الشارع المغاربي-العربي الوسلاتي: تشهد تونس واحدة من أصعب فتراتها على الإطلاق. الأمر لم يعد مقتصرا على التجاذبات السياسية التي تعيشها البلاد فحسب بل شمل كذلك مسائل حياتية ووجودية باتت تهدد استقرار التونسيين وتنغّص عليهم حياتهم وتنذر ربما باندلاع أزمة اجتماعية حادة قد تؤشّر لا قدّر الله لاندلاع ثورة جياع جماعية. اليوم لا مغالاة ولا حرج في الاعتراف بأننا نعيش جميعا فترة احتباس نفسي ووجودي غير مسبوق أملته عديد المتغيرات والتحوّلات المرتبطة أساسا بضبابية المشهد السياسي وغياب رؤية واضحة وحكيمة لواقع البلاد والعباد وما ينتظرهم من مصير.
السكر والزيت النباتي والقهوة والدقيق والطحين والأرز وعديد المواد الأساسية الأخرى مفقودة من الأسواق. والتهافت على التزوّد بهذه المواد بدأ يبلغ درجة التدافع المريب والخوف كل الخوف أن يسيطر هذا الشعور باقتراب أشباح مخيفة على كل التونسيين وتتحوّل المخاوف من مجرّد هلوسات فردية الى حالة فزع جماعي.
نواقيس خطر
أزمة المواد الأساسية المفقودة ترافقها موجة ارتفاع غير مسبوق في الأسعار. والمواطن بات اليوم يتأوّى ويتلوّى بين مطرقة الندرة والشحّ وسندان الغلاء. فإما أن يكتوي بنار فقدان السلع الضرورية والأساسية أو يحترق بلهيب الأسعار. الخوف من هذا السيناريو الخطير له ما يبرّره. فالأزمة الطاحنة التي تحاصر البلاد لم تعد تقتصر على المواد الغذائية الأساسية فقط بل طال مداها جملة من القطاعات الحيوية والمواد الأخرى التي لا يمكن الاستغناء عنها بأيّ حال من الأحوال. ونحن على أعتاب عودة مدرسية وجامعية مرتقبة وما يمثّل هذا الحدث من قدسية بالنسبة لشريحة واسعة من التونسيين تشهد أسعار اللوازم الدراسية بدورها ارتفاعا فلكيا جنونيا وغير مسبوق حيث تضاعف بعضها بحوالي 40 في المائة.
مجرّد جولة بسيطة في المكتبات والفضاءات العمومية التي نشطت خصيصا لهذا الغرض بمناسبة العودة المدرسية قد تكفي مؤونة التعليق وتعطي صورة ضافية وشافية عما وصلت اليه تونس اليوم وما ينتظر التونسيين من عذاب وتنكيل في ظل عجز السلطة عن التصدي لهذا الزحف الجنوني في الأسعار مع استمرار الأرقام والمعدلات اليومية في الارتفاع والاتساع بوتيرة أسرع لتمتد الى كل مرافق الحياة. وتشمل الزيادات حسب منظمة الدفاع عن المستهلك مختلف المواد من كراسات وكتب ومحافظ وأزياء وغيرها فضلا عن أعباء المحاضن والدروس الخصوصية مشيرة الى ان التعليم العمومي لم يعد مجانيا والى ان ذلك عامل من العوامل التي تساهم في مغادرة نحو 120 ألف تلميذ سنويا مقاعد الدراسة. وارتفعت كلفة لوزام التلميذ المدرسية للعام الحالي الى 800 دينار حسب التقديرات وتضاعفت بحوالي ست مرات في غضون السنوات الخمس الفارطة بعد ان كانت في حدود 150 دينارا خلال الموسم 2017 – 2018.
في جانب اخر، تكشف اخر المؤشرات المحينة لسوق الجملة ببئر القصعة عن ارتفاع اسعار الخضر والغلال بنسب تتراوح بين 7 و72 بالمائة. بدورها اكدت الاسبوع الفارط الغرفة الوطنية لتجارة لحوم الدواجن بالتفصيل ان اسعار اللحوم البيضاء وهي الغذاء الاساسي لفئات واسعة من التونسيين ازدادت في اسبوع واحد بنسبة 30 بالمائة لتصل نسبة الزيادة مقارنة بجويلية الفارط 45 بالمائة وهي مرشحة للارتفاع أكثر.
نواقيس الخطر التي تدق هنا وهناك والتي تُقرع بالصوت العالي كأنها طبول حرب قادمة على مهل أصبحت تتلخّص في كلّ تفصيلة وجزئية بسيطة في حياة التونسيين. فالأمن الغذائي بات مهدّدا ولا أحد يتجرّأ على طمأنة التونسيين ليقول إنها سحابة صيف عابرة. والأمن الصحي بدوره يتحامل على نفسه حتى لا تسقط على رأسه جدران مستشفيات ومستوصفات المنظومة الصحية العمومية المتهالكة. مصانع تهدّد بإغلاق أبوابها وطرد عمالها بسبب شحّ المواد الأساسية وغلائها وتدهور المقدرة الشرائية للمواطنين على غرار بعض مصانع المشروبات الغازية بسبب غياب السكر وشركة التبغ والوقيد التي تعطلت فيها عجلة الانتاج بسبب غياب المواد الأوّلية. طوابير طويلة منتشرة أمام محطات التزوّد بالبنزين وحديث عن عدم قدرتنا على تأمين حاجاتنا من المحروقات وتوقعات بشأن زيادة جديدة مرتقبة في أسعارها… وبين هذا وذاك ينتظر الجميع مآلات ونهايات هذا الكابوس المرعب ما عدا “رأس” الجمهورية الذي لا يرهق نفسه بالتفكير في الأمر وكأنّه ينتظر النهاية ليُبشّر الصابرين بالنصر على المتآمرين…
أزمة عالمية…
قبل أيّام قليلة خرج الرئيس الفرنسي إيماويل ماكرون مخاطبا شعبه في تصريحات صادمة قائلا إنّ عهد الرفاهية انتهى مشيرا الى دخول العالم في مربّع جديد من الأزمات. ويقصد الرئيس الفرنسي الذي لا ينطق عن هوى على الأقلّ في مثل هذه المسائل أن العالم مقبل على تحولات كبيرة أملتها نهاية زمن الوفرة في المال والماء والسلع والطاقة.
ويعتقد الرئيس الفرنسي أن هذه التحولات إضافة الى الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا تشكل تهديدا حقيقيا للبشرية وهو نفس الموقف الذي تتبناه ألمانياالتي تعتبر أن الحرب في أوكرانيا تشكّل تهديدا عالميا بالجوع وتمهّد لتواصل ارتفاع أسعار المواد الغذائية. وترى ألمانيا أن المستقبل قد يحمل مفاجآت غير سارة خاصة لدول إفريقيا بسبب استخدام السياسة الخارجية الروسية صادرات القمح كـ “سلاح” معتبرة أن انخفاض مستويات المخزون وحالات الجفاف أمر يهدد الإمدادات الغذائية مضيفة أن روسيا تتخذ “العالم كله رهينة” مستخدمةً الجوع “كسلاح حرب” ومحذّرة من “تسونامي” مجاعة حقيقي من المحتمل أن يطول بعض الدول وعلى رأسها الدول الافريقية.
الولايات المتحدة الأمريكية هي الأخرى تصرّ على اعتبار الحرب الروسية الأوكرانية بوّابة لدخول العالم في مجاعة حقيقية بسبب انعدام الأمن الغذائي مؤكدة أن افريقيا ستكون الأكثر تضررًا.
هذا التوافق في مواقف الدول العظمى والكبيرة التي تقود سفينة العالم يؤكّد بما لا يدع مجالا للشكّ أننا أمام شبح أزمة عالمية تهدد البشرية جمعاء. وهذا التوافق يؤكّد كذلك واتعاظا بالتجارب والدروس السابقة أن الناجين من هذا القوس الاستثنائي في تاريخ البشرية هم فقط من سيسلكون طريق العقل والحكمة والتدبّر وليس الاختفاء وراء شماعة المؤامرات والأشباح. نقول هذا الكلام لأنه في الوقت الذي يتحرّك قادة العالم لتأمين مستقبل شعوبهم يصرّ رئيس الجمهورية قيس سعيد على توصيف المشهد بأنه مؤامرة داخلية تقودها أياد خفية لتقويض حكمه وتركيع سلطانه. الأزمة التونسية لا يراها سعيّد امتدادا لأزمات عالمية متشابكة ومترابطة وإنما هي من منظوره الخاص لعبة جديدة من ألاعيب المحتكرين الذين يتاجرون بقوت وبآلام التونسيين.
حافة الهاوية…
مهما تكن الأسباب والمسببات التي أوصلتنا الى هذا الحال فإن الوضع العام الذي تعيشه البلاد اليوم لم يعد يتطلب مزيدا من التفكير والتشخيص للوقوف على قتامته. كما أن الاعتراف بفشل التجربة التونسية بعد 25 جويلية لم يعد يستدعي شرحا طويلا. فالأمر واضح وجليّ والفصل والتمييز بين ما حدث في عشرية الخراب وما يحدث اليوم بات أمرا عسيرا جدّا إن لم نقل مستحيلا. فالأيام تتشابه والأزمات تتوالى والسيناريوهات نفسها تتكرر ولو باختلاف بسيط في العناوين والمضامين وهذا الوضع مهما تنوعت التطمينات والمسكنات لا يمكن أن يستمر أكثر. بعض الأرقام تفيد بأن عدد الأطفال الذي يدمنون “الزطلة” بلغ قرابة 400 ألف طفل فيما يتعاطى 800 ألف طفل الحبوب المخدرة حسب إحصائية قامت بها الجمعية التونسية لمقاومة الأمراض المنقولة جنسيا ومعالجة الإدمان فضلا عن هجرة أكثر من 13 ألف تونسي في قوارب الموت وهو ما يؤكد أن غلاء المعيشة بلغ مستوى لا يطاق وأن حالة اليأس الجماعي أصبحت واسعة النطاق وأن الشعور بالعجز وفقدان الأمل في رؤية غد أفضل أدخل الجميع في نفق الإحباط والنقمة.
هذه النقمة كافية لتحريك السواكن وإيقاظ الضمائر وكافية أيضا لتحريك الأرض بمن عليها إذا لم يتفطّن الجماعة حولنا الى أنّنا بلغنا جميعا حافة الهاوية. اليوم رئيس الجمهورية مدعو للتحدّث بلغة شعبه ومصارحته بحقيقة الوضع والتخاطب معه بلغة العقل وليس عبر مداعبة عواطفه. نحن على أبواب أزمة عالمية تهدد البشرية وتجاوزها يتطلب حالة وعي حقيقي وتضحيات جماعية كبيرة وخاصة شعورا بالمسؤولية. وهذا الشعور يفترض التخلّص نهائيا من معجم التقسيم والتخوين. وبداية الانقاذ الحقيقي تمرّ حتما عبر استيعاب حقيقة الوضع الاقتصادي والاجتماعي الذي نمر به اليوم مع الاقرار بأن عملية الانقاذ تفترض لزاما اهتمام المواطنين بقضايا الوطن الحقيقية بعيدا عن الانشغال بالمعارك والقضايا الوهمية والهامشية. في المقابل لا بدّ من توفّر إرادة سياسية قويّة قادرة على نقل الأزمة من مجرّد الخوض في النوايا الى مرحلة تنوير العقول على غرار ما حصل عند انتقال تونس من حقبة الاستعمار الى عهد الأنوار…
نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 30 اوت 2022