّما كان لا يصلح أساسا للعب دور رئيس فريق بل أقصى ما يمكن أن يُفلِح فيه هو دور عضو في فريق.
ديبلوماسي كفؤ
ظاهريا وزير الخارجيّة الجديد نبيل عمّار يتحمل مسؤولية تبدو مبدئيّا هيّنة بما أنّه وبداية مطالب بتجاوز ما حقّق سلفه خاصّة أنّه ديبلوماسي مهني تمرّس في عديد المواقع وأثبت نجاعته في مناسبات عدّة كحركيّته المرموقة بعد الاعتداءات الإرهابيّة التي ذهب ضحيّتها عدد من السوّاح البريطانيّين حيث سُجِّل له حضوره في عدّة وسائل إعلام بريطانيّة ودافع عن صورة تونس بكلّ ما أوتي من قوّة ولسان إنقليزيّ فصيح. كما سوّق بكفاءة للرّباعي الرّاعي للحوار الوطني وحصوله على جائزة نوبل للسّلام.
كذلك تحرك بعد انتقاله لبروكسال لتمثيل تونس لدى بلجيكا والاتحاد الأوروبي وربط علاقات بالمنظمات الأوروبيّة وكوّن شبكة علاقات هامّة لا فقط في بروكسال بل وكذلك في سائر دول الاتّحاد الاوروبي… تحمّل هذه المسؤوليّة إلى تاريخ تكليفه بحقيبة الخارجيّة خلفا لعثمان الجرندي !
استبشر عدد هام وخاصّة في صفوف داعمي رئيس الدّولة بهذا التّعيين وسرعة المباشرة وتعلقت أغلب تحرّكات الوزير الجديد الاولى بملفّ العلاقات بالدّولة السّوريّة على خلفيّة كارثة الزّلزال المدمِّر الذي ضرب مناطق شاسعة من سوريا وتركيا وخلّف آلاف الضّحايا فضلا عن دمار قلّ مثيله في الازمنة الحديثة…كلّ شيء كان يدلّ على عودة الروح لملفّ علاقات تونس الخارجيّة في مرحلة صعبة تحتاج فيها الحكومة والرّئيس إلى ديبلوماسي يجيد التحاور مع الدّول المؤثّرة على الصّعيد الدولي لشحذ الدّعم المالي للدّولة التّونسيّة…
نبيل عمّار والعقبة الكأداء
لكن وكأنّ ملفّ العلاقات الخارجيّة لم يكن معقّدا بما فيه الكفاية، لينزل بلاغ مجلس الأمن القومي بخصوص المهاجرين الأفارقة من جنوب الصّحراء وتتضاعف الصّعوبات وتتعاظم التّبعات السيّئة سياسيّا واقتصاديّا. فقد كان ذلك البلاغ صادما للأوساط الحقوقيّة والديبلوماسيّة داخليّا وخارجيّا وزعزع إحدى ثوابت الديبلوماسيّة التّونسيّة منذ زمن حكم الزّعيم الرّاحل الحبيب بورڨيبة فضلا عمّا جاء فيه من ايحاءات لم يرحّب بها سوى العنصريّون وتحديدا أحزاب أقصى اليمين الأوروبية وأنصارها !
لا فائدة هنا في التعرّض لمحتويات ذاك البلاغ فقد تمّ تحليلها وتبيان خطورتها في شتّى المنابر الاعلاميّة التّونسيّة والاجنبيّة. كما لا يتّسع المجال لذكر كلّ التّجاوزات التي حصلت بعد صدوره في حقّ أشقّائنا الافارقة وحتّى مواطنينا من ذوي البشرة السّوداء ولا فائدة حتّى في التعرّض للمحاولات الرّسميّة لنفي تهمة الميولات العنصريّة… ما يهمّنا هو كيفيّة تعامل وزير الخارجيّة الجديد وكذلك كاتب الدّولة الجديد منير رجيبة مع هذا الملف الشائك الذي تحول بسرعة من احتجاجات ديبلوماسيّة إلى خطر أكبر: وضع العلاقات والتعاون الاقتصادي على المحكّ!
في هذا الوضع المعقّد اصلا والذي زاده تعقيدا ذاك البلاغ، تجد الخارجيّة التّونسيّة نفسها مجبرة على الردّ على كلّ “التّساؤلات” حول حقيقة الوضع الاقتصادي والمالي والسّياسي الدّاخلي بما فيه وضع الحريّات يضاف اليه ملفّ شديد الحساسيّة لدى المنظّمات الدوليّة: التمييز والتّعامل اللّاانساني مع المهاجرين !
للأمانة تحرّك وزير الخارجيّة وكاتب الدّولة في كلّ الاتّجاهات لمحاولة “تفسير” ما اعتبره لاحقا الرّئيس قراءة مناوئة لقرار سيادي… ومع مرور الايّام وما اتت به من تنديد دول افريقيّة عديدة بسوء المعاملة التي تعرّض لها مواطنوها ومواطناتها في تونس وشروع عدد منها في إجلاء عدد منهم بلغ الأمر ببعض الدول الإفريقية إلى حدّ استقبال العائدين من قبل مسؤولين كبار على مدارج المطارات. كما ارتفعت اصوات سياسيّين أفارقة للتّنديد ونُشرت مقالات على أعمدة اكبر الصّحف الاوروبيّة…ورغم كل محاولات التدارك والتّذكير بأن “تونس أعطت إسمها للقارّة بأكملها”وغير ذلك ممّا تعوّدنا على سماعه يظل العمل الديبلوماسي مهمّة اصعب واكثر تشعّبا ويتطلّب تدخّلا على اصعدة كثيرة منها تخفيف وقع البلاغ ومحاولة تقديم تفسير مغاير واستغلال شبكات العلاقات للحدّ من التّبعات السّياسيّة وتنشيط حلقات الدّعم من الاطارات التونسيّة المهاجرة … كلّ هذا قام به تقريبا نبيل عمّار وكاتب الدّولة منير رجيبة ! لكن وكما كان منتظرا ومتوقّعا في هذه المرحلة التّاريخيّة المحكومة بالسّلاح الاكثر فتكا بالشّعوب، الاقتصاد،جاءت أخبار بل صيحة فزع اطلقها أنيس الجزيري، رئيس مجلس الاعمال التونسي-الافريقي،على صفحته بموقع فايسبوك مفادها أنّ الوضع تجاوز التنديد وبلغ حدّ مقاطعة بضائع تونسيّة والغاء بعض الطلبيّات وحتّى الصفقات اضافة الى توجيه المرضى للتّداوي الى بلدان اخرى عوضا عن وجهتهم الاصليّة (تونس) وعودة طلبة لبلدانهم رغم سلامة وضعهم القانوني بالتّراب التّونسي والغاء زيارات رجال اعمال افارقة من جنوب الصحراء لتونس وكذلك مؤتمرات ومعارض فضلا عن مخاوف كبيرة لدى آلاف التونسيين المشتغلين في بلدان افريقيّة عديدة..
هذه عيّنة مما يتوجّب على فريق وزارة الخارجية مواجهته والسّعي لتخطّيه لكن هناك سؤال بديهي يطرح نفسه بإلحاح: هل يمكن تخطّي ثمّ فسخ كلّ الآثار التي تركها ذاك البلاغ؟ وكم يلزم من الوقت والجهد والامكانات البشريّة والماديّة لتحقيق ذلك؟ وان توفّر كلّ هذا، وهو امر شبه مستبعد، من الذي يضمن ألا يحدث مستجدّ آخر غير محسوب العواقب؟ لان المسألة في حقيقة الامر لا تتعلّق بكفاءة وزير أو كاتب دولة فحسب لمواجهة المصاعب وإنما بصاحب القرار الاوّل، رئيس الدّولة، الذي عيّن بداية فريقا من وزير وكاتب دولة عملا طويلا بالفضاء الأوروبي في اشارة واضحة لتمسّكه بالعلاقات مع بلدان شمال المتوسّط ولكنّه وربّما لمحاولة التّخفيف من الضغوطات الايطاليّة (التي تقودها حكومة يمينيّة) وقع في خطأ أكبر زعزع علاقات البلاد بعمقها الجغرافي والتّاريخي والاستراتيجي…
حال نبيل عمّار تشبه كثيرا ذاك المشارك في إحدى الالعاب التي كانت تبثّ والتي يُطالب فيها المتباري بصعود ربوة مبلّلة وهو مكتوف الايدي وساقاه حبيستا كيس مليء بالحجارة..
*نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 7 مارس 2023