الشارع المغاربي/ جمال الدين العويديدي – جنات بن عبد الله-احمد بن مصطفى : رغم تسارع المُتغيّرات الجيوستراتيجية في العالم التي أفضت إلى تحولات عميقة في العلاقات الدولية بحكم تراجع هيمنة القطب الأحادي الأمريكي-الأوروبي بصورة فعلية، غير أنه على مستوى الوضع الداخلي في تونس ما زال هذا الطرف يصرّ بمساندة وكلائه في الداخل على اختزال الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في تونس حول موافقة صندوق النقد الدولي من عدمه لصرف مبلغ زهيد لا معنى ولا وزن له مقابل تنازلات تستهدف مؤسساتنا وثرواتنا العمومية وبدعوى جوفاء مفادها أن موافقة صندوق النقد سوف تفتح المجال لتدفق أموال من جهات مُتعددة لم يتبين مصدرها بطريقة رسمية خاصة في ظل التراجع الواضح لدور الولايات المتحدة في منطقة الخليج.
هذا التصرف الابتزازي إن دل على شيء فهو يدل على هروب إلى الأمام من طرف القطب الأمريكي-الأوروبي لإحكام قبضته على تونس بصفتها منطقة استراتيجية مُطلّة على الحوضين الغربي والشرقي في البحر المتوسط ومجاورة غربيا للشقيقة الجزائر التي أعلنت انحيازها لبلدان مجموعة ”البريكس” في وقت يشتد فيه الصراع بينها وبين القوى الصاعدة لتكريس نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب.
من هذا المنطلق يبدو جليا أن الاتفاق السعودي-الإيراني الذي تم توقيعه في بكين برعاية الصين بصفتها رمز القوى الصاعدة في العالم يعتبر تحد واضح للولايات المتحدة الامريكية يتأكد يوما بعد يوم من خلال القرار الأخير الذي اتخذته بلدان الخليج بتخفيض إنتاج النفط في منظمة أوبك+ الذي تم بتوافق مع روسيا وإيران. هذه الانتكاسة الجديدة للولايات المتحدة جعلت هذه الأخيرة تكلف «وليام برنس» المسؤول عن جهاز الأمن القومي الأمريكي للقيام بزيارة خاصة للمملكة السعودية في خطوة للتعبير عن لومها لحليفها الاستراتيجي السابق غير انها تبدو خطوة لحفظ ماء الوجه لا أكثر.
إذا ما اضفنا على ذلك ما يجري في القارة الإفريقية من تراجع للنفوذ الفرنسي-الأوروبي تجلى عبر فرض خروج القوات الفرنسية من مالي في مدة زمنية ملزمة حددتها السلطات المالية بشهر. كما تم إلغاء الاتفاق الدفاعي بين فرنسا «وبوركينا-فاسو» ليُفضي إلى انسحاب القوى الفرنسية كذلك. وقد تزامنت هذه الأحداث مع قرار التشاد الأخير بطرد السفير الألماني وتنامي الحركات الشبابية المنددة باستعمار الاتحاد الأوروبي للبلدان الإفريقية الحديثة العهد بالاستقلال حيث تم نهب ثرواتها المعدنية والزراعية ودفعت بشعوبها إلى الفقر والبطالة واللجوء إلى الهجرة السرية. كما سيطرت الشركات الكبرى على مفاصل كل القطاعات الهامة في البلدان الافريقية طالت المواني والتجارة بالخصوص. وقد اشتهرت مجموعة «بولوري” ” Bolloré ” الفرنسية بسيطرتها في إطار العولمة وبرامج الإصلاحات الكبرى لصندوق النقد الدولي على 22 لزمة تصرف في مواني ومحطات نقل لسكك حديدية إفريقية كبرى طالت ميناء ”دوالا” في الكاميرون و66 ميناء جاف ومحطتين نهريتين علاوة على 250 وكالة نقل. وقد أعلن مؤخرا مع مطلع سنة 2023 قراره بالانسحاب من منطقة غرب إفريقيا التي سيطر عليها على مدى لا يقل عن ثلاثة عقود ويتعرض حاليا إلى إحالة مجموعته على القضاء لعدة أسباب تتعلق بتصرفه في هذه اللزمات.
وهي بالمناسبة المجموعة التي تبحث على لزمة للتصرف في ميناء رادس بتونس الذي يتم التهجم على خدماته منذ انطلاق الثورة عبر عملية مُمنهجة تهدف إلى تعطيل سير عمله ثم اتهام الشركة العمومية التي تسهر على تسييره منذ الاستقلال بعدم الكفاءة سعيا لعرضه لصفقة لزمات. وهي الطريقة التي يتم تمريرها عبر برامج الإصلاحات الكبرى التي يتوكل بفرضها صندوق النقد الدولي.
هذه الإنجازات التي تتم في ظل تفشي الفساد والتهريب بإسناد سياسي عسكري فرنسي وأوروبي يعتمد تنصيب مسؤولين محليين طيعين لتحقيق مصالحهم أو العمل على الإطاحة واغتيال كل وطني يعارض هذه المصالح من أمثال «توماس سانكرا» وغيره بالعشرات. أكثر من 200 عملية انقلاب تمت في إفريقيا بين سنة 1960 وسنة 2000 العديد منها متورطة فيها بلدان أوروبية وفي طليعتهم فرنسا.
هذا الوضع الذي دمر اقتصاد تلك المناطق أدى إلى قيام حركات شبابية للمطالبة بالاستقلال الحقيقي للبلدان الإفريقية وبالقطع مع الغطرسة الفرنسية-الأوروبية دفعت بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للاعتراف بهذه الحقيقة وبفشل بلاده في الاحتفاظ بهذه المغانم نتيجة التحولات العالمية الأخيرة التي لعبت فيها القوى الصاعدة دورا هاما خاصة منها الصين وروسيا.
مؤشرات اقتصادية واجتماعية صادمة تُبيّن كيف تم استدراج تونس إلى هذا الوضع المفلس
حول موضوع الاستدراج من الضروري التذكير بالكتاب الذي صدر سنة 2014 في جامعة ستوكهولم بالسويد بتأليف المؤرخين السويديين ”بايو هانسان ”Peo Hansen”” و”ستيفان جونسن “Stefan Jonsson”” تحت عنوان ”أوروبا-إفريقيا: الأصول الاستعمارية للاتحاد الأوروبي” ”Eurafrique: Aux origine coloniales de l’Union européenne ” والذي تمت ترجمته ونشره بدار ”La découverte” في سنة 2022 حيث جاء في مقدمة هذا الكتاب القيم ” أن أحد الأهداف الرئيسية للتكامل الأوروبي الذي تحقق في الخمسينيات هو الحفاظ على مستعمرات أوروبا وخاصة منها الأفريقية” حتى يكون لها وزنا بين العملاقين الأمريكي والسوفييتي الذين خرجا منتصرين من الحرب العالمية الثانية التي أشعلتها الدول الأوروبية الاستعمارية )فرنسا وإيطاليا وبريطانيا وألمانيا ).
لتحقيق هذا الهدف الأساسي تم التنصيص في ”معاهدة روما” للستة بلدان المؤسسة للمجموعة الأوروبية المُوّقع عليها سنة 1957 «أنه يحق لبلدان المجموعة الأوروبية توقيع اتفاقيات شراكة مع البلدان التابعة لمنطقة الفرنك بالنسبة لفرنسا ومع المملكة الليبية والصومال بالنسبة لإيطاليا ”والكنغو” بالنسبة لبلجيكا”وسورينام” بالنسبة لهولندا . وهنا تكتمل الصورة التي أكدها الكتاب بالرجوع إلى الوثائق والمداولات الرسمية التي تم اعتمادها.
تباعا لهذا المخطط تم توقيع أول اتفاق شراكة مع تونس سنة 1969 والثاني سنة 1976 والثالث سنة 1995 وهو اتفاق غير متكافئ أدى إلى تدمير النسيج الصناعي التونسي الذي اسسته حكومات الاستقلال بين سنة 1960 وسنة 1990 عبر قرار رفع المعاليم الديوانية على المنتوجات الموردة من بلدان الاتحاد الأوروبي.
تداعيات هذا الاتفاق، التي رفضت كل الحكومات التي تداولت على السلطة قبل الثورة وبعدها وإلى اليوم تقييمها بكل جدية وبكل موضوعية لكشف الحقائق، تتلخص في المؤشرات التالية:
إفلاس أكثر من 10 آلاف مؤسسة صناعية تونسية بطاقة تشغيل 40 مواطن للواحدة في المدة بين سنة 1996 (بداية تفكيك المعاليم الديوانية) وسنة 2010 سنتين بعد نهاية التفكيك سنة 2008، بشهادة تقرير صادر عن البنك الدولي بالتعاون مع المعهد الوطني للإحصاء سنة 2013 وذلك نتيجة الممارسات المخلة بقواعد المنافسة التي مارستها الشركات الأوروبية بتغطية من طرف بلدان الاتحاد الأوروبي التي ضغطت على الحكومات التونسية لكيلا تطبق قوانين الحماية المصادق عليها دوليا.
ارتفاع مستمر وهيكلي لنسبة البطالة نتيجة التصحر الصناعي. عدد المعطلين عن الشغل يراوح المليون مواطن من بينهم 300 ألف من أصحاب الشهادات الجامعية. وهو ما يفسر انتشار ظاهرة الهجرة السرية وهجرة الأدمغة.
ارتفاع ظاهرة الاقتصاد الموازي الذي يتراوح بين %25 في أقل تقدير و%50 مما يعني اختلال الاقتصاد المنظم وانتشار التهرب الجبائي بصفة خطيرة.
اختلال هيكلي للموازنات المالية الخارجية للبلاد نتيجة التوريد المفرط والعشوائي: من ذلك ارتفاع إجمالي العجز التجاري في النظام العام المعتمد عالميا منذ 2010 إلى مبلغ رهيب في حدود 286,5 مليار دينار بين سنة 2011 وسنة 2022 أي على مدة 12 سنة الأخيرة مقابل 91 مليار دينار فقط في 12 سنة السابقة بين سنة 1999 وسنة 2010 أي بضعف 3,15 مرة يتم تغطيتها بالعملة الأجنبية؟
مما نتج على ذلك تنامي المديونية العمومية إلى مستوى 114 مليار دينار في أقل تقدير يمثل الدين الخارجي منها بين %60 و%70 منها. كما أن المديونية تعد أكثر من %100 من الناتج المحلي الإجمالي الذي يشكو ركودا كبيرا ومستمر منذ سنة 2011 إلى اليوم حيث معدل نسبة النمو السنوي لا تتعدى %1 فقط. لذلك لا يوجد خلق للثروة وللقيمة المضافة على مدى طويل وهو أمر خطير على مستقبل البلاد.
كما تشهد البلاد عملية تستر على المؤشرات الاقتصادية للبلاد المتعلقة بالعجز التجاري بتواطئ مع الطرف الأوروبي وخاصة منه الطرف الفرنسي على لسان سفيره في تونس، عبر وسائل إعلام خاصة، حيث يمعن في ادعاء وجود فائض تجاري لصالح تونس في مبادلاتها مع فرنسا وهو أمر عار عن الصحة. وقد قدمنا ردا معززا بحجج دامغة نُشر بأـسبوعية الشارع المغاربي عدد 330 بتاريخ الثلاثاء 11 أكتوبر 2022، لنفي هذا الادعاء الباطل الذي يستخف بذكاء الشعب التونسي ولكنه لم يرد مثله مثل الإذاعة الخاصة التي تبنت ادعائه بطريقة مضرة للأمن الاقتصادي الوطني وترتقي إلى مستوى لا يليق بمواطن تونسي ويتطلب فتح تحقيق في الموضوع بالنظر لخطورة ما أقدم عليه بالتعامل مع بلد أجنبي استعمر تونس على مدى طويل ونكل بالشعب التونسي.
لكل ما سبق تقديمه البديل المطروح اليوم هو موقف مُوحّد للتحرّر من الهيمنة الخارجية ومن وكلائها في الداخل
هذا البديل يجب أن ينطلق على أسس متينة وواضحة من شأنها أن تجمع الأغلبية العظمى للشعب التونسي ويلتزم كل مواطن على تكريسها بكل أمانة وفي مقدمتهم رئيس الجمهورية وكل الأطراف المعنية سياسية كانت أو منظمات وطنية أو مجتمع مدني. هذا البديل يجب ان ينطلق من قرارات سيادية تعتمد سن قوانين جريئة تتمحور حول دور البنك المركزي التونسي وتقييم اتفاقات الشراكة وحق تفعيل قوانين حماية المنتوج الوطني وحق ترشيد التوريد وبعث مشاريع كبرى لمقاومة التصحر الصناعي في البلاد وتشجيع الإنتاج الزراعي. اين نحن من هذا اليوم والبلاد تبدو معطلة تماما.
من هذا المنطلق وفي علاقة بالموقف من الهجمة الابتزازية التي تتعرض لها البلاد من الطرف الأمريكي-الأوروبي لدفع البلاد إلى تنازلات مهينة وتفاعلا مع موقف رئيس الجمهورية الذي عبر عن رفضه تقديم التنازلات المطلوبة داعيا إلى ضرورة التعويل على الذات كبديل على الابتزاز الأمريكي-الأوروبي غير انه أولا لم يطلب من الحكومة التي عينها والتي تشتغل تحت مسؤوليته مباشرة لتفصح بكل وضوح:
- عن تفاصيل تلك التنازلات وخاصة فيما يتعلق بالمؤسسات العمومية وبجميع القطاعات التي تنشط فيها.
- أن تقبل فتح كل الملفات المعنية للنقاش والتقييم الموضوعي والجدي خاصة في مسألة الدعم لبيان وجوده من عدمه. نذكر من ذلك مسألة دعم المحروقات حيث تتحصل الدولة على أداء على الاستهلاك وأداء على القيمة المضافة مرتفعا جدا يصل إلى نسبة %52 من سعر اللتر الواحد؟
من ذلك أيضا فاتورة الكهرباء والغاز التي أصبحت تتكون من أربع فواتير منها أداء لصالح الطاقات المتجددة وأداء لصالح الجماعات المحلية وأتاوى لصالح الإذاعة والتلفزة الوطنية بخلاف التسعيرة التصاعدية لاستهلاك الكهرباء والغاز وجميعها يخضع للأداء على القيمة المضافة؟ فكيف يمكن الحديث عن دعم؟
كذلك المطلوب من رئيس الجمهورية توضيح موقفه أمام الشعب التونسي حيث من جهة تمسك برفضه القبول والتوقيع على تنازلات من شأنها أن تُنهك وتُفقّر غالبية الشعب التونسي وهو مُحق في ذلك ولكنه من جهة أخرى عيّن حكومة تعمل تحت مسؤوليته المطلقة صادقت على هذه التنازلات في مجلس وزاري بعد التفاوض مع صندوق النقد الدولي وأعلمته بالمصادقة مثله مثل الأطراف المعنية وفي مقدمتها الاتحاد الأوروبي وهو موقف متعارض مع موقف رئيس الجمهورية. كما أن هذه الحكومة صرحت على لسان وزير الاقتصاد والتخطيط أنها لا تملك بديل عن صندوق النقد الدولي وكان على رئيس الجمهورية ان يُطالب الحكومة بالعمل على إيجاد بديل وطني يُمكّنه من اتخاذ قراره في الرفض على بينة وعلى أسس متينة تُطمئن الشعب وكل الأطراف التي تتعامل معها البلاد في الداخل والخارج وترفع كل لبس عن الموقف الرسمي التونسي.
*نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 11 افريل 2023