الشارع المغاربي: 1- كيف انتهت تونس الى الوضع المأساوي الذي هي اليوم فيه ؟ وهل من ضرورات تاريخها أن يأتي عليها حين من الدهر تكره فيه على أن تنقلب انتصاراتها إلى هزائم ؟ كيف نفسر التناقض بين مد ثوري أراده شباب مدرسة الجمهورية أن يكون انتصارا لدولة الاستقلال وارتقاء بها الى درجات الدولة الوطنية الديمقراطية ، فإذا هو الانحدار إلى دركات الهلوسة بفتح تونس على يدي كبير رهبان الخوانجية فتحا ذكّره بفتح مكة على يدي رسول الله ؟ وهل مكر بالشعب أمرّ من مكر من ارتقي الى الحكم بانتخابات ديمقراطية –ظاهريا في الأقل – ليعلن مباشرة قرب قيام الخلافة السادسة ؟ 2- لذلك كان 25 جويلية خيارا مرا ولكنه ضروري.3- ولكن كيف نفسر التناقض العميق القائم اليوم بين اختيار وطني صحيح ومسار سياسي كسيح فتح الابواب على مصراعيها لرياح داخلية وخارجية ،ليس لعاقل أن ينتظر منها خيرا ، لعل أعتاها ”دستور الجمهورية الجديدة”؟ انه الاصرار على القول حتى حين يكون قلب من تحدثه ”في صمم
* I*
لنسم ما وقع يوم 14 جانفي 2011 كما شئنا فلا مشاحة في الألفاظ بل . ومما لاشك فيه ان القوى الاجتماعية التي خرجت تنادي ”بالشغل والحرية والكرامة الوطنية ”وفي مقدمتها شباب مدرسة الجمهورية ، هي قوى وطنية اندرجت مساعيها –ولو بشكل لايعي حقيقته – في سيرورة ارتقاء الدولة الوطنية ذاتها الى مستوى ارقي من مستويات الاستجابة لطموحات عالية كانت هي التي غرستها في المجتمع التونسي .وكان ذلك يتطلب موضوعيا نفي بنية اقتصادية وسياسية واجتماعية لم تعد قادرة على حمل ما أنتجت فكان من الطبيعي أن تزول ،لتحل محلها بنية أرقى . غير ان أسبابا عديدة هيأت السطو على تلك ” الثورة ”لتدفعها في اتجهات جمعت- في مجملها- ظلمة الفكر وظلم الفعل .ففي مقابل الحق في الشغل تنامت البطالة ، وزاد الفقر ، ،وتراكمت الديون،وزهد فينا المستثمر، وخملت الحياة الاقتصادية جملة وتفصيلا حتى أنخرم التوازن الاجتماعي انخراما ليس من اليسير تداركه .وفي مقابل الحرية شاعت ’الاغتيالات السياسية ’والاعتداءات على القوات المسلحة وأمن المواطنين ، وانتشرت ثقافة الشعوذة ، وأوكار تفريخ الارهاب ونسف مكاسب الجمهورية …وفي مقابل الكرامة الوطنية ’اصبح الكثير من اصدقاء الامس يرون في التونسي إرهابيا بالفعل او بالقوة، وعزّ في الدنيا من مازال يحترم جواز سفرنا أو يثق في حكوماتنا .وليس يعنينا تدخل الأجنبي في شؤوننا الا على قدر ما يكون دليلا على تواطأ لا وطني معه في الداخل.ولا ريب ان هذا المسار دام اكثر مما كان يجب ان يدوم حفظا لمسار التحول الديمقراطي ومراعاة لمدى صبر المواطن على ما لاخير فيه ’مثل صبرنا على مذلة مجلس النواب المقبور .
**II**
لذلك كان القرار الذي اتخذه رئيس الدولة في 25جويلية 2021 قرار ا سليما اقتضاه واجب الحفاظ على سلامة الوطن ،وانقاذ ه من استعمار داخلي لايقل شراسة عن الاستعمار الخارجي ،اذ يلتقي عند بؤرة فاعلة واحدة هي شل الإرادة الجمعية وتعجيزها عن الفعل والانجاز .وما كان لتلك البادرة ان تلتفت إلى الدستور أو القوانين الجارية ،اذ أن تحرير الوطن من الاستعمار عمل ثوري لا ينضبط إلا لمحدداته الذاتية:حق الشعب في تقرير مصيره واسترجاع سيادته . لذلك كانت جميع ”العكاظيات ” الدستورية، و المحاجات القانونية التي تلت تلك البادرة الثورية ،مما لا يحتاج إليه ، إذ أن مضارها كانت أكثر من نفعها، لأنها ساهمت بقوة في نشر الاعتقاد المزيف أن ثورة الشعوب يمكن أن تساس بالنصوص القانونية ، بدل ان تكون جميع التشريعات ماينتهي اليه العمل الثوري ،فيكتب ليمضي في حياة الشعوب .وتلك ظاهرة مرضية سميتها في مناسبات عديدة ”بالتشريعوية Juridisme ” .وقد بدا لي أن الاّقوم كان أن يقوم الجميع ، مجتمعا مدنيا ،ومثقفين وقانونيين وعلماء اجتماع واقتصاديين ومؤرخين ومفكرين عامة بقيادة رئيس الدولة الى مرحلة جديدة من مراحل التحول الديمقراطي ، فضيلتها أنها جعلت ”الأسوأ وراءنا ولكن الأصعب أمامنا.
غير أن الأمور جرت على منهج غير سليم ، إذ انخرط ”أهل الحل والعقد” في تلك العكاظيات التشريعوية ” ، بدءا برئيس الدولة والمؤيدين لبادرته والمعارضين لهاعلى حد سواء ،في الداخل والخارج ،مجمعين في وثوقية مؤسفة على رد ”الظاهرة السياسية ” الى مجرد ”عمل قانوني ”،واستبدال المعالجة الجمعية المتأنية بالتفرد المكابر بالسلطة .ومن ثمة تعمق التناقض بين البادرة الثورية الصحيحة والمسار الإجرائي الخاطئ .
وهكذا افسد الرئيس على نفسه الدخول الى التاريخ الوطني ،من ناحية اولى، وعطل استئناف التحول الديمقراطي ،من ناحية ثانية ، وأحيا من ناحية ثالثة مقبوري 25 جويلية فعادو ا إلى التظلم والتباكي على الديمقراطية ودولة القانون والمؤسسات التي لم يدخروا جهدا في تخريبها منذ أواخر سبعينات القرن الماضي في إطار تحالف آثم مع المندسين في الحزب الاشتراكي الدستوري ،ثم في التجمع الدستوري الديمقراطي .وقد استفحل ضررهم بالبلاد خاصة منذ ارتقائهم الى الحكم بأساليب قالت فيها محكمة المحاسبات رأيها بشأنها .وليس مما يحتاج إليه التذكير بأن ذلك التمشي الانفرادي لم ينجرعنه أي شيء يذكر فيحمد ،لا في اصلاح القضاء ،ولا في مقاومة الفساد ،ولا في استرجاع الاموال المنهوبة، ولا في مقاومة الغلاء الفاحش والبطالة المستشرية ، ولا حتى في مواجهة تراكم الأوساخ تراكما حول بعض مدننا الى مزابل…وأخشي ما نخشاه ان يكون ضرر الخوانجية بعد”خروجهم من الحكم” أشد مما كان علية يوم كانوا الحاكمين على النحو الذي يستشف من”دستور الجمهورية الجديدة” !!
***III***
والحق انه يعسر على من تعود قراءة كبار فلاسفة ”القانون الدستوري ”من افلاطون وارسطو حتى هوبس وروسو ومونتسكيو وكانط ،مرورابشيشيرون فالقديس أوغستين ثم الفارابي وابن رشد والقديس طوما الاوكيني وغيرهم –ان يرى في هذا الدستور ماترتاح له النفس ويطمئن له العقل .فقد طغت على محرريه الذين استأنس بهم السيد الرئيس نزعة هي اقرب ما تكون الى اللاوعي بذاتها ، تميزت بما يشبه الجحود والظلامية واللاوطنية . -/1 – فأما الجحود فيطرح إشكالا أخلاقيا بدرجة أولى ، وما كان للسيد الرئيس الحريص على نظافة اليد ان يقع في في شبهة منه .فلا نظافة للأيدي إلا بطهارة الضمائر وسلامة القلوب من الحقد .ولن يبنى مجد على نكران حق ووفاء للتاريخ .ولا خير في السياسة ان لم تكن عمدتها اخلاقية بما تشترطه- روحا غالبة ومضمونا دقيقا –من الانتصار اللامشروط للحرية، وما توجبة من إخلاص للحقيقة الموضوعية .فجميل من واضعي هذا الدستور أن يذكروا دستور ”الميزان ” الموضوع للتونسيين منذ أوائل القرن السابع ،ولولم يعرفه أحد ، ودون ان يكون له تاثير يذكر في حياة التونسيين ، ،ولكن الأجمل أن يذكروا دستور 1959 الذي انبنت عليه دولة الاستقلال حتى اليوم .ولا تثريب على اي كان حين يذكّر بوجوب القطع ”مع الظلم والحيف والفساد والاستبداد” ، ولكن الحقيقة تدعو الى الاعتراف بأن دولة الاستقلال ما كان لها ان تنجز ما أنجزت ، لو كانت تلك سيرتها في التونسيين .ولعلم هؤلاء”المختصين في القانون الدستوري ” الغرباء عن تاريخ الوطن اسوق بعض الشواهد على ما اقول .فمن سنة 1960 الى 2010 مررنا من نسبة75 /00 من السكان فقراء الى اقل من 5 /00 .ولم يكن عدد المعاهد الثانوية يتجاوز 15 سنة 1960فصار اكثر من 1403 حاليا ومن 2000 طالب سنة 1960 الى حوالي 400 الف ومن حوالي 200 طبيب اي طبيب لكل 200 الف ساكن الى 12000 اي طبيب لكل 900 ساكن ومن 47 سنة كأمل في الحياة عن الولادة الى اكثر من من 74 سنة حاليا ومن توفر الكهرباء بنسبة 30/00 الى حوالي99 /00 اليوم.ومن لم يقدر على تصحيح أخطائه، لن يقدر على ”تصحيح مسار التاريخ” !!!
ونستبين مما أسلفنا أن الدستور الجديد قام على نكران تضحيات اجيال من التونسيين مثله في ذلك مثل ذاك الذي سكن قرطاج في غفلة من الزمن في زمن التاسيسي وصاح ”تونس وجدناها خرابا” او مثل ”هييئة الحقيقة والكرامة” التي تاهت عن الحقيقة والكرامة..
2- واما الظلامية فهي القاسم الثاني المشترك بين واضعي هذا ”الدستور” والخوانجية بجميع فصائلهم وكتائبهم .فتونس ليست جزءا ءا من اي شيء كان بل هي دولة ذات سيادة قائمة بذاتها خلافا لما تنص عليه الفصول 5 و6 و7 فضلا عن أنه ما من معنى قانوني او سياسي يركز في الأذهان او في الأعيان لشيء اسمه ”الامة الاسلامية”ولا يمكن بحال تحويل انتماء عقدي او شعور وجداني الى أمر دستوري الا حين نريد ان نجعل حكامنا ايمة وخلفاء اي حين نخطط في بلاهة الى محو الدولة المدنية .وأضيف الى ذلك أنه لا وجود منذ ثمانينات القرن الماضي لشيء ”اسمه المغرب العربي الكبير ”حيث قضى قادته الخمس بتسميته ”الاتحاد المغاربي” .ولعلم من لم يعلم من ”خبراء القانون الدستوري” أنّ دستوري دولتين منه يعتمدان لغتين رسميتين العربية والامازيغية .ثم ان تونس بلد متوسطي وأغلب معاملاته الاقتصادية والثقافية والعلمية والتكنولوجية مع دول المتوسط .كذلك كانت عبر تاريخها الطويل وكذلك ستبقى الى ان يرث الله الارض وما عليها .
-غير ان أعجوبة هذا الدستور هي أنه فرض على الدولة في فصله الخامس ان ”تعمل وحدها على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف ”.وليس يخفى أنّ اضافة عبارة ”في ظل الديمقراطية” لاتغير من حقيقة ارادة التسلط على الضمائر ومصادرة الحق في حرية العقيدة والراي . واي دعيّ تجاسر يوما على تعريف مقاصد الاسلام ؟ فهي تارة ”الحكمة” و’العلل’ و تارة ”المصالح المرسلة او ”الارادة” او التوجه ” و”العزم ” .وهي تارة اجابة عن سؤال لماذا ؟ وهوسؤال باح عند هذا ويمنع عند ذاك، وفقا لنظرية مستطاع الفكر الانساني .ولا نعدم من يمكن ان يحرم البحث في المقاصد باعتبار ان سؤال المقاصد هو سؤال لماذا اي تفسيري أو تبريري وهوما لايصح في الله لاّن الله ”لايسأل عما يفعل ” ولذا كانت محاولة الوقوف على مقاصد الشر ع او الاسلام ضربا من التجاسر على المقام الرباني بادعاء الفوز بفهم مقاصده حين وضع هذه القيمة او تلك .
وقد بدا لي أن خير من كتب في هذا الموضوع التونسي الطاهر بن عاشور و الموريتاني بن بيه لكن ما من واحد مهما تجاسر على وضع تعريف واضح ومتميز لفكرة المقصد اذ ان لفظ “المقاصد ” لفظ مشتت المعاني لا يمكن بحال من الاحوال تقنينه والزام الدولة بتحقيقه الا على ذات المعنى الذي يقال عليه الزام الدولة بخدمات لا تحصى ولا تقدر عليها كتوفير الشغل والصحة والتربية مع فارق أساسي ليس اخطر منه على مستقبل المجتمع التونسي ،حيث انه كلما دار القول على ”الاسلام ” او “الشريعة” او ”المقاصد الاسلامية” ’الا وقام الف ”عالم ”والف” خبير” يعيبون عليك طريقتك في التنفس وفي حمد الله على انك تونسي.
3-والحق ان هذا الدستور مصيره الإهمال غدا مهما كانت نتائج استفتاء 25 جويلية ، لضحالته ولأنه جاء على غير الصيغ التي تقتضيها الديمقراطية وخاصة لأنه لا يستجيب الى ما تقتضيه الوطنية في كل زمان ، ولاسيما زمن الزوابع العالمية بما في ذلك ريح ”الولايات المتحدة الابراهيمية” ، التي تملي علينا مزيد التعلق بتونس .لذلك اكتفي بالإشارة الى مجلس النواب القادم الذي سيقرر امر نظام الحكم وما يراه صالحا في دساتيرنا كلها .واقترح عليه ان ينظر مليا في الفصل الاول من قانون التعليم لسنة 1991 و2002 وللقانون الأساسي لجامعة الزيتونة وديباجة مجلة حقوق الطفل .فهذه القوانين قامت على التمييز دون فصل بين ”الهوية الوطنية التونسية” وهي واحدة وتلزم بالولاء لتونس ولتونس وحدها من ناحية والانتماء الحضاري وطنيا ومغاربيا وعربيا واسلاميا ومتوسطيا وافريقيا عالمية .فالهوية واحدة مستقرة والانتماء متكثر مفتوح .ولكن هل من سميع ؟ ام ”رب مستمع والقلب في صمم.
*افتتاحية العدد 318 من اسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ 19 جويلية 2022