الشارع المغاربي – جولة مفصلية في مسارات الأزمة الليبية غيّبت تونس نفسها عنها ! / بقلم د. رافع الطبيب

جولة مفصلية في مسارات الأزمة الليبية غيّبت تونس نفسها عنها ! / بقلم د. رافع الطبيب

قسم الأخبار

18 يناير، 2023

الشارع المغاربي: تسارعت الخطى في الأسابيع الماضية بحثا عن توافق واسع في ليبيا للخروج من حالة الركود التي طبعت المسار السياسي في البلاد منذ إلغاء الإنتخابات الرئاسية والتشريعية التي كان مزمعا تنظيمها يوم 24 ديسمبر 2021 تزامنا مع إحياء ذكرى الإستقلال وقيام المملكة السنوسية.

لكن هذه الحركية المحمومة لا تندرج في نفس الإطار المنهجي ولا تقودها نفس التصورات ولا ترعاها نفس الأطراف الدولية او الإقليمية او الأممية.

فهناك مسار القاهرة الذي يسعى لتجاوز عقدة القاعدة الدستورية التي على أساسها ستنظم الإستشارة الشعبية. كما تنعقد في سرت لقاءات لتوحيد المؤسسة العسكرية ضمن هيكلية مندمجة وتحت لواء عقيدة دفاعية تحترم الدستور والمؤسسات ووحدة المجال الوطني. اما اسطنبول، فهي المحطة الأبرز للقاءات الأحزاب التي تدور في فلك أنقرة من إخوان وبقايا الجماعة المقاتلة وأمراء الحرب من المنطقة الغربية.

لكن اللقاء الأبرز يبقى الإجتماع التحضيري للمصالحة الذي تحتضنه العاصمة الليبية والذي أراد منظموه الّا يستثنى من حضوره سوى من اقصى نفسه ونأى بها عن الحوار.

هذا التمشي سمح، ولأول مرة في تاريخ الحوارات المجتمعية والسياسية في ليبيا، بحضور لافت ووازن ومؤثر لممثلي الطيف الوطني الملتزم بإرث الجماهيرية والمساند لترشح سيف الاسلام الڨذافي. وقد كان لهذا الوفد موقف رمزي أعاد من خلاله رسم طبيعة اللقاء باعتباره خطوة أولى على درب التأسيس الجديد للدولة الليبية عبر رفضهم الجلوس الى مائدة النقاش ما لم ينزع ما يصطلح على تسميته بعلم الإستقلال او راية المملكة السنوسية.

لكن، ما اثبتته هذه المسارات الحوارية وخاصة توزع خارطتها على عواصم بعينها، يؤشر الى دخول مرحلة متقدمة من عقد الصفقة التاريخية حول ليبيا بين الفاعلين الحقيقيين بعيدا عن مجاملات الجوار والإقليم. فالتقارب السوري التركي والمصري التركي الذي لم يترجم في كل الملفات الدقيقة الأخرى، بدأ يثمر توافقات اقليمية من ضمنها الأزمة الليبية. فمشهد الإستقبالات التي يحظى بها اعضاء الوفود المرتبطة عضويا بالأتراك على أرض الكنانة والحفاوة التي تصحب كل تحركاتهم في القاهرة، لا يُعدّان مفارقة بقدر ما يعكسان تقاربا في تصور “حل” الملفات الليبية الأمنية منها والدستورية والمؤسساتية وخاصة الطاقية.

ومما يشير الى نوع من التعاطي الپراغماتي المستجد لدى الطرف التركي في تناوله للأزمة الليبية الرد المعتدل جدا على قرار احدى محاكم طرابلس تعليق العمل ببروتوكول التنقيب عن الثروات النفطية والغازية داخل المياه الليبية. كما اشارت التحركات الاحتجاجية في القرى الشمالية بسوريا الى ان الميليشيات اصبحت تخشى من ايقاف عمليات التجنيد للمرتزقة الذين يقاتلون في طرابلس الى جانب ميليشيات عبد الحميد الدبيبة.

بالتوازي مع نشاط الديبلوماسية والأذرع المخابراتية والعسكرية التركية، تواصل القاهرة جهدها في إعادة بناء الجيش الليبي وفق تصور ينحو صوب تحالف بين البلدين تكون فيه الرتب الأهم من حصة اصدقاء مصر كخطوة نحو تفكيك الميليشيات وجمع أسلحتها وبناء الشبكة الأمنية على امتداد العمق الحدودي بين الجارين.

اما العواصم التي اعتادت طيلة السنوات الماضية احتضان اللقاءات الليبية ابتداء من الرباط وصولا الى تونس مرورا بالجزائر، فقد تم تهميشها عمدا وابعادها عن هذه المرحلة الدقيقة من الحوارات التي من شأنها، حسب منظميها من القوى الإقليمية الفاعلة ميدانيا، تقاسم ثمرات التدخلات والتأثير في الشأن الليبي منذ عقد.

الا ان غياب تونس هو ما يثير أكثر من سؤال. فتغييب الجزائر مثلا هو بمثابة اعادة التوازن لاستبعاد المملكة المغربية التي فقدت دورها كوسيط ممثل للدول الغربية. كما ان التقييم السلبي للمنتظم الأممي لما آلت اليه الأوضاع عقب اتفاق الصخيرات الكارثي، جعل القائمين على المسارات الحوارية يتوجهون نحو ابعاد الفاعل المغربي في إطار تحجيم الدور الأوروبي خصوصا.

ان عجز الديبلوماسية التونسية عن مراكمة التجربة والمكاسب يمثل احد أسباب استبعاد بلادنا من هذه الجولة المفصلية في مسارات الأزمة الليبية.

ان وصف المقاربات التونسية للأزمة في ليبيا وسياسات التقارب مع هذا الطرف او ذاك بالتيه والعشوائية ليس تجنيا او حكما قاسيا. فقد عمدت النهضة وحلفاؤها، منذ الأيام الأولى للأزمة الليبية الى جر تونس الى مربعات الصراع الداخلي في الجارة الجنوبية والإصطفاف وراء المنظومات الميليشياوية بما في ذلك الفصائل المسلحة للإسلام السياسي. هذا الموقف الذي قاد ايضا الى خطيئة تسليم البغدادي المحمودي، أحد ابرز رموز قبيلة المحاميد الوازنة في الغرب الطرابلسي وعلى امتداد المغرب الأوسط، الى الميليشيات الليبية، قطع الطريق حينها على اي تواصل مع بقية الفرقاء من مكونات النسيج المجتمعي الذي ناهض وقاوم الحكومات المفروضة فرضا على ليبيا. بعد 2019، كانت مبادرة الرئيس قيس سعيد بالتوجه نحو العمق الاجتماعي والجغرافي الليبي باستقباله ممثلي الفعاليات القبلية التي تدين في مجملها بالولاء للإرث الجماهيري، محاولة لكسر احتكار التحاور مع المنظومات السياسية السابقة وتنويع شبكات العلاقات مع الجارة ضمن رؤية بديلة.

الا ان هذا التوجه بقي معزولا عمليا ومنهجيا. فلم تلبث الآلة الكلاسيكية القديمة للديبلوماسية التونسية ورديفها المتمثل في ادارة الاستشارة الاستراتيجية التي لم تستوعب التغيرات الإقليمية، ان أعادت تونس الرسمية الى مربع العلاقات الفاقدة لأي رؤية مستقبلية. كانت زيارة عبد الحميد الدبيبة الأخيرة لبلادنا وما صاحبها من وعود لم تصدق الى يومنا هذا رغم انقضاء مواعيدها وتأكيد الجانب التونسي وقوفه الى جانب احدى الحكومات المتنازعة في البلاد، إيذانا بالقطيعة مع أوسع طيف سياسي في ليبيا. هذا الطيف هو الذي يحاور اليوم ويساهم في بناء التصورات للخروج من الأزمة، بما في ذلك تنظيم الانتخابات التي قد تفرز شرعيات جديدة. شرعيات ستغيّب حتما الدبيبة الذي استبعد، مثل تونس، من كل مبادرات الحوار ومن مسارات التوافق التي تمحورت حول مجلسي الرئاسة والدولة والبرلمان والقيادة العامة للجيش واستثنت الحكومتين المتنافستين برئاستي  الدبيبة  وفتحي باشاغا.

ان المراهنة على طرف بعينه بدعوى احترام “الشرعية الدولية” أضاع على بلادنا القدرة على استشراف الأوضاع في ليبيا واستبعاد تونس من التفاهمات إقليميا قد ندفعه ثمنا باهظا أمنيا اذا تعثرت الترتيبات الخاصة بإجلاء المرتزقة وتفكيك الميليشيات. فليس من قبيل افشاء الأسرار القول ان العديد من عناصر الميليشيات في ليبيا وفي ألوية المرتزقة المرابطة بالجوار الطرابلسي هم من حملة الجنسية التونسية وان اي تسريح لهؤلاء دون تنسيق مع الجانب التونسي الرسمي سيكون بمثابة اطلاق قنابل موقوتة في فراغ المربعات المجالية القريبة من حدودنا.

لا يجب ان تتحول مسارات نزع فتيل الحروب الأهلية المتعاقبة في ليبيا الى تصدير للأزمة الى بلادنا. لقد رافقت كل فترات الخروج من الصراعات الداخلية في بعض البلدان، إعادة توزيع للسلاح والمقاتلين في الإقليم. لذا على الحكام حتى وان أقرت بعض القوى بوجوب تهميش تونس عن مسارات الملف الليبي حاليا، المسارعة نحو الانخراط في الحوارات ومتابعة المآلات والمطالبة بالإشراك الفعلي في تصورات الترتيبات الأمنية.

عدا ذلك سندفع مرة أخرى، كما في 2011، ثمن سياسات الكبار واختياراتهم.

افتتاحية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 17 جانفي 2023


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING