الشارع المغاربي: إنّ تاريخَ المؤسسة الأمنية التونسية هومِن تاريخ الدولة الوطنية. فبينهما مواكبة وتلازم في مختلف المفاصل والمنعرجات. وقد استقرّ أنّ للأمنيين في تونس علاقةً بمؤسّستهم قائمةً على الإلتزام والانضباط. وإزاء كل إخلال فردي تحرّك المؤسّسةُ آليات العقاب بحزم وسرعة. ولما كانت هذه المؤسسة جزءا من مؤسسات الدولة، فإنها واكبت من موقعها المخصوص مختلفَ المنعرجات السياسية الكبرى التي شهدتها البلاد، واصطبغت مواكباتُها بخصائص كل مرحلة. وفي كل المراحل لم تنزلق هذه المؤسسة إلى أي تصادَم على نحوما وقع مؤخرا في اعتصام نقابات أمنية ومنظوريها. لعل أهمّ تلك المراحل ثلاث.
1/مرحلة ما قبل سنة 2011
في هذه المرحلة التي امتدت عقودا، واكبت المؤسسة الأمنية نظام ” الحزب- الدولة”. وهونظام انتفى فيه الفاصل المؤسسيّ المنهجيّ بين الحزب والدولة أو بين السلطة والدولة. وهوانتفاء لم يبلغ، بخلاف عموم أنظمة العرب، درجةَ انطواء مؤسسات الدولة في هياكل السلطة. ومن علامات ذلك أن زوالَ نظام بن علي لم يتبَعه زوالُ عقد الدولة ومؤسساتها. لقد ثبت قول الزعيم بورقيبة: “إني أنشأت أمرا متينا سيدوم”.
وإنّ لِانتفاء ذلك الفصل عواملَ تاريخية وثقافية وذاتية معقدةً يطول الخوضُ فيها. ولعل أقربَها مَأخذا أنّ الزعيم قد دمج شرعيته السياسية المستحقّة في شرعيته النضالية الأكيدة. فلم يكن متاحا إلا أن يكون الزعيم ملتقى الحزب الذي أسسه والسلطة التي استهل مسكها والدولة التي صاغ عقدها. واستمر ذلك الإنتفاء بعده استمرارا استنفذ سنة 2011 عمره المفترض(Longévité).
على مقتضى ذلك، كان لا بد أن تكون المؤسسة الأمنية جزءا من نظام”الحزب- الدولة” أومن بنية” السلطة – الدولة”. وممّا عمّق هذا “الوُجوبَ” أن سلك الحرس الوطني كان النواةَ الأولى للمؤسسة الأمنية والعسكرية، وكان بعض أوائل المُنتَسِبِينَ إليه هم من قدماء المقاومين تحت قيادة” الحزب”. فكان هذا السلكُ حلقة وصل مبكرة بين المقاومة وبناء الدولة، بين الأحقية في البناء ذاك وشرعية المقاومة تلك، بين الحزب المناضل الماسك للسلطة من جهة والدولة من أخرى. وتعدّى هذا الوصلُ المبكّرُ المبرَّرُ إلى سائر الأسلاك الأمنية التي تكوّنت لاحقا.
على هذا النحو، لم تكن المؤسسة الأمنية تقيم فرقا بين التصدّي لخصوم النظام والسلطة والتصدي لِمُهدِّدي الدولة والمجتمع. كان هذا الدّمج جائزا إلى حين، وقابلا للتفهم إلى حدٍّ ما.لكنّ استمراره إلى سنة 2011 لم يكن مبررا ولا قابلا للتفهم. ومن توابع هذا الاستمرار أن معارضي السلطة في العقود الأخيرة مِمّا قبل 2011 على وجه الخصوص فقدوا صبرَهم عليه. فقد احتَجب أمامهم انتماءُ المؤسسة الأمنية إلى الدولة التونسية وصاروا لا يرون منها إلا أنها المكونُ الصّلبُ من النظام والقوةُ الحامية للسلطة. صارت هي “الحاكم” في التداول الّلغوي اليومي.
رغم ضغط السلطة من جهة وضغط معارضيها من جهة ثانية لم تفقد المؤسسة الأمنية تماسكَها وانضباطها للتراتبية المهنية الذي تقتضيها قوّةٌ حاملة للسلاح. وكانت الأخطاءُ التي تحصل أخطاءً فردية لا يُحظى مقترفوها بتسامح المؤسسة.
2/مرحلة ما بعد سنة 2011
في هذه المرحلة انفك التلازمُ بين السلطة والدولة، وصارت التعدديةُ الحزبيةُ وجها أكيدا من ذلك الانفكاك. أظهرت المؤسسة الأمنية وعيا مبكرا بالانفكاك ذاك. قال الناطقون باسمها إن مؤسستهم دفعت الثمنَ الأعلى المترتب عن التحول عن نظام “الحزب- الدولة”، وإنها أضحت ميدانا مستباحا تُصفّى فيه الحساباتُ السياسية وتُرسَم أخرى قادمة. وقالوا إن الأمنيين صاروا هدفا للغضب الشعبي والسياسي إلى حدّ التنكيل أحيانا. ولم يبالغوا في ذلك إطلاقا. فقد تعرّض البعض للإعفاء والسجن والتشويه. ومارس بعضهم الآخر التخفّي حتى عن الأجوار، واختلط الحساب بالعقاب، والعدل بالجور، والترقيةُ محاباةً بالحطّ من الرتبة انتقاما، وضاع الحدُّ الفاصل بين العدالة والظلم. ورغم كل ذلك لم تفقد المؤسسة تماسكها وما بين أسلاكها ورتبها من التقاليد والضوابط.
لم تدم صدمةُ المؤسسة الأمنية، لا سيما بعد أن نالت الحق في التنظم النقابي. فقد تعافت بالتّدريج وتفاعلت مع المرحلة بالانتصار لمفهوم “الأمن الجمهوري” الذي يذود عن الدولة والمجتمع بصرف النظر عمّن يمسك بدفّة السلطة. لكن هذه النقلة لم تكن يسيرة. فأثناء طور الانتقال، اعترى المؤسسةَ الوهنُ فاضطربَ أداؤها. وزاد من صعوبة الانتقال أنْ نَزَعَ الحكام النهضويون إلى استعادة نظام “الحزب- الدولة” على مذهبهم. لم تذعن المؤسسة لذلك حتى لا تُلدغ من الجحر مرتين. غَيَّرت النهضة الخطة. عمدت إلى الإختراق. دسّت موالين لها في المناصب المفاتيح وانتدبت في الأسلاك الميدانية “أبناءها” الذين أظهروا البُنوّةَ في أحداث 9 أفريل بالعاصمة و”أحداث الرش” بسليانة. أنشأت قاعةَ عمليات في وزارة الداخلية كشفها وقتئذ حليفُها الراهن نجيب الشابي. كوّنت “أمنا موازيا” خفيا، بعضه مستجلَب من المؤسسة وبعضه من خارجها، وهذا عُرف نهضوي رائج. ترتّبت عن هذا الاختراق كوارثُ إرهابٍ واغتيالٍ وتسفيرٍ إلى بؤر الإرهاب وتلاعبٍ بالوثائق والحقائق وبالأمن القومي.
بيد أن النهضويين، وإن قسّموا العنصرَ البشري، لم يفلحوا في تقسيم المؤسسة، وفي دفع بعضها إلى أن يصادم بعضَها مصادمةً خارجة عن الضوابط القانونية والتقاليد المؤسسية. وليس أدلّ على ذلك من أنّ روح المؤسسة الكامنة في تقاليدها هي التي ساهمت في كشف الاختراق والإندساس وما صنعا من كوارث. كان ذلك الكشفُ مُكلفا للكاشفين. ومع ذلك لم يكن كافيا. كان الإختراق مَكِينا والحكومات طائعة للنهضة. لا بل استعاد الإختراق نَسقَه الحثيثَ الخطيرَ على أيام حكومةِ “الأقدر الثاني” الذي صار نسخة غبية من “الشاهد” الذي حباه صاحب 25 جويلية بالخروج الآمن.
3/مرحلة ما بعد 25 جويلية
بعد هذا التاريخ من سنة 2021 خضَعَت المؤسسةُ الأمنية لِما يُشبِه مَا خضعَت له في المرحلة السابقة، من زاوية واحدة على الأقل، وهي الإستصفاء والغربلة. فقد أزاحت جهةُ الإشراف عن المواقع المفتاحية في الوزارة مَن دسّهم فيها الغنوشي. ليس لأن هذه المواقع محلّ تنازع بين الإخوان من جهة وصاحب 25 جويلية من جهة أخرى. إنما التنازع فيها بين شخصَي “الغنوشي”و”سعيد”. بدليل أنّ معيارَ إبعادِ المُسيّرين عن المواقع الهامة أوائتمانِهم عليها ليس صلتهم بالنهضة حركةً ومنهاجا وعقيدةً وإنما هو مقدار ولائهم الشّخصيّ لرئيس “التدابير الاستثنائية” و”الجمهورية الجديدة”. ذلك أن الرئيس سعيد كان يصرّ ، حتى قبل 25 جويلية، على أن يضع يده على المؤسسة الأمنية وضعا كان يشتقّ مُوجبَه من تأويل دستور 2014 ، قبل أن يستقيم له ذلك على مقتضى التّدابير الاستثنائية ودستور 2022.
لقد اختصّت هذه المرحلة بإحالة على التقاعد المبكر وإعفاءات ونقل من مواقع إلى أخرى. شمل ذلك العشرات من عِلية المُسيّرين في وزارة الداخلية. ولعل المؤسسة لم تستسغ هذه الإجراءات التي لم يرافقها شرحٌ أو بيان أو خلقت مُوالين لها على حساب آخرين، أو صنعت في بعض المؤسسة توتّرا كامنا يكفيه للإطلالة بوجهِهِ قادحٌ. ومثّلت النقابات، بلا وجاهة، إحدى حواضن ذلك التوتّر. وإذا كان ذلك كذلك، فقد يكون القادح هو تصريحُ الرئيس وقرارُ الوزير: تصريحُ الرئيس الداعي إلى توحيد النقابات الأمنية وقرارُ الوزير وقفَ الإقتطاع الماليّ لفائدة النقابات. ليست براءة الأطفال في ذينك التّصريحِ والقرارِ. كان الهدف هو توحيدها توحيدا تذوب فيه إحدى النقابات غير الموالية كأغلب نظيراتها لـ “الجمهورية الجديدة”، وهي”النقابة العامة لقوات الأمن الداخلي” غير الملائكية، والتي سبق أن باشر إجراءات حلّها المكلفُ العام بنزاعات الدولة سنة 2016. وفي كل الأحوال هل كان ضروريا أن يتسرّع الرئيسُ بذلك التصريح؟ وهل كان ضروريا أن يَستَتبعه قرارُ الوزير بتلك السرعة؟ ألا يبدو هذا وذاك استهدافا ضمنيا لطرف نقابيّ دون غيره؟ ألا يدفع ذلك إلى فجوة بين الهياكل النقابية تتعدّى إلى المنظورين انقساما بينهم؟ ومن زاوية أخرى ألَيس وقفُ الإقتطاع المالي تضييقا صريحا على العمل النقابي الأمني في حين تتمايز النقابات بعضا عن بعض؟ ألم تكشف نقابة “وحدات التدخل” ما خفِيَ من ملفّي “العجيلي” و”عاشور” المعروفَين؟.
ولكن في المقابل ألاَ تبدوالنقاباتُ الأمنية بصدد اقتحام مجالات من اختصاص الإدارة؟ ألم يعلن بعضُها الوصايةَ على الذوق العام والتلويحَ بالإمتناع عن تغطية التظاهرات؟. ومن الزاوية الرسمية، هل في تصريح الرئيس وقرار الوزير تعبير عن هاجس الرئيس المعهود ؛ هاجس وضع اليد على كل شيء؟ أم هل هو بعض هاجس التقسيم الذي أَعمَلَهُ في الجميع لِيسُود حاكما أمّارا؟
مهما كانت الأسئلة ومهما كانت الأجوبة فقد تأكّد الخطأُ. تأكّد بمعيار لا شك فيه وهو أنّ فريقا من الأمنيين احتجّ اعتصاما في مقرات أمنية وسيادية، ففضّ اعتصاماتهم بالقوّة المادية فريقٌ آخر منهم. إن ذلك هو صدام بين أمنيين لا شك فيه. هو سابقة لم تعهدها المؤسسة الأمنية رغم تعدد المناسبات السابقة الدافعة نحو التصادم. لقد بقي النطاق محدودا هذه المَرّة. لكنه إشارة تنبيه حمراء. فالمُعتَركُ هو مؤسسة حاملة للسلاح. لكأنّ أكثرهم لا يعقلون.
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 10 سبتمبر 2022