الشارع المغاربي: في كتاب “صعود وسقوط الحكام العرب الابديين ” The Rise and Fall of Arab Presidents for life ،حاول “روجر اوين” تفادي تلك المقاربة “الاستشراقية”، اي تلك التي تحيل الى “ثقافة القبيلة” و موروث “الاستبداد الشرقي ” أو تأصل “عنف الدين الاسلامي” ليقول ان هؤلاء الحكام هم نتاج لظروف تاريخية معيّنة ، اتت بهم الى رأس السلطة ، ثم حاولوا بكل الوسائل ادامتها ، معتمدين على اجهزة الدولة التي يحولوها الى مزرعة خاصة وملك مسيّج، ثم والأهمّ انهم يراقبون بعضهم البعض للاستفادة والعبرة ، وليست الجامعة العربية “خيمة العرب” الا ملتقى لتبادل التجارب من اجل استدامة الحكم بكل الوسائل.
والثابت انه حتى حين تدركهم الشيخوخة ويفلتون من تراجيديا النهايات المؤلمة التي وصل إليها العديد منهم ، قتلا وسحلا ومحاكمات مطوّلة، ويتذكرون الموت كنهاية لسرمدية حكمهم ، فأول ما يفعلونه هو تشييد قبور تتماهى مع قصورهم في قبح بذخها وتكلفتها العالية لموارد بلدان انهكوها واستباحوا ميزانياتها ، هم وبطانتهم وافراد عائلاتهم … على اعتبار ان الموت، بالنسبة اليهم، ما هي الا لحظة عابرة ،لضمان مواصلة نفس اسلوب الحياة…بعد الحياة .
طبعا في غمرة الصلف والتسلط واستصغار شعوبهم ،يصعب على الحكام فهم دروس التاريخ والاتعاظ بها ، وحده ابن خلدون ادرك مخاطر الاستبداد على الحكم والشعوب في تاريخ مبكر واستخلص ان ” للدول اعمار طبيعية تماما كما للاشخاص” وان الاستبداد هو نذر بشيخوختها وانهيارها ، اذ بعد عنفوان الدولة وطفرة التشريك في الحكم و”المشورة” يأتي “انفراد الواحد وكسل الباقين عن السعي فيه” حسب تعبيره، وطبعا الاستبداد ليس خطأ المستبد فقط ، بل كذلك مسؤولية الذين تكاسلوا او تامروا أو تملقوا…
ومن حسن الحظ ان الشعوب تستفيد من تجارب بعضها أيضا ، تماما مثل حكامها، اذ اظهرت الانتفاضات العربية ان شعوب المنطقة تسلك نفس الطريق للحرية والعدل حين تكون مطالبها متماهية وحين تدرك حجم قوّتها وقدرتها على اختراق اجهزة القمع التي سيّجها الحكام لعقود ، والتي ظنّ الجميع انها محصّنة وابدية ما بقى الحاكم في السلطة …
ولكن حتى حين تستفيق الشعوب من غيبوبتها وتخترق حاجز الخوف الذي بنته الانظمة عبر ادواتها القمعية والدعائية ، فان ذلك لا يضمن المرحلة الثانية ، مرحلة بناء دولة الحرية والعدالة التي حلمت بها وذلك لان تعقيدات الواقع تحوّل الحلم ، احيانا ،الى شبه كابوس ، او على الاقل ترجئه لسنوات أو حتى عقود، وذلك لان ضحالة العقل السياسي الذي زادت من تفقيره قرون الاستبداد و عمى الايديولوجيا المحنّطة من ناحية و ثقافة الخنوع والاستكانة التي تأبى الاجتهاد والمغامرة والتغيير و التي تنتظر الزعيم المنقذ عوض المبادرة والثقة في البناء المشترك من ناحية اخرى ، تظل عوائق وعوامل ارتداد ، رغم طفرات الصحو والثورة والتوق الى الحرية.
كانت تونس مثالا لكل هذا: عقود من الاستبداد والقمع تلتها انتفاضة فريدة في مطالبها وسلميتها وسلاسة سردياتها ولكنها عرفت انتقالا عسيرا ومتقلبا لم يخلو من ارتدادات ومخاطر، كان للنخب السياسية والمدنية دور في منعرجاتها.
في الصائفة الماضية ، ترجمتُ مقالا لأحدى الصحف الالكترونية الفرنسية البارزة ، المقال للصحفي المتميّز تيري بريزيون ،الذي يرى ان التونسيين ، في مرحلة اليأس، يفكرون في “قيصر” ما ، أي زعيم ملهم وقائد فذ ، يوقف حالة الفوضى والعنف وترذيل السياسة التي اشاعتها قيادات منتخبة من الشعب دفعت بالبلاد والشعب، معا، الى منزلقات صحية واقتصادية واجتماعية كارثية، اضافة الى مسؤوليتها في انسداد الواقع السياسي.
وهكذا رأى كثير من التونسيين في السيد قيس سعيد المنقذ من تلك الازمة: فالرجل لا ماض سياسي له ولا حزب يسنده وهو قادر على مواجهة “فساد النخبة” بنظافة يديه وصدق سريرته التي لم تفسدها اغراءات السياسة،
لذلك رأى العديد منهم في لحظة 25 جويلية 2021بداية الخلاص من سيطرة سياسيين شوهوا السياسة ومن ازمة اقتصادية متشعبة، فالسياسيون “الفاسدون” سيندثرون بمجرد جمع الرئيس لكل السلطات وازمتنا ستحل بمجرّد استرجاع الاموال المنهوبة التي ستجعل “خزائن الدولة تفيض”، لكن ما لم يدركه التونسيون هو ان نظافة اليد مهمّة في السياسة ، لكنها غير كافية لقيادة بلد منهك يحتاج الى حنكة وتجربة وقدرة على التحاور والتجميع والاقناع، ويحتاج ايضا الى مؤسسات واحزاب ومجتمع مدني قوي ،وان قضية استرجاع الاموال المنهوبة هي اعقد من مجرد حسن النوايا ، اضافة الى انها ، حتى في حال استرجاعها كلها ، فإنها لن تملأ خزائن شبه مفرغة …
ما لم يدركه كثير من التونسيين ايضا في غمرة نشوتهم ان السيد قيس سعيد يرى نفسه حاملا رسالة في الحكم تكاد تكون مقدسة، وهو يعتبر ان الشعب سلّمه التفويض الكامل الذي لا مكان فيه للمؤسسات المستقلة ، ولا للأحزاب السياسية والمنظمات الوطنية ، وحتى اولئك الذين ساندوه، من الاحزاب والمنظمات، اما بسبب ازمات حكم طالت أو شماتة في الاسلام السياسي أو تملقا أو محاولة لإيجاد موقع في المشهد الجديد، فقد خاب املهم، والحقيقة انهم صبروا كثيرا ودافعوا باستماتة لا مثيل لها عن مشروع الرئيس الذي لا يدركون كنهه و يجهلون تفاصيله ، وبرروا كل الخطوات التي اتخذها، كلاما وكتابة ، غير عابئين بمدى شرعيتها او مطابقتها للدستور والقانون أو حتى مدى عدلها…
ونفس الشيء يقال بالنسبة لبعض الاسماء الكبيرة في القانون الدستوري والعلوم السياسية، فقد كان الاعتقاد السائد لدى العديد من المواطنين السذج مثلي ان عهد استعمال رجال القانون لتبرير كل خطوة تتخذها السلطة قد ولّى ، وان العلاقة بين السلطة والقانون لها اتجاه واحد، اذ السلطة هي التي يجب ان تخضع للقانون وليس العكس ، وان مصلحة البلاد ، وليست قرارات الحاكم، هي التي يجب ان يأخذها اهل الاختصاص في الاعتبار، فلماذا لا يتعظ هؤلاء بالتاريخ القريب والبعيد ؟ هل كان ذلك بسبب العدالة الانتقالية المشوّهة التي عرفتها تونس حيث لم تقدم ما يكفي من الدروس كي لا “يعيد التاريخ نفسه؟”…… سيدرك الجميع الان ، مرة اخرى ، ان الاختصاص، مهما كانت ألمعيته ، لن يكون مفيدا ان لم تصاحبه قناعات -ومكابح – ديمقراطية وحقوقية وحتى ما سمّاه ادوارد سعيد “الحسّ الاخلاقي “…
والخلاصة اننا ادركنا بعد تحديات المرحلة الاخيرة أنه لدينا، حتى بعد 2011، عدد لابأس به من “المثقفين التبريرين” الذين بدوافع متعددة يمتهنون تسويغ قرارات السلطة القائمة ، ويرددون صداها ويهاجمون خصومها ، اكان هؤلاء من “جنود الفيس بوك” الحاملين لشهائد عليا أو رجال قانون أو قيادات حزبية و شخصيات اعلامية ، وهم في ذلك غير عابئين بما يخبئه لهم المستقبل من مصير ، مصير قد يتجاوز السخرية والاستهجان الحاضرين الى التحقيق والتتبع ، وهنا لا يمكننا الا ان نستحضر نقد المفكر الفلسطيني، ادوارد سعيد، للذين يتحولون الى حصان طروادة تستعمله السلطة في معاركها الوهمية : “اذا اردت ان تراعي ولي نعمتك ، فلن تستطيع ان تفكر كمثقف ، انما انت مريد أو تابع … ولا يجب ان يغيب عن ذهنك ان التبعية العمياء للسلطة في عالم اليوم هي افدح الاخطار على كينونة حياة فكرية اخلاقية نشطة.”
ويبقى ان لكلّ ثقافته وتربيته وشخصيته ولكّل قراره في اختيار موضعه في الحياة والمجتمع ، له ان يختار بين ما يراه حقا بيّنا وبين ما يرنو اليه من حظوة أو منفعة شخصية قد تزول بزوال ولي النعمة والمثل التونسي بليغ هنا: “النفس نفسك وانت طبيبها وين تحط نفسك تصيبها”.
افتتاحية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 31 ماي 2022