الشارع المغاربي:
بين عجز الميزانية (25 مليار دينار) وعجز الميزان التجاري في النظام العام يفوق 18 مليار دينار
التطورات التي يشهدها العالم والتي تزامنت مع اندلاع جائحة كوفيد-19 في أواخر سنة 2019 وتفاقمت بعد اندلاع الحرب بالوكالة في أوكرانيا في بداية سنة 2022 بين روسيا وبلدان حلف الناتو، تحمل في فعالياتها بعدا استراتيجيا هاما يتلخص في سعي القوى الدولية والإقليمية الصاعدة (الصين وروسيا والهند وإيران) لتقويض سيطرة القطب الأحادي الغربي الذي يُهيمن على العالم منذ بداية السبعينات سياسيا واقتصاديا وماليا وعسكريا. هذه الصراع بدأت تتجلى تداعياته عبر تراجع ظاهرة العولمة التي استفادت منها اقتصاديا بعض البلدان ذات القدرة الإنتاجية المتميزة وفي مقدمتها الصين وألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية بينما تراجع المردود الاقتصادي لعديد البلدان الأخرى من بينها بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا.
لقد بينت جائحة كوفيد-19 مدى محدودية التعويل على المناولة في البلدان الخارجية التي تعتمدها البلدان الغربية خاصة لتعزيز قدراتها التنافسية. حيث اكتشفت خطورة هذه التوجه الذي هدد سلسلة الإنتاج في عديد البلدان الصناعية الكبرى في مقدمتها الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا بالتعطيل نتيجة توقف الامدادات الخارجية من قطاع الغيار والمواد النصف مصنعة الضرورية التي تُستعمل في الصناعات الكبرى مثل صناعة السيارات والطائرات وصناعة الأدوية وصناعة الأسلحة وغيرها. مما دفع هذه البلدان المتضررة إلى مراجعات سريعة أهمها قرار تشجيع إعادة تمركز الشركات التابعة لها داخل عبر سن قوانين تمنح تشجيعات مالية وجبائية هامة لكل شركة تنشط في الخارج من أجل إعادة التمركز في الداخل. وهذه الظاهرة سوف تقلص الاستثمار الخارجي الذي ما زالت تنتظره الحكومات التونسية بصفته طوق نجاة.
كما شكلت الأزمة الروسية-الأطلسية الغربية صدمة كبيرة لبلدان الاتحاد الأوروبي الذي بدأ يتصدع من الداخل نتيجة الضغط الأمريكي للاصطفاف حول موقفها الداعي لفرض عقوبات على روسيا بدون مراعاة أهمية الامدادات بالطاقة التي تتحصل عليها من روسيا والتي تُمثّل تقريبا %45 من حاجياتها السنوية من الغاز الطبيعي بل وتصل إلى حدود %65 في بعض البلدان مثل المجر وألمانيا والنمسا.
تضارب المصالح بين بلدان الاتحاد الأوروبي أفضت إلى خلافات عميقة خاصة بعد تفاقم الأزمة الاقتصادية حيث تراجعت نسبة النمو وارتفعت نسبة التضخم في البلدان الغربية بلغت %9,1 مؤخرا في البلدان الأوروبية مما قوّض القدرة الشرائية للمواطنين نتيجة ارتفاع لأسعار وأجج الوضع الاجتماعي. كما أدى هذا الوضع إلى الترفيع في نسبة الفائدة المديرية من طرف البنك المركزي الأوروبي تزامن مع تراجع تاريخي لقيمة اليورو امام الدولار الأمريكي مما سيُعمّق الازمة حيث تتزود البلدان الأوروبية بالنفط بالدولار الأمريكي.
لقد تم التركيز على الوضع داخل بلدان الاتحاد الأوروبي لما له من علاقة مباشرة على الوضع الاقتصادي والاجتماعي في تونس. حيث يُمثّل الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي الترويكا الرهيبة التي تتحكم في الوضع الداخلي التونسي منذ ثلاثة عقود عبر مناورات وصلت إلى حد الاستخفاف بالشعب التونسي وبنخبه مثل الادعاء الباطل بأن المبادلات التجارية مع هذه البلدان يفضي إلى فائض تجاري لصالح تونس. والحال أن مبادلاتنا التجارية مع الاتحاد الأوروبي تمثل تقريبا %50 من العجز الإجمالي للبلاد؟
الترويكا الدولية تتستر على خطورة الوضع الاقتصادي في تونس
عندما يتم التستر من طرف الاتحاد الأوروبي والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي بتواطئ مع الأسف من طرف السلط التونسية وخاصة منها البنك المركزي التونسي ووزارة التجارة على هذا الوضع الذي يؤدي إلى التأكيد بأن ميزان الدفوعات في تونس غير سليم وغير دقيق لأنه غير مطابق للمعايير المعتمدة عالميا منذ صدور النشرية السادسة لدليل ميزان الدفوعات التي أصبحت نافذة المفعول منذ سنة 2010.
مع التذكير بالمناسبة أن البنك المركزي اعترف بمخالفته للمعايير الدولية عبر رده في جريدة الشارع المغاربي عدد 276 الصادر بتاريخ الثلاثاء 7 سبتمبر على ما طرحناه من اختلال للمحاسبة العمومية وصرح للتونسيين أنه شكل بمعية المعهد الوطني للإحصاء فريقا خاصة لتدارك الأمر وتصحيح المسار. غير أن هذا الوعد بقي حبرا على ورق إلى اليوم رغم خطورة الموضوع الذي يمس بالأمن القومي الاقتصادي للبلاد.
الغريب أن كل الحكومات التي تداولت على السلطة بما فيها الحكومة الحالية تبدو فاقدة لأي رؤيا لهذا التحول الاستراتيجي الذي يجري في العالم خاصة في المنطقة الأوروبية والذي من المفروض أن يُمكّن تونس من تعديل مواقفها سعيا لفك الحصار المضروب على البلاد من طرف هذه الترويكا.
إن عدم الاعتراف بثقل المديونية التي أصبحت غير قابلة للتحمل سواء كان من طرف الدائنين وفي مقدمتهم بلدان الاتحاد الأوروبي والمؤسسات المالية الدولية أو من طرف السلط التونسية يعتبر مؤشرا لدفع ممنهج نحو توريط البلاد في وضع يُسهّل عليهم عمليات الابتزاز للسيطرة على مقدرات الوطن وهو ما يجري عبر اللزمات التي تحصلت عليها البلدان الأوروبية في الطاقات المتجددة وفي مقدمتهم ألمانيا علاوة على جرها للتطبيع مع الكيان المحتل. وهو ما صرح به السفير الأمريكي المُعيّن حديثا علنا في مداخلته أمام الكونغرس.
لقد شكل تدخل صندوق النقد الدولي في العديد من الدول في العالم منذ أكثر من ثلاثة عقود محور جدل كبير كثيرا ما أدى إلى هزات اجتماعية وسياسية عنيفة في علاقة بالإملاءات التي دأب على فرضها مقابل تقديم السيولة المطلوبة للتغطية الجزئية على عجز ميزان الدفوعات لديها.
من خلال الاطلاع على القانون الأساسي لصندوق النقد الدولي يتبين من الفصل الأول أن من أوكد مهامه تتلخص في “منح الثقة للبلدان الأعضاء عبر وضع الموارد العامة للصندوق على ذمتهم مقابل تقديم الضمانات المناسبة، لتمكينهم من فرصة إصلاح اختلال التوازنات في ميزان الدفوعات التابعة لهذه البلدان من دون اللجوء إلى اتخاذ إجراءات من شأنها أن تضر بازدهار الاقتصاد الوطني والدولي” ويعني بذلك من دون اللجوء إلى ترشيد التوريد الذي يعتبره مس بازدهار الاقتصاد الوطني والدولي.
كما ينص فب خاتمة هذا الفصل ” طبقا لما سبق المطلوب الإسراع بتخفيض الإخلال في توازنات ميزان الدفوعات للبلدان الأعضاء” ويؤكد على ” أنه في جميع سياساته وقرارته يعتمد صندوق النقد الدولي على الأهداف المنصوص عليها في هذا الفصل الأول”.
خلاصة القول أن مهمة صندوق النقد الدولي الأساسية هي المحافظة على التوازنات المالية لجميع البلدان الأعضاء والتي تتجلى من خلال ميزان الدفوعات الذي تصدره البنوك المركزية لكل بلد عضو.
غير أنه في الحالة التونسية يتبين ان صندوق النقد الدولي بتواطئ مع أطراف محلية وقوى إقليمية (بلدان الاتحاد الأوروبي) يتستر على الإخلال الخطير الذي يشوب ميزان الدفوعات حيث نسبة تغطية الواردات بالصادرات لا تتجاوز %30 وهي حالة نادرة في العالم وشديدة الخطورة على البلاد وعلى مستقبل أجياله.
وقد أصدعنا بهذه الحقيقة لممثلي صندوق النقد الدولي سواء عبر الرسالة المباشرة التي صدرت بجريدة الشارع المغاربي عدد 252 بتاريخ الثلاثاء 16 مارس 2021 أو مباشرة إثر لقاء تم مؤخرا مع ممثلي الصندوق. ونحن في انتظار رد رسمي حول هذا الموضوع الخطير.
كما يتبين من خلال القانون الأساسي لصندوق النقد الدولي أنه لا يوجد أي نص يُمكّن هذه المؤسسة المالية الدولية من فرض شروط لليّ الذراع من قبيل توقيع المنظمة الشغيلة مع الحكومة على برنامج تقشفي يعتمد تجميد الأجور وعدم الانتداب في الوظيفة العمومية ورفع الدعم والتفريط في المؤسسات العمومية بدعوى “إصلاحات كبرى”.
والدليل على ذلك أنه بمجرد ردة الفعل الصادرة عن المنظمة الشغيلة والرافضة لهذا الشرط المذل تراجعت الترويكا الدولية بسرعة خوفا من اندلاع بؤرة اضطرابات اجتماعية كبيرة هي في غنى عنها في الوضع الراهن الذي تعيشه بلدان الاتحاد الأوروبي. مما يؤكد وجود مناورات كبرى تُدار على حساب تنمية البلاد وعلى حساب حق الشعب التونسي في تقرير مصيره.
في السداسي الأول لسنة 2022 ارتفع العجز الإجمالي إلى 43 مليار دينار من بينه 18 مليار عجز تجاري
اثر المصادقة على قانون المالية لسنة 2022 في شهر ديسمبر 2021 تبين أن العجز الإجمالي لميزانية الدولة تم تحديده بمبلغ 18,76 مليار دينار الذي يستوجب اقتراض خارجي في حدود 12,65 مليار دينار وقروض داخلية في حدود 7,33 مليار دينار كما يتبين من الجدول التالي الصادر بالرائد الرسمي حول قانون المالية المذكور
الفصل 7 ـ يرخص بالنسبـة لسنة 2022 أن في يسـتخلص مـوارد خزينة بما قدره 000 000 673 18 دينار
وقد تم تحديد هذا العجز على فرضية سعر النفط ب75 دولار أمريكي للبرميل ولم يتم التعرض لمستوى سعر الدينار مقابل اليورو والدولار. بالنظر للارتفاع الكبير الذي وصل إليه سعر برميل النفط منذ بداية السنة تزامنا مع اندلاع الحرب الروسية-الأطلسية في أوكرانيا وزيادة على ارتفاع سعر النقل البحري وسعر الحبوب تقلص قيمة الدينار أمام الدولار الأمريكي يمكن تقدير العجز بما يفوق 25 مليار دينار في السداسي الأول لسنة 2022.
كما عرفت البلاد ارتفاعا خطيرا في العجز التجاري في النظام العام المُعتمد عالميا في حدود 18,2 مليار دينار في مُوفّى شهر جوان 2022 كما يتبين حسب الجدول التالي الصادر عن المعهد الوطني للإحصاء:
ليبلغ العجز الإجمالي إلى حدود 43,2 مليار دينار في السداسي الأول لسنة 2022 والحال أن التسريبات حول المفاوضات بين الحكومة وصندوق النقد الدولي تتمحور حول منح 4 مليار دولار أمريكي تصرف على مدى أربع سنوات بمعدل مليار دولار لكل سنة أي ما يعادل تقريبا 3,2 مليار دينار لسنة 2022. لسائل أن يسأل ماذا يمكن أن يسدد هذا المبلغ الذي لا يمثل إلا %7 من العجز الإجمالي للسداسي الأول من سنة 2022؟
وجوابا على من يدعي أن موافقة صندوق النقد الدولي سوف تمكن تونس من الحصول عل قروض خارجية من جهات أخرى نجد الإجابة في نص التقرير الصادر مؤخرا عن وكالة “فيتش رايتين” والذي ذكر أن صندوق النقد الدولي تخلى عن شرط توقيع المنظمة الشغيلة بمبررات هزيلة من نوع أن تمرير الدستور الجديد رغم ضعف نسبة المشاركة” ومن نوع ” أن الدائنين الأساسيين ويقصد بهم بلدان الاتحاد الأوروبي يبدون استعدادا (الذي طال منذ أكثر من سنة) لمؤازرة البلاد خاصة أنهم يعتقدون أن هذه المساندة سوف تعزز الاستقرار في المنطقة لتتمكن من السيطرة على تفاقم الهجرة السرية عبر قوارب الموت”. تعلة سطحية تعتمد التغطية على تخوف الطرف الأوروبي من اندلاع انتفاضة شعبية تهدد مصالحهم المباشرة خاصة في وضع اجتماعي متأزم داخل البلدان الأوروبية التي تزداد يوميا كما عبرت على ذلك الأزمات السياسية داخل فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا والمجر وغيرها.
كل هذه المعطيات الجيو-استراتيجية الهامة تبين أن الطرف الأوروبي وحلفائه من المؤسسات المالية الدولية في وضع ضعيف جدا نتيجة تورطهم في التستر على أهم المؤشرات المالية في تونس مما دفع البلاد إلى مديونية مدمرة تحتوي عل عدة قروض كريهة ومخافة للمعايير الدولية وهو موضوع يتحتم على الدولة التونسية كرحه بقوة حفاظا عن مصالح الشعب التونسي ودفاعا عل مستقبل أجيالنا. مما يتطلب أيضا القطع النهائي مع هذه السياسة المدمرة والرجوع إلى التعويل على مقدرات البلاد وهي محترمة إذا تم وضع حد للتوريد الفوضوي ولظاهرة تهريب رؤوس الأموال إلى الخارج التي بلغت مستوى خطير في حدود 60 مليار دولار امريكي يمثل ضعف المديونية الخارجية للبلاد. وهو موضوع تتستر عليه الجهات المعنية في البلاد ويتطلب المتابعة والكشف عل خفاياه لوضع حد لهذه الظاهرة المدمرة.
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 2 اوت 2022