الشارع المغاربي – وتعطّلت لغة الكلام ! / بقلم: حمادي بن جاءبالله

وتعطّلت لغة الكلام ! / بقلم: حمادي بن جاءبالله

قسم الأخبار

2 يوليو، 2021

الشارع المغاربي: ما العمل اليوم وقد تعطلت لغة الكلام؟ فأي سماع لمن هو كل ساعة في شأن، ينفي مساؤه ما كان أكده صباحه؟ ويجعل الكلمات تدور على غير معانيها، الطبيعي منها والاصطلاحي، فإذا هي الفوضى الفكرية المنذرة – اجلا أو عاجلا -بفوضى اجتماعية –سياسية لافكاك منها. أليس علينا اليوم مزيد التحوط من تلك الفوضى الآتية، وفي الأفق تباشير تحالف موضوعي بين قوى لا تؤمن بالدولة عامة وفي نفسها حقد دفين مشترك على الدولة الوطنية خاصة؟ وما العمل نزولا عند واجب حماية الوطن من تربص الإرادة الماكرة مهما كان منبتها ومغرسها، واصرارا –في ذات الوقت- على مواصلة الارتقاء بالدولة الوطنية التي أسسها المجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة والذين معه، الى مصاف الدولة الوطنية الديمقراطية ؟

I

لا ريب في أن من أخطر ما نواجهه اليوم تفشي ايديولوجيا هاذية نزلت بمبدأ ”الشعب يريد” الى مستوى العلكة السامة. فما لمست أيدي ”ساستنا ”اليوم شيئا الا فسد معناه حتى ذلك المبدأ رغم انه” من أقدس مارفعت الانسانية الحديثة من مبادئ سياسية منذ قدماء المصريين وقدماء العراقيين مرورا بالتجمعات اليهودية والمجتمعات المسيحية وعصور الخلافة الاسلامية الثلاثة : (الاموية والعباسية والعثمانية) و”الدويلات –الامارات” في أوربا اللاتينية المسيحية حتى مشارف العصر الحديث أو قل –تدقيقا –حتى قيام الثورة الفرنسية. ذلك عصر واحد علميا (بطليموس-البيروني) وفلسفيا (ارسطو-ابن سينا) وسياسيا (الحاكيمة الإلهية قاسما مشتركا بين جميع الأمم والديانات). وهذه ”الحاكمية الالهية” تشكل سلطة بمعنى عام اي علاقة لاتناظرية بين آمر ومؤتمر، أو قل بين جهة تصدر الامر وجهة تخضع له، بين ”راع’ ‘هو ”ظل الله في الارض” كما قال الفراعنة ورعية ”لا نجاة لها الا بطاعة صاحب الامر” كما قال فقهاء الإسلام إجمالا.

ويلزم على هذه المقاربة الاولية أنه لا وجود في تلك العصور الطويلة لشيء اسمه “شعب” ولا لقيمة اسمها “الإرادة العامة” أو ”الحرية الشخصية” أو “سيادة الشعب” فذلك نظام حكم كان سطّره ”الاله توت عنخمون” يوم نَصّب رمسيس الثاني خليفة له على مصر، كما وضعه ”الاله مردوك” يوم نَصّب حمورابي خليفة له على بابل منذ الاف السنين.

لذلك لم تكن ”الخلافة الإسلامية” أو ”الحاكمية الالهية’ ‘التي يدعو إليها ”الإسلام السياسي” خِفية وجهرا بحسب ميزان القوى التاريخية، الا استنساخا –لا يعي حقيقته ، للفكر السياسي الوثني.” ومن أظلمُ ممّن افترى على الله الكذب وهو يدعو الى الإسلام”؟ ويخيّل الي أنه لا ظلم يعادل هذا الظلم الا ظلم من سخر نفسه -من حيث احتسب أم لم يحتسب –لإفساد معاني مبدأ ”الارادة العامة” أو ”سيادة الشعب ” الذي تأسست عليه فلسفة الحكم في العصر الحديث، بما تلتئم عليه من إيمان قوي بالحرية، قيمة فلسفية، والمساواة، قيمة اخلاقية، و”الإرادة العامة” منهجا سياسيا. وهو ما يعبر عنه أشباه العوام والمتفيهقون على حدّ سواء بصيغة ”الشعب يريد”. وهكذا انتقلت الإنسانية ببطء شديد وتلكؤ ثقيل وبكثير من الألم والمعاناة من نظام الخلافة أو الحاكمية الالهية الفرعوني –البابلي الى ديمقراطية العصر الحديث .

ولما كان ذلك كذلك، كان افراغ مبدا ”الشعب يريد” من محتواه وليّ عنقه بأشكال مختلفة مبتذلة، انتصارا موضوعيا لفوضى لا تعي ذاتها ولا تُقدّر عواقبها. فشعار ”الشعب يريد” شعار مقدس ”في ذاته ولذاته، لان إرادة الشعوب ”إرادة طيبة” في ذاتها ولذاتها. و”الشعب لا يريد الا الخير دائما ولكن لا قدرة له دائما على ادراك حقيقته. والارادة العامة على هدى دائما ولكن العقل الذي يقودها ليس دائما عقلا مستنيرا” كما يقول روسو صاحب العقد الاجتماعي إمام “أساتذة القانون الدستوري” ( الكتاب 2 الفصل 6) .

لذلك كان الامر يقتضي ترشيد تلك ”الارادة العامة” الخيّرة بتوسط جهاز سياسي وإداري تعبر به عن ذاتها وتنجز مشاريعها. فالشعب التونسي مثلا يريد اليوم سياسة صحية تكفيه شر الوباء المستشري، وسياسة اقتصادية تقية شر البطالة وغلاء الأسعار، وهو يريد مؤسسات تربوية وثقافية تبدد سحب الجهالة التي تراكمت كقطع الظلام في سمائه خاصة منذ قيام حكم “الترويكا” الذي فسح المجال للمشعوذين وفقهاء الجهل من جماعة ما يسمى ”رابطة علماء المسلمين” أو قل –تدقيقا- ”رهبان الإسلام” الجدد الذين نصبوا أنفسهم أوصياء على الضمائر والدخائل والعقول، دون ان يدركوا –وأنّى لهم الإدراك – أن لا رُهبانية في الإسلام !

*II*

ذلك بعض ما يريد الشعب اليوم، وهو يعلم انه لا يستطيع بذاته تحقيق تلك الإرادة، لأن ذلك يتطلب علما عميقا، وتقنيات متطورة، وكفاءة انسانية عالية، ووطنية خالصة الولاء لتونس ولتونس وحدها. لذلك كان الوقوف عند ترديد شعار ”الشعب يريد ” صباح مساء دون أي انجاز، يفضي بالضرورة الى الزهد فيه وبتالي في الديمقراطية.

وها هنا يكون التلاقي -موضوعيا- على موعد مضروب بين الاسلام السياسي بجميع كتائبه وصاحب أيديولوجيا ”الشعب يريد “، خاصة وهو من المولعين بقراءة حكاية “راس الغول” وما شابهها من حكايات شعبية لا أصل لها في التاريخ مثل ما شاع عن خشية عمر الفاروق أن يحاسبه الله على بغلة لم يمهد لها الطريق في العراق. وقد فات على هذا الضرب من ”أنصاف المثقفين” –على ما يبدو – أن يسائلوا التاريخ الحقيقي عما إذا وجد حاكم عربي واحد فكر في مجرد تمهيد الطرقات للبشر فضلا عن تبليطها كما كان يفعل الامبراطور الروماني قبل عمر بحوالي عشرة قرون؟ هل ساءل هؤلاء أنفسهم لم انتظرت مصر مجيء أحفاد نابوليون لتبني الجسور على النيل في القاهرة؟ ولماذا انتظر التونسيون المهندس الاوروبي لبناء قنطرة مجاز الباب على مجردة ؟ هل لأن الشعبين لم يكونا يريدان ذلك؟ أم لأن القدرة على الفعل غير ممكنة والقيادة السياسية غير مؤهلة؟ نعم الارادة هي الأصل الاول ولكن الكفاءة العلمية والعملية هي الشرط الأول. وهكذا نتبيّن أن المعنى الرفيع لأسطورة بغلة عمر التي ابتدعها الخيال العربي هو أن الحاكم مسؤول عن كل ما يحدث في أرض حكمه وهو مبدأ أخلاقي – سياسي مطلق وليس واقعة تاريخية فعلية. ولا أظن أن أحدا من ”ساسة” اليوم أدرك بعض معناه في زمن يحصد فيه الوباء الاف التونسيين وتنهش البطالة خيرة أبنائهم، وتتحول أرضهم الطاهرة الى ”مزبلة” للأجنبي، وتنتشر فيها الجرائم بكل أنواعها، بدءا بالاغتيالات السياسية ويصبح مطارهم ممرا آمنا للإرهابيين، ونوابهم يهينون حافظ أمنهم على مرآي ومسمع من الجميع.

ولئن كان من حق التونسيين أن لا “يطبعوا ” مع الاستعمار الخارجي فحري بهم أن لا يطبعوا – وإن في غير وعي منهم – مع الخديعة القلُّب الخُلّب المفضية الى استعمار داخلي هو أشد مرارة من أي شكل من أشكال الاستعمار بإطلاق.

ليس يكفي إذا أن “يريد الشعب”، بل لا بد له من قيادة يكون لها من نفاذ البصيرة وصدق الوطنية ما يمكنها من حمل الإفراد على تجاوز تناقض مصالحهم حتى يتأهلوا للمواطنة على معنى أن يصبح كل واحد منهم مشرِّعا وبذلك يتحول جمعُهم الى شعب. فلا شعب دون دولة ولا دولة دون دستور ما لم نخلط بين مجرد السلطة عامة مثل سلطة شيخ القبيلة ومبدأ السيادة الذي تحتكره الدولة باعتبارها جهة اعتبارية ناتجة عن اختيار الإرادة العامة. فالدستور والدولة والشعب قيم متزامنة نشأة، ومتوازية معنى وواقعا. فلا معنى لعبارة ”الشعب يريد” إلا داخل سلطة الدولة وقيم الدستور ما دام كلاهما ناتجين عما يسميه روسو ” الارادة العامة”. وبالتالي كان على المؤتمن على السلطة التنفيذية في الدولة أن يلبي ما يريده الشعب أو أن ينسحب بشرف بحكم انقراض مشروعيته.

ويتطلب هذا الموقف الشريف الذي لا ينتظره عاقل من جميع من حكمونا منذ 2011، قدرة نظرية على التمييز بين ”القانونية” Légalité” والشرعية” Légitimité على نحو ما أصبح معمولا به في اللغات الفرنسية والانكليزية والألمانية مثلا. فأما القانونية فهي تعني قابلية إجراء ما أو سلوك ما للتطابق مع القانون الجاري به العمل، بصرف النظر عن قيمة ذلك القانون من حيث العدل والظلم. فعقاب العبد الآبق ”قانوني”عند فقهاء الإسلام واليهودية والمسيحية ما دام مطابقا للتشريعات المعمول بها …

أما الشرعية فهي تتجاوز القانونية بالضرورة وتعلو عليها على معنى أنها تؤكدها أو تنفيها أو تشك فيها بمجرد مسائلتها عن مدى مطابقتها لمثل العقل المُشرِّع، وهي مثل تُردّ–في نهاية التحليل – الى فكرة الحرية الإنسانية بدءا بحرية التفكير والتعبير والمعتقد عند الأشخاص الطبيعيين الى الحق في تقرير المصير بالنسبة الى الشعوب، و غير ذلك مما يدور عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من قيم ومفاهيم ومبادئ. ومن هذا المنطلق تنتفي “مشروعية الرق” رغم قانونيته التي يسميها فقهاؤنا ”شرعيته”.والصيغة اللفظية في العربية شبيهة بالمقروئية أي قابلية القراءة أوالمكتوبية قابلية أي الكتابة او المعقولية أي قابلية التعقل والفهم أو المعدومية أي قابلية الانعدام.

**III**

ولنا أن نخلص مما أسلفنا الى أنه ما من قانونية يمكن ان تُكسب وضعا أو هيئة أو مؤسسة مشروعية ما، ومثاله ان الحكم القائم في تونس اليوم قانوني بصرف النظر عن شوائب الاصول التي انحدر منها سنة 2011او 2014 او 2020 ولكنه فقد كل شرعيته جملة وتفصيلا. والسبب في ذلك أنه أفضى بالتونسي الذي انتخبه الى وضع استعماري، على معنى أنه وضع شُلّت فيه الإرادة الوطنية وفقدت قدرتها على الفعل فاصبح شعار “الشعب يريد” يجري على خواء، وأصبحت الديمقراطية تُتّخذ هُزؤا، يتبارى الأميون في نقدها وتخيل سبل تجاوزها نحو ضروب من الفوضى يسميها القائلون بها ”الديمقراطية المباشرة” بما تفترضه من تفتيت للسلطة المركزية، وتمييع لفكرة الدولة. وهو أقصى ما يطمح اليه ”الإسلام السياسي” في نسخته ”الخوانجية” خاصة.

**III**

ما العمل اليوم وقد تعطلت لغة الكلام وتوضحت مصاعب الحوارإن لم تكن استحالته ؟ يبدو لي – كما ذكرت بذلك مرارا عديدة – أن العمل الوطني اليوم يجب أن يكون تحت مطلب التحرير الوطني، على أن يكون ذلك -من حيث المبدأ- في بعدين متلازمين، هما الدفاع عن سيادة الوطن واستقلاله والإصرار على الارتقاء بالدولة الوطنية إلى مرتبة الدولة الوطنية الديمقراطية؟ فلا سبيل الى تحرير تونس من آفة اللاوطنية المستشرية مند 2011 واستئصالها من جذورها الاسلاموية والديماغوجية الا بنشر ثقافة الحرية والعقلانية، ولا سبيل الى صدّ دعاة “الخلافة السادسة” أو فوضى “الديمقراطية المباشرة” الا بترسيخ القيم الديمقراطية وانتهاج سبل العقلانية الحديثة.

أما من حيث المنهج فلا سبيل اليوم الى تحرير الوطن من الاستعمار الداخلي الا بذات الطريقة التي حررنا بها انفسنا أمس من الاستعمار الخارجي، أعني الوحدة الوطنية حين تعبر عن حقيقتها بتحالف القوى الاجتماعية التي عليها المُعوّل في معاشنا اليومي، وفي حفظ صحتنا والدفاع عن حقوقنا وتنمية قيم المساواة بين المواطنات والمواطنين في مجتمعنا. وفي مقدمة تلك القوى الاتحاد العام التونسي للشغل، والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، ونقابات الفلاحين والاتحاد الوطني للمرأة التونسية ومنظمة النساء الديمقراطيات، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان والهيئات المهنية القائمة : فنانين ومثقفين واطباء ومحامين وصيادلة ومهندسين وكل من يأنس في نفسه الكفاءة للمساهمة في الواجب الوطني المقدس.

ولم يعد مطروحا على تلك القوى الوطنية الحية أن تنتظر خيرا من جميع الحاكمين اليوم. فالسيد رئيس الجمهورية أعفى نفسه “على طريقته” من شرف المساهمة في هذا الواجب بعد أن طال تردده في الاستجابة الواضحة لدعوة اتحاد حشاد تقديرا منه -يشترك فيه مع الخوانجية- أن “السيستام” أو “المنظومة” كلها فاسدة ولا بد من اقتلاعها من جذورها بسياسة جديدة لم يستطعها الاوائل !!!  وأما الاحزاب التي حكمت البلاد منذ 2011 فمن الممتنع أخلاقيا واجتماعيا وسياسيا إشراكها في أي حوار غايته الخروج من أزمة خانقه هي من نسج أيد خائنة، ونفوس انتهازية، وذوات غير مؤهلة للنظر في الشأن العام. ولذلك يقتضي عمل الائتلاف الوطني ابقاء الوضع على ما هو عليه رغم ويلاته في كل من قرطاج والقصبة وباردو ليجعل من ذاته قوة ضاغطة باستمرار في اتجاهات ثلاث : 1/ ايقاف نزيف العبث بمكاسب الدولة وحفظ المؤسسة العمومية حتى ولوكانت في أسوإ الأحوال إذ أنها لن ترى الفرج مع حكام اليوم 2/ الضغط اجتماعيا في حدود ما يسمح به دستور البلاد على مافيه من غش وخداع لتغيير القانون الانتخابي بما يمكّن من اصطفاء اغلبية تحكم البلاد مهما كان مشربها وتحاسب على ما تفعل عسانا نتقي شر “الوفاق المغشوش” ومَكر التدرع “بالمسؤولية الجماعية” الوهمية 3/العمل ليلا نهارا من أجل تحويل الكتلة الانتخابية الصامتة الى كتلة انتخابية ناجزة، وتلك آكد المهام وأخطرها على الاطلاق ليكون تحرير تونس بانتخابات شفافة نزيهة بعد التخلص شرعيا ممّن حكما بطرق لعب فيها المال الفاسد والاستثمار في الجهل والفقر الدور الأخطر. ولا عاش في تونس من خانها… وان غدا لناظره قريب.. لنشهد انتصار ثورة “الشغل والحرية والكرامة الوطنية”.

نُشر بأسبوعية “الشارع المغاربي في عددها الصادر بتاريخ الثلاثاء 29 جوان 2021


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING