الشارع المغاربي: عملية الدّخول في برنامج مع صندوق النقد الدولي تدوم عادة من أولها إلى آخرها، أي من بداية المحادثات التقنية إلى المفاوضات إلى الاتفاق على مستوى الخبراء (أو الاتفاق المبدئي) إلى الاتفاق النهائي إلى صرف القسط الأول، ثلاثة أشهر كمعدّل.
بالنسبة إلى تونس العملية كانت أصعب وأطول بكثير هذه المرّة. المحادثات التقنية لوحدها دامت ستة عشر شهرا والمفاوضات دامت شهرين. وهكذا توصلت تونس الى اتفاق على مستوى الخبراء بعد ثمانية عشر شهرا. لماذا كل هذه المدة؟ الجواب ببساطة في ست نقاط :
1 – تونس تقدمت لصندوق النقد الدولي هذه المرة بمصداقية مهتزّة بعد فشل برنامجي 2013 و2016 بسبب عدم التزام الحكومات السابقة بتعهداتها بخصوص الإصلاحات.
2 – العرض التونسي، أي برنامج الإصلاحات المطروح لم يكن مقنعا ممّا تطلب مراجعته مراجعات عميقة في عديد المناسبات. وبالتالي فإن في القول بأن البرنامج النهائي المتفق عليه كان تونسيا بحتا في مغالطة.
3 – الخطاب الرسمي التونسي كان مشتتا، وبالتالي فاقدا للمصداقية. كان هناك خطابا من رئيس الجمهورية مغايرا لخطاب الحكومة والذي بدوره كان مغايرا لخطاب المجتمع المدني وخاصة خطاب الاتحاد العام التونسي للشغل والذي كان بدوره مغايرا لخطاب البنك المركزي ولخطابات مختلف الأحزاب. لخبطة وفوضى أفقدت الطرح التونسي محتواه وجعلت الخطاب التونسي أقرب الى الغوغاء منه الى خطاب موحد ومسؤول.
4 – الوضع السياسي الاستثنائي وغير المستقر والمتسبب في تراجع كبير على مستوى الانتقال الديمقراطي.
5 – هشاشة الوضع الاقتصادي والمالي الذي ينبئ بالخطر. التصنيف الائتماني أو الترقيم السيادي المتدني والذي تمت مراجعته الى الأسفل تسع مرات متتالية منذ 2011 : من BBB+ مع توجه إيجابي إلى CCC- مع توجه سلبي. تونس الآن مصنفة بلدا ذي مخاطر عالية.
6 – وضع علاقاتنا الخارجية لا يساعد على الحصول على التمويلات الخارجية وعلى رأسها تمويل صندوق النقد الدولي كما لا يساعد على تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر على بلادنا.
الآن وصلنا إلى مستوى الاتفاق المبدئي
هذا يثير سؤالين في غاية الأهمية:
السؤال الأول : هل يتحول الاتفاق المبدئي إلى اتفاق نهائي في شهر ديسمبر مثلما هو معلن؟ هذا غير مضمون لأسباب عدة سنتعرض اليها في ما يلي. ولكن لماذا أرجأ صندوق النقد الدولي النظر في الانتقال الى اتفاق نهائي الى شهر ديسمبر؟ هذا السؤال مهم جدا لأنه جرت العادة أن تمر الدول مع صندوق النقد الدولي من اتفاق مبدئي الى اتفاق نهائي في غضون أيام قليلة ويتم التوقيع وصرف القسط الأول. لكن بالنسبة الى تونس الفرق بين الاتفاق المبدئي والاتفاق النهائي سيكون شهرين على الأقل عوض بضعة أيام وذلك لسبب في غاية الأهمية : صندوق النقد الدولي يشترط الاطلاع على مشروع قانون المالية التكميلي لسنة 2022 ومشروع قانون المالية لسنة 2023 قبل التوقيع عليهما من قبل رئيس الجمهورية. صندوق النقد الدولي يريد أن يتأكد من أن هذين المشروعين مطابقان فعلا لبرنامج الإصلاحات الذي توصلت على أساسه تونس الى الاتفاق المبدئي. وهنا لابد من الاعتراف وأن العملية معقدة وصعبة جدا وأن فيها مسّا من السيادة الوطنية. ثم كيف سيتم إعداد قانون المالية التكميلي 2022 وقانون المالية لسنة 2023 والدولة عاجزة عن غلق ميزانية 2021 (نعم 2021) وعن تغطية نفقاتها لما تبقى من سنة 2022 وعن مجابهة مستحقات الدين الخارجي لسنة 2023 والتي تساوي أكثر من مرتين ونصف مستحقات الدين الخارجي لسنة 2022.
الانتقال من اتفاق مبدئي الآن الى اتفاق نهائي في ديسمبر القادم بصراحة غير مضمون في ظل أوضاعنا الاقتصادية والمالية والاجتماعية والسياسية الحالية وبالخصوص أوضاع علاقاتنا الخارجية.
السؤال الثاني : هل ستتوصل السلط التونسية هذه المرة الى احترام تعهداتها بخصوص الاصلاحات واعتبار الاتفاق المبدئي مع صندوق النقد الدولي فرصة ذهبية للدخول بجدية وصدق وعزيمة في عملية انقاذ شاملة للاقتصاد التونسي وللمالية العمومية وللمؤسسات العمومية التونسية وللتجربة التونسية برمتها؟
المبلغ الاجمالي للقرض هو 1,9 مليار دولار أو ما يساوي تقريبا 6,2 مليارات دينار. يصرف هذا القرض على مدى أربع سنوات أي ثمانية أقساط نصف سنوية. مبلغ كل قسط حوالي 240 مليون دولار. وبين كل قسط والقسط الموالي يأتي فريق من صندوق النقد الدولي الى تونس للقيام بالمراجعات اللازمة وتقييم التقدم في انجاز الإصلاحات.
وحسب نتيجة التقييم يأذن الفريق بصرف القط الموالي أو عدم صرفه كما يمكن أن يطلب من اللجنة التنفيذية لصندوق النقد الدولي الغاء البرنامج (أي القرض) برمته مثلما حصل لتونس بخصوص قرض 2016. وبالتالي هل ستتمكن السلط التونسية من انجاز ما تعهدت به من إصلاحات؟ العديد من الإشارات تجعلنا نشك في ذلك. نذكر منها :
- لماذا ترفض الحكومة الى حدّ الآن الإفصاح عن برنامج الإصلاحات الذي تعهدت به لدى صندوق النقد الدولي قصد الحصول على الاتفاق المبدئي وهي تعلم أنه في صورة التوصّل الى اتفاق نهائي سيقوم صندوق النقد الدولي بنشر كل التفاصيل عبر موقعه الرسمي على الانترنيت.
- لماذا يعلن الاتحاد العام التونسي للشغل عن رفضه برنامج الإصلاحات الذي يخص منظومة التعويض والمؤسسات العمومية بعدما وقع مع الحكومة اتفاقية الزيادات في الأجور؟
- لماذا تعلن المديرة العامة لصندوق النقد الدولي على أن برنامج تخصيص (أو خوصصة) بعض المؤسسات العمومية هو برنامج الحكومة التونسية ويعلن في نفس الوقت مسؤول سابق في الحكومة وهو قيادي في حزب موال لرئيس الجمهورية أن الرئيس يرفض تخصيص بعض المؤسسات العمومية؟ أليس هذا تواصل للخطاب المشتت أو المزدوج والذي يزيد من اضعاف مصداقية الخطاب الرسمي التونسي؟
المقارنة مع أوضاع بلدان أخرى لا تستقيم دائما اذ لكل بلد خصوصياته. ولكن من المهم التذكير هنا بأن لبنان توصل الى اتفاق مبدئي في أفريل 2022 وبأنه لم يتوصل الى اتفاق نهائي الى حدّ الآن.
وفي الختام لابدّ من الاعتراف بأن التوصل الى اتفاق نهائي بين تونس وصندوق النقد الدولي في ديسمبر 2022 غير مضمون ثم إن في صورة التوصل الى اتفاق نهائي فإن انجاز الإصلاحات وبالتالي صرف الأقساط غير مضمون.
اذا لم تتوصل السلط التونسية الى انجاز وانجاح هذا القرض وهذا البرنامج بالكامل فسيكون، لا قدّر الله، البرنامج الثالث الفاشل على التوالي : برنامج 2013 ثم برنامج 2016 ثم برنامج 2022.
لقد أصبح من الضروري إنجاح هذا البرنامج وتجنيب تونس التعثر في تسديد قروضها الخارجية والدخول في دوامة إعادة جدولة الدين الخارجي مرورا عبر نادي باريس وما بعده.
أعان الله وطنا يحارب الوباء والغباء والغلاء وقلّة الحياء.*
- مقتبسة من صديقي معز العبيدي
نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ 1 نوفمبر 2022