الشارع المغاربي: حين تُسْقِط الإدارة العُمومية حقها في تتبع ناهبي مقدّراتها يكون السقوط إلى درك أعمق من الاستيلاءات وحين يُقسط بعض المتصرفين في المرفق العام في إفشاء سياسة الإفلات من المحاسبة تتكرّر سقطات البعض للسطو على ألاف اللترات من الوقود ومئات قطع الغيار وحتى مئات الكيلوغرامات من الزقوقو بلا حسيب ولا رقيب. وحين تتضافر سقطات بعض المنتسبين الى الوظيفة العمومية مع مساعي بعض «سقط المتاع» يكون سقوط الإدارة مدويا ويتحول «حاميها إلى حراميها».
«الشارع المغاربي» حصل على عدد من تقارير التفقد المنصبة على التحقيق في سرقات متكررة باكثر من إدارة عمومية ونفذ الى معطيات عن تجاوزات بوزارة الفلاحة فكان هذا التحقيق.
لغز الزقوقو الفاسد!
بينما كان التونسيون بصدد إعداد عصائد الزقوقو، احتفالا بالمولد النبوي الشريف الموافق لـ 18 أكتوبر المنقضي، كان بعض مسؤولي وزارة الفلاحة يبحثون عن حل لتعويض نقص لافت في كميات الزقوقو بأحد مخازن الوزارة.
فقد تم التفطن إلى أن كميات بأكياس من الزقوقو تقدّر بـ 400 كلغ تسلمتها الوزارة من المندوبية الجهوية للفلاحة بالقصرين بعد التثبت من سلامتها، فسدت أو تم استبدالها بكميات فاسدة.
يقول مصدر بوزارة الفلاحة فضّل عدم ذكر اسمه: «ما إن علم بعض المديرين بأن الزقوقو حديث الجني فسد حتى تحولوا إلى فضاء التخزين لتبين لهم ان السوس نخر الأكياس التي لم تتم غربلتها واستثنى أكياسا مغربلة حديثا وأكياسا قديمة.»
ويضيف: «نفى الموظف المشرف على التخزين تعرض مغازته للسرقة أو لاستبدال الكميات السليمة بكميات فاسدة، فقرّر مسؤولو الوزارة الاستعانة باحد المخابر لإجراء تحاليل على عينة من الزقوقو الفاسد.»
وخلصت التحاليل إلى أن الحبوب الفاسدة والتي يقدر ثمنها بحوالي 12 ألف دينار ليست حديثة الجني وانها تعود إلى حوالي تسع سنوات.
وعوض توجه المديرين نحو إعلام التفقدية العامة بوزارة الفلاحة بتفاصيل الواقعة حتى تتكفل بإجراء الأبحاث وتحميل المسؤوليات حاولوا التستر على النقص طيلة عشرين يوما إلى أن بلغ الخبر إلى المتفقد العام.
يقول نفس الموظف: «أفضت التحريات الأولى للتفقدية إلى أن بعض المسؤولين حاولوا تطويق الملف للخروج بأخف الأضرار وإلى إخراج العون المشتبه في ضلوعه في إبدال الزقوقو السليم بآخر فاسد في إجازة مرضية دون إمضاء المدير العام.»
كما وقفت التفقدية على تدليس وثيقة الإجازة المرضية بإضافة إمضاء أحد المديرين بعد تفطن المتفقدين الى خلوها من موافقته، وفق تصريح نفس الموظف.
وبينما كانت التفقدية العامة بصدد استكمال تحرياتها في ملف الزقوقو المفقود، شهدت وزارة الفلاحة إيقافات متصلة بصفقة تزوّد ببرمجية اعلامية تعود الى سنة 2014.
وكان من بين الموقوفين مدير مشتبه في تستره على فقدان أكياس الزقوقو الى جانب سمير الطيب وزير الفلاحة الاسبق ومسؤولين آخرين.
ممتص صدمات مخبأ خلف الحافلة
تشير تقارير تفقد بشركة نقل تونس إلى تعرض العشرات من قطع الغيار للسرقة في أكثر من مستودع.
في 22 جانفي 2019، عثر عون حراسة بالمغازة المركزية للحافلات بالشرقية على ممتص صدمات مخبأ تحت احد الكراسي الخلفية لحافلة تابعة لإقليم باب سعدون. وبتثبت ادارة التفقد في الموضوع تبين انه لم يصاحب خروج القطعة من المغازة وصل تحويل داخلي خاص باقليم باب سعدون.
ويشير تقرير التفقد الى انه «تمت محاولة تسوية هذا الاستيلاء بتوفير إذن مرور Laissez» «Passer للايهام بوجود نقص سابق بتاريخ 7 جانفي 2019.
وبرجوع فريق التفقد الى المنظومة المعتمدة لتوثيق تنقل قطع الغيار اكتشف ان اقليم باب سعدون استلم ممتصَيْ صدمات بنفس التاريخ اي يوم 7 جانفي 2019 وان عدد سلسلة ممتص الصدمات المشكوك في أمره مخالف للعدد المنصوص عليه بإذن المرور.
وثبت لدى المراقبين أن إدارة التصرف في المخزون بالمغازة المركزية لم تصرّح بخروج قطعة الغيار.
وبعد فتح بحث إداري بخصوص حركة قطع الغيار بالمغازة المركزية للحافلات بالشرقية التابعة لشركة نقل تونس وجّهت التفقدية 46 مراسلة إلى إدارة التصرف في المخزون وللجنة الجرد المادي ولإدارة الإعلامية ولإدارة صيانة الحافلات ولاقاليم تونس 1 وتونس 2 وباب سعدون والزهروني وبن عروس التابعة للشركة، واستجوب المتفقدون تسعة أعوان.
98 قطعة مسروقة
ختمت التفقدية أبحاثها مؤكدة وجود فوارق بين المخزون المادي والمخزون النظري في 60 فصلا من فصول قطع الغيار.
واتضح حسب تقرير الجرد المادي ووفق معاينات المراقبين أنه يشتبه في سرقة 98 قطعة تم تقدير قيمتها بحوالي 19 ألف دينار. وأوضح فريق التفقد أنه يصعب حمل بعض القطع التي يشتبه في سرقتها وانه يستحيل إخراجها من الشبابيك العلوية المهشّمة للمغازة المركزية وان نقلها يتطلب توفر إمكانات بشرية ومادية هامة وأنه يتطلب مدة زمنية طويلة.
وجاء في شهادات خمسة أعوان تم استجاوبهم انهم اكتشفوا في مرات عديدة عدم التطابق بين الكميات المصرح بنقلها من المغازة المركزية الى المغازات الفرعية وبين الكميات المنقولة.
ولفتوا الى تفطنهم لعدم التصريح ببعض قطع الغيار التي نُقلت من المغازة المركزية الى المغازات الفرعية.
وتبين ان عددا من أعوان الحراسة لا يتقنون القراءة والكتابة رغم اشرافهم على مراقبة نقل القطع من والى المغازة.
وجاء في تقرير التفقد أن «مراقبة وسائل النقل المخصصة لشحن ونقل قطع الغيار من المغازة العامة الى المغازات الفرعية مناطة بعهدة اعوان الحراسة، وذلك بالتثبت من توفر اذن المرور وبجرد الكميات الموجودة على متن وسيلة النقل ومقاربتها مع ما تم التصريح به في وصولات التحويل الداخلي».
في هذا السياق حمّل موظف بشركة نقل تونس، رفض كشف اسمه، الادارة العامة مسؤولية مختلف التجاوزات والسرقات، مشيرا الى انها هي المشرفة على انتداب حراس اميين والى أنها لم تسع الى تدارك هذا الخلل الجسيم. واعتبر الموظف أن تواصل وجود نوافذ علوية مفتوحة وغير مؤمنة بحواجز حديدية بالمغازة المركزية بما يسهل الوصول على القطع المخزنة بكل يسر يعد دليلا أخر على تواطؤ الإدارة وعلى تشجيعها على نهب مقدرتها. وأشار التقرير الى تكرر سرقة البطاريات في فترة قصيرة رغم تشديد الحراسة وانتشار خبر السرقة في صفوف الاعوان.
ولم يستبعد المتفقدون تورط أعوان المغازة المركزية في تسريب فصول من قطع الغيار مع الكميات المنقولة بالشراكة مع بعض أعوان المغازات الفرعية.
ويلاحظ مراقب حسابات الشركة في تقرير حول انظمة الرقابة الداخلية لسنة 2016 «عدم قيام الشركة باستخراج قائمة في تحركات المخزون اليومية من التطبيقة الاعلامية وامضائها من قبل المسؤولين عن المغازات».
ظاهرة سرقة البطاريات
كانت ظاهرة السطو على البطاريات بمستودعات شركة نقل تونس محل تحقيق آخر من قبل التفقدية العامة بالشركة يوم 6 سبتمبر 2017. واثبتت التحريات سرقة 46 بطارية خلال سنتين.
تقرير التفقد يلفت إلى اعتماد ناهبي قطع الغيار عدة أساليب للسطو على البطاريات.
فقد تأكدت سرقة 18 بطارية مباشرة بعد تركيبها بالحافلات بين شهر نوفمبر 2016 وشهر ديسمبر 2017.
وكنتيجة لهذه السرقات لاحظ المتفقدون أن إحدى الحافلات استهلكت 17 بطارية في أقل من سنتين.
وبرّرت الإدارة الاستهلاك المفرط للبطاريات بنقص صيانتها الدورية وعدم جودة البطاريات المقتناة.
ورغم تكرر عمليات السرقة اكتفت ادارة اقليم تونس 2 برفع قضيتين فقط ولم تقدم عددا دقيقا للبطاريات المسروقة من الحافلات ولم تكشف عن الإجراءات التي اتخذتها للتصدي لعمليات السطو.
أعوان آخرون استولوا على 82 بطارية بالاعتماد على وصولات استهلاك وهمية وبامضاءات مجهولة أو بتقليد امضاء العون المسؤول عن وحدة الكهرباء.
ولم يوفق فريق التفقد في التعرف على أصحاب الامضاءات رغم مراسلة ادارة اقليم تونس 2 في أكثر من مراسلة.
واستغلت طائفة اخرى من الأعوان غياب التسلسل التاريخي في وصولات الاستهلاك للسطو على بعض البطاريات، بينما برّرت الإدارة هذا التقصير بوجود خلل في المنظومة المعلوماتية المعتمدة في التصرف في المخزونات.
ويشير موظف سابق بشركة نقل تونس إلى أن استفحال ظاهرة سرقة قطع الغيار لا يتصل فقط بما هو مخزّن والى انه لا يقتصر على قطع الغيار وانما يطال أيضا قطع غيار الحافلات المعطبة.
ويؤكد أن البعض يستغل ما يسمى بعملية «ترييش» الحافلات المعطبة للاستيلاء على قطع غيار يتم إخراجها من المستودعات تحت جنح الظلام، وان عمليات السطو باتت تستهدف خزانات الوقود في أكثر من مستودع.
احترازات مراقب الحسابات
يلفت تقرير مراقب حسابات حول انظمة الرقابة الداخلية بشركة نقل تونس لسنة 2016 الى وجود جملة من النقائص في التصرف في المخزون مثل:
– عدم اعتماد نفس الطرق في تعداد كميات الوقود الموجودة في الصهاريج بمختلف اقاليم الشركة باستعمال عدادات رقمية واخرى تقليدية.
– عدم امتلاك إدارات الأقاليم ما يفيد خضوع العدادات الرقمية للفحوصات القانونية التي ينجزها المركز الوطني للمترولوجيا.
– عدم امتلاك الشركة جداول تحويل بعض الصهاريج غير المجهزة بعدادات رقمية
– احتواء عدة صهاريج بإقليم الشرقية على كميات من المياه بما يعيق عمليات الجرد
– عدم استغلال الوقود الموجود ببعض صهاريج مستودع الشرقية.
– عدم توفر الوسائل الضرورية لاحتساب الزيوت المخزنة بصهريج قديم في اقليم الشرقية.
– عدم ترصيف وتنظيم الزيوت بطريقة تسهل عمليات الجرد بمستودع البكري.
– استثناء كميات الوقود المخزن في براميل بمستودع طبربة من الجرد.
ويؤكد الخبير المحاسب ان «هذه الوضعية لا تمكن من تحديد القيمة الجملية للمخزون ولا تمكن بالتالي من التفطن لكل الفوارق المحتملة.» 3800 لتر من الوقود لتدفئة مسكن مدير.
في جويلية 2012 تفطّنت التفقدية العامة بوزارة التجهيز إلى استهلاك المدير الجهوي للتجهيز بباجة آلاف اللترات من الوقود فتحرّت في الملف ليتبين ان المسؤول تمتع بـ 3800 لتر من البنزين دون وجه حق.
واكتشف المتفقدون ان المدير الجهوي استهلك الكميات الضخمة في عشرة أشهر فقط من سنة 2012 وانه تم استغلال الكمية المستهلكة لتدفئة المسكن الوظيفي.
وأفاد رئيس ورشة بالادارة الجهوية للتجهيز بباجة ان «عملية تزويد المسكن الوظيفي من خزانات الوقود التابعة للادارة بدأت منذ سنة 1978 وان أغلب المديرين الجهويين الذين مروا بها انتفعوا بهذا الامتياز».
وفي هذا الإطار اقترحت التفقدية العامة أن «تعمل الوزارة على استعادة مستحقات الإدارة نظير الكميات المستهلكة من البنزين دون وجه حق وان تصوغ الادارة العامة للمصالح المشتركة مذكرة عمل للتحذير من مغبة استهلاك الطاقة في غير محله».
تبخر 14 الف لتر من خزان الوقود
في سنة 2011 بلغ الي علم تفقدية التجهيز اختفاء الاف اللترات من الوقود من ورشة الادارة الجهوية للتجهيز بالمنستير فحققت في الامر.
وبعد البحث في مختلف ملابسات الموضوع أكد فريق الرقابة ان خزانات الادارة الجهوية فقدت في 2 سبتمبر 2011 أكثر من 14 الف لتر من الوقود.
وباجراء الشركة الوطنية لتوزيع البترول اختبارا على الخزانات والمعدات نفت امكانية وجود تسرب للكميات المفقودة.
ولئن عجزت التفقدية عن التوصل الى تحديد المسؤول عن اختفاء الكمية الضخمة من الوقود فقد اقترحت احالة الملف الى مصالح المكلف العام بنزاعات الدولة لتحريك دعوى قضائية للكشف عن الضالعين في الاستيلاء على مقدرات المؤسسة العمومية.
كما أشار الفريق الرقابي الى وجود نقائص عديدة في التصرف في المحروقات على غرار:
– التضارب في المعطيات المدونة بدفاتر التوزيع
– عدم وجود محاضر تؤكد التثبت الدوري من المخزون قبل التزود
– الايهام بانجاز جرد سنوي لمحتويات الورشة
– التقصير في المراقبة الدورية وفي مسك السجلات
هكذا اذن تُثبت عينة من بعض تقارير التفقد باكثر من إدارة عمومية تسبب تراخي الادارة وتكريسها سياسة قائمة على الافلات من المحاسبة في استشراء عمليات السطو والاستيلاء والسرقة على مقدرات عمومية بالاف الدنانير ممن أوكلت لهم مهمة حماية الملك العمومي وحراسته من التلاعب والنهب والتصرف غير الرشيد. ألا ينطبق عليهم المثل القائل: «حاميها حراميها؟».
نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 2 نوفمبر 2021