الشارع المغاربي- تحقيق -محمد الجلالي:من قابس الى منوبة وأريانة مرورا ببن عروس وصفاقس وسيدي بوزيد وسوسة، كانت المحسوبية والمحاباة وتضارب المصالح احدى ابرز السياسات في إسناد تراخيص سيارات التاكسي على مدى سنوات.
وبقدر تعدد الأطراف المتدخلة في اسناد الرخص والمعروفة باللجان الجهوية الاستشارية للنقل تفاقم الفساد وتكالب الدخلاء على قطاع سيارات التاكسي الفردي أو الجماعي أو سيارات اللواج. في الاثناء علا صوت سماسرة التراخيص والباحثين عن تأجيرها مقابل معلوم شهري قار في خرق واضح للقانون وحرمان آلاف المسجلين بقائمات الانتظار أو ممن وافتهم المنية وهم يمنون النفس بإنصافهم من الحصول على تراخيص.
ولاءات ومحاباة
منذ ديسمبر 2017 توجه علي بن سعد رئيس الجمعية الوطنية لحماية قطاع التاكسي بأكثر من 50 مطلب نفاذ الى ادارات مختلفة منها رئاسة الحكومة والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ومطار المنستير ووزارة النقل والوكالة الفنية للنقل البري وولايات تونس وسوسة والمنستير والقيروان وصفاقس ومدنين..
يقول علي بن سعد وهو يتصفح ملفا خاصا بعشرات الطعون التي أرسلها الى هيئة النفاذ الى المعلومة بعد ان اصرت إدارات عمومية على حجب معطيات خاصة برخص كان الرجل يشتبه في قانونية اسنادها: “لم يكن لي أي علم بما يحدث في قطاعنا الى ان تقدمت بطلب للحصول على رخصة من ولاية سوسة فوقفت على تجاوزات شتى”.
ويتابع: “لقد كنت مجبرا على التسلّح بحقي في النفاذ الى المعلومة للتأكد من بعض الشبهات. وفعلا اكشتفت اسناد رخص الى شخصيات نافذة او موظفين عموميين أو أقارب بعض أعضاء اللجنة الاستشارية للنقل.”
في هذا السياق راسل محدثنا ولاية صفاقس ففوجئ بحصول مواطن على قرار من والي الجهة يقضي بالترخيص له في تعاطي نشاط النقل العمومي للأشخاص بواسطة سيارة تاكسي في 1994 ثم على قرار ثان من والي سوسة إثر ثورة 2011 قبل ان يتقدم بطلب لإلغاء القرار الأول.
بن سعد توجه في 2018 بمطلب نفاذ الى بلدية سوسة فتأكد له حصول عامل بنفس البلدية على ترخيص لنقل الأشخاص بواسطة سيارة تاكسي ثم طلب معطيات من الوكالة الفنية للنقل البري فثبت له ان رئيس مركز امني يتمتع منذ 2007 بترخيص للنقل العمومي غير المنتظم المعروف ب”لواج” وان نقابيا نافذا بالغرفة الجهوية لأصحاب سيارات التاكسي الفردي تدخل لشقيقه للحصول على ترخيص منذ 1999.
مطالب اعتراض
علي بن سعد ليس سوى واحدا من عديد الأصوات الرافضة للتراخيص المسندة حسب الولاءات والمحاباة. فقد حصلت أسبوعية “الشارع المغاربي” على وثائق تثبت تقدم سواق سيارات التاكسي في نوفمبر 2012 لولاية سوسة بمطالب اعتراض مؤكدين ان لا علاقة ببعض الحاصلين على تراخيص تاكسي فردي بالقطاع.
من جانبه واصل علي بن سعد لسنوات تمسكه بحقه في الحصول على ترخيص من ولاية سوسة لمزاولة نشاطه في قطاع النقل العمومي غير المنتظم للأشخاص لكن الولاية رفضت في مراسلة أولى تعود الى 2012 وبررت ذلك بان “القانون المتعلق بعمل المتقاعدين يمنع الجمع بين جراية التقاعد والدخل القار المتأتي من اجر او راتب شهري”. وفي 2015 كانت إجابة الممثل الجهوي للموفق الإداري بسوسة عن استفسار بن سعد ان سنوات الاقدمية التي يتمتع بها لا تخوّل له الحصول على الترخيص. ثم عادت ولاية سوسة في 2018 الى التأكيد على انه يتعذر عليها الاستجابة لطلب الرجل في الحصول على “رخصة تاكسي سياحي” بسبب تقاضيه جراية تقاعد من الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.
يقول علي بن سعد: “من غرائب الإدارة التونسية ان ولاية سوسة رفضت منحي رخصة تاكسي بدعوى اني اتمتع بجراية تقاعد ولكنها مكّنت متقاعدين اخرين من هذه الرخصة ومتعت موظفين عموميين ودخلاء من نفس الرخصة والاغرب من كل ذلك انني حصلت على هذه الرخصة حين توجهت الى ولاية المنستير.
ورغم حصوله على ترخيص للعمل في قطاع التاكسي السياحي واصل علي بن سعد تصديه لما يعتبره فسادا ممنهجا في ولاية سوسة فقدم شكايتين الى النيابة العمومية متهما عددا من أعضاء اللجنة الجهوية الاستشارية للنقل بإسناد تراخيص دون وجه حق والاعتماد على المحاباة والمحسوبية والارتشاء خلال أداء عملهم كموظفين عموميين.
وفي قابس أيضا..
في قابس تفطن سائقا سيارات تاكسي الى وجود تجاوزات في اسناد التراخيص فحاولا جاهدان كشف ما اسمياه تلاعبا مفضوحا. توجه أحدهما الى الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد للتبليغ عن حصول بعض السواق عن تراخيص دون امتلاكهم بطاقات مهنية.
وبعد اغلاق الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في سبتمبر 2021 لجأ نفس المبلّغ الى القضاء لتتبع من يعتبرهم ضالعين في “فوضى التراخيص” قبل ان يجد نفسه موقوفا بتهمتي الثلب والتشهير.
يقول المبلّغ الذي فضل عدم الكشف عن هويته: ” لم يجد بعض المتنفذين بقطاع التاكسي الفردي في قابس الا ملاحقتي قضائيا في محاولة منهم لاسكاتي واثنائي عن كشف تجاوزاتهم فاستغلوا ممارسة حقي في التعبير لتلفيق التهم. وبعد ايقافي يوما كاملا تم اطلاق سراحي بعد الوقوف على مجانبتهم الصواب.”
اما السائق الثاني فقد كلّفه وقوفه في وجه من اعتبرهم مهندسي التراخيص العشوائية والوثائق المدلسة غاليا.
ويؤكّد السائق انه اكتشف في 2011 إضافة عدد مهول من الأسماء لقائمة الحاصلين على تراخيص التاكسي الفردي وان بعضهم كان متمتعا بالعفو التشريعي العام بما يعني عدم استجابتهم لشرطي المهنية والتجربة.
ويتابع: “ارتفع عدد التراخيص الى أكثر من مائتين بعد ان كان في حدود العشرات فما كان من اللجنة الجهوية الاستشارية للنقل بقابس الا ان حجبت محضر جلستها حتى لا ينكشف امرها ثم تتالت محاضر الجلسات المضيقة. حينها بلغ الى علمنا تدخّل احد النقابيين بالغرفة الجهوية لأصحاب سيارات التاكسي الفردي بقابس لتمكين شقيقه من ترخيص واضافة عديد الأسماء للقائمة النهائية للحاصلين على التراخيص.
في هذا الاطار حاولت جريدة “الشارع المغاربي” الاتصال بمعز السلامي رئيس الغرفة النقابية الوطنية لأصحاب سيارات التاكسي الفردي بالاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية لمواجهته بالاتهامات المنسوبة الى بعض رؤساء النقابات الجهوية لكنه لم يتسن لها الحصول عليه هاتفيا.
لجأ السائق الى القضاء رافعا في الغرض قضيتين واحدة الى المحكمة الإدارية لالغاء قرار اللجنة الجهوية الاستشارية للنقل وأخرى الى وكالة الجمهورية لتتبع المشتبه فيهم.
يشدّد السائق على انه استظهر لدى القطب القضائي والمالي بتونس بما يفيد كل التجاوزات التي أشار اليها وانه فوجىء بعد ذلك بتعيين أحد المظنون فيهم معتمدا.
ويواصل: ” لطالما كنت مقتنعا بان الثورة طوت صفحة الفساد والمحسوبية وتغول بعض المتنفذين لكنني اكتشفت مع الاسف ان ذلك لا يعدو ان يكون سوى سرابا وكنتيجة لليأس الذي الم بي أصبت بمرض خبيث لا يزال يرافقني”.
من جهته يؤكد فوزي الخبوشي امين عام اتحاد التاكسي الفردي وقوف الاتحاد على وجود اخلالات في اسناد التراخيص مشيرا الى ان إقليم تونس الكبرى لا يخلو من جولان عدة سيارات تاكسي على ذمة امنيين او موظفين بأكثر من وزارة او مملوكة من مهاجرين بالخارج.
ويضيف: “رغم ان القانون يمنع كراء تراخيص “التاكسي” يحصل كثيرون على تراخيص بطرق ملتوية ثم يعمدون الى تأجيرها بينما ينتظر سواق اخرون دورهم في قائمات الانتظار لعشرات السنين”.
في هذا السياق امدنا الخبوشي بقائمة تتضمن حاصلين على تراخيص رغم اقامتهم في بلدان مثل المانيا وإيطاليا لافتا الى ان بعض الأطراف باتت تستغل ضعف الرقابة على القطاع لتدليس الأرقام الخاصة بسيارات التاكسي والى ان هذا فسح المجال لبروز نشاط مواز في القطاع.
الخبوشي أشار ايضا الى ان اتحاد التاكسي الفردي دأب على مراسلة الولاة لاعلامهم بمختلف التجاوزات الحاصلة في القطاع مرجحا تواطؤ بعضهم مع المتجاوزين.
يذكر ان الفترة الأخيرة شهدت فتح تحقيقات قضائية تتعلق باسناد تراخيص سيارات تاكسي في اكثر من ولاية بشكل مخالف للقانون.
قضية منوبة الشهيرة
وكانت النيابة العمومية بالمحكمة الابتدائية في منوبة قد اذنت في أكتوبر المنقضي بفتح بحث تحقيقي ضد الوالي السابق احمد السماوي و100 شخص من المنتفعين برخص نقل وكل من سيكشف عنه البحث في شبهات فساد مالي وإداري في ما بين 2011 و2019.
وتعلقت بالموقوفين جملة من التهم هي ارتشاء موظف عمومي وقبول هدايا ومنافع لنفسه واستخلاص فائدة له أو لغيره ومخالفة التراتيب المنطبقة على العمليات لتحقيق فائدة والاضرار بالادارة ومسك واستعمال مدلس وافتعال وثائق ادارية.
وفي افريل الماضي أكد المحامي أحمد الزعفراني الإفراج عن الوالي المذكور.
كما سبق للنيابة العمومية بمحكمتي اريانة وسيدي بوزيد الاذن بتقديم اكثر من 10 اشخاص بشبهة فساد في التعاطي مع ملف إسناد رخص تاكسي فردي وجماعي. وكان من بين الموقوفين وال سابق وكاتب عام بولاية سيدي بوزيد ورئيس نقابة جهوية لسيارات التاكسي الفردي.
يذكر ان حسام الجبابلي الناطق الرسمي باسم الإدارة العامة للحرس الوطني كان قد اكد بتاريخ 17 جانفي الماضي ان النقيب محسن العديلي الذي عثر عليه مشنوقا بمنزله كان سيدلي امام القضاء بشهادته في قضية اسناد رخص تاكسي لإرهابيين من قبل وزير العدل سابقا نورالدين البحيري وحركة النهضة. أمر نفته الحركة داعية وزارة الداخلية الى كشف ملابسات الوفاة.
هكذا فتحت المحسوبية والمحاباة وحتى تضارب المصالح أبواب الفساد للحصول على تراخيص سيارات التاكسي والاجرة عموما لينضم القطاع الى عالم النقل العمومي المحكوم حيث يُحكم سماسرة ومتنفذون قبضتهم ويفضلون التعامل مع من يدفع اكثر او يمتلك نفوذا أكبر.
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 17 ماي 2022