الشارع المغاربي : في حديث صحفي صادر بصحيفة “المغرب” بتاريخ 16 جانفي 2018 اعتبر وزير الخارجية خميس الجهيناوي أن الأزمة الناجمة عن منع التونسيات من دخول الأراضي الإماراتية «قد طويت» مضيفا انه «علينا الآن أن ننظر إلى المستقبل».هذا التصريح ينسجم مع سياسة التهدئة التي توختها الحكومة منذ البداية في تعاملها مع هذه الأزمة بسعيها للتقليل من حجم الإساءة الإماراتية لتونس ومحاولة إحتواء ردود الفعل العنيفة التي أثارتها بتونس في الأوساط الشعبية والنقابية والحزبية والمجتمع المدني بسبب طابعها المهين والإستفزازي المتعمد المستخف بكرامة التونسيين وبهيبة الدولة التونسية والمنافي للأعراف الدولية لا سيما وأن السلطات الإماراتية لم تعتذر ولم تقدم توضيحات مقنعة لتبرير هذه الخطوة الأحادية.
مظاهر تأزم العلاقات التونسية الإماراتية بعد الثورة
ويجدر التذكير في هذا الصدد بأنه سبق للسلطات الإماراتية أن تعاملت مع تونس بنفس هذا الأسلوب الاستعلائي، وكان ذلك إبان ما يسمى بأزمة التأشيرات التي حجبت بصفة فجئية عن التونسيين بمن فيهم المقيمين بدولة الإمارات دون تقديم توضيحات رسمية باستثناء بعض التسريبات الإعلامية التي ربطت هذا الإجراء بمخاوف أمنية إماراتية مرتبطة بتفشي ظاهرة الإنتماء إلى الحركات الإرهابية في صفوف الشباب التونسي ، واستمر هذا الشكل من العقاب الجماعي لفترة طويلة مع الإشارة إلى أن تونس أبدت آنذاك بصفة ضمنية تفهمها للأعذار الأمنية التي قدمت لتبرير القرار.
غير أن العديد من الملاحظين عزوا هذا الإجراء لإنزعاج السلطات الإماراتية من سياسة التوافق مع حركة النهضة التي توخاها الرئيس الباجي قائد السبسي بعد الإنتخابات الرئاسية والتشريعية مع الإشارة إلى التدهور الحاد في العلاقات بين تونس والامارات في ظل حكم الترويكا بسبب موقف ألإمارات المناهض لصعود الإسلام السياسي للحكم بتونس ومصر بعد الثورة.
وهذا ما يفسر الضجة التي أثارتها الإمارات وقيامها بسحب سفيرها من تونس «إحتجاجا» على الموقف المعارض للإنقلاب العسكري الذي اطاح بالإخوان المسلمين بمصر الذي كان قد عبر عنه آنذاك الرئيس السابق المنصف المرزوقي في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وعلى صعيد متصل يجدر التذكير بإحجام الإمارات عن التعاون مع مساعي تونس لاسترداد أموالها المنهوبة المهربة بكثافة إلى الوجهة الإماراتية وتحديدا دبي من قبل الرئيس الأسبق وعائلته عبر شبكات منظمة وبتنسيق مسبق مع بعض رجال الأعمال التونسيين المقيمين هناك. كما شهد التعاون المشترك بعد الثورة فتورا وتجسد ذلك في تقلص الاستثمارات الإماراتية وعدم إحياء ما يسمى بالمشاريع الكبرى على غرار مشروع سماء دبى ومشروع مدينة أبو خاطر الرياضية بمنطقة البحيرة فضلا عن إمتناع الإمارات عن تقديم تعهدات بالاستثمار في المؤتمر الدولي تونس 2020 المنعقد في نوفمبر 2016.
وهكذا لم تشهد العلاقات التونسية الإماراتية إنفراجا يذكر بعد الثورة سوى خلال الفترة الوجيزة التي تولت فيها حكومة المهدي جمعة السلطة إثر سقوط حكومة الترويكا برئاسة النهضة الذي قوبل بارتياح إماراتي واضح ومكشوف تجسد من خلال دعم الإمارات حزب نداء تونس ورئيسه وبرنامجه للإنتخابات التشريعية والرئاسية 2014 القائم على إزاحة النهضة من السلطة والتناقض الكلي مع خطها السياسي ومشروعها المجتمعي.
غير أن تراجع الرئيس السبسي عن هذه التعهدات ودخوله في سياسة التعايش مع النهضة والتوافق معها صلب الحكم بسبب وزنها الإنتخابي سينعكس جد سلبيا على العلاقات التونسية الإماراتية التي ستظل تتخبط في فصل لا ينتهي من الأزمات المزمنة والهزات المتواصلة.
ومن العوامل التي قد تكون ساهمت في زيادة تعقيد العلاقات بين تونس والإمارات الكتاب الصادر سنة 2015 عن الكاتب التونسي سامي الجلولي بعنوان «الإمارات ما قبل الكارثة» الذي يعطي صورة قاتمة عن الأوضاع الداخلية والخارجية الهشة للدولة منذ سيطرة الشيخ محمد بن زايد عن السلطة ودخوله في سياسة التحالفات والمحاور فضلا عن اختراق سيادة الدول والتدخلات العسكرية المتعددة المحفوفة بالمخاطر وهي تثير مخاوف صلب الطبقة الحاكمة وخاصة حاكم دبي الذي يخشى من تبعاتها السلبية الاقتصادية على الإمارة وعلى أمن الدولة واستقرارها.
ويستشهد الكاتب بتحاليل الدكتور عبد الله النفيسي وهو أكاديمي ومفكر إستراتيجي كويتي معروف بانتقاده الشديد للسياسة الخارجية الإماراتية كما سبق له أن نبه إلى الخلل الديمغرافي والسكاني في عديد البلدان الخليجية ومنها الإمارات وقطر والكويت حيث تسيطر الأغلبية السكانية الأجنبية على الاقتصاد والقطاعات الحيوية وهي من المخاطر التي يرى ضرورة معالجتها باعتبار أنها تطرح قضية فقدان هذه الدول هويتها العربية وهو ما يشكل خطرا وجوديا قد يهدد هذه الكيانات الهشة بالتقسيم أو حتى بالانقراض في الأمد المنظور.
خفايا الموقف الإماراتي والخليجي المتحفظ إزاء الثورة بتونس وتداعياتها الإقليمية والعربية
لا شك في أن الدول الخليجية والعربية عموما لم تكن مرتاحة لإندلاع الثورة التونسية لأنها تخشى من العدوى التي قد تعصف باستقرار نظمها الملكية القائمة على الحكم الفردي والقبلي لا سيما بعد أن طالت إرتداداتها السريعة عديد المناطق العربية بما فيها دولة البحرين حيث حظي الحراك الشيعيي بدعم إيران مما أدى إلى تدخل عسكري سعودي إماراتي لإحتواء الموقف، كما تحركت دول الخليج سياسيا وماليا للمساعدة على إعادة الهدوء والإستقرار بالمغرب والأردن وعرضت عليهما الإنضمام إلى مجلس التعاون الخليجي.
هذا وسعت الدول الخليجية جاهدة، للحيلولة دون إنفلات الأوضاع بمصر ولم تكن مرتاحة للموقف الأمريكي الضاغط على الرئيس السابق حسني مبارك لدفعه للتنحي عن السلطة مما فتح المجال لصعود الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم وهو الأمر الذي تسبب في إنقسام الموقف الخليجي حيث تموقعت قطر، خلافا لدولة الإمارات، إلى جانب صعود الإسلاميين إلى سدة الحكم بمصر وتونس التي تحولت في الواقع إلى ساحة للصراع على النفوذ بين عديد اللأطراف العربية والدولية والخليجية ومنها قطر والإمارات.
ويجدر التذكير بأن قطر والإمارات تدخلتا عسكريا في ليبيا بالتنسيق مع فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة وإيطاليا لمعاضدة المخطط الغربي الذي أفضى بدعم من الجامعة العربية إلى إسقاط النظام واغتيال العقيد القذافي مما أدى إلى إشاعة الفوضى وعدم الإستقرار في المحيط الأمني لتونس فضلا عن تحويل ليبيا إلى دولة فاشلة حاضنة للإرهاب الذي أضحى يشكل تهديدا قارا للأمن القومي التونسي ولكافة البلدان العربية والإفريقية المجاورة.
وهكذا يتبين أن الدول الغربية سعت منذ البداية إلى توظيف الموقف الخليجي لخدمة الإستراتيجية التي وضعتها للتعامل مع الإنتفاضات العربية بما يخدم مصالحها الإقتصادية وأغراضها السياسية وليس، كما تدعي، للتناغم مع ما حملت الثورة التونسية من تطلع لإصلاح العلاقات المختلة شمال جنوب وللمساعدة على تطوير النظم السياسية العربية ودفعها لتحقيق تطلعات شعوبها التواقة للقطع مع الإستبداد والحكم الفردي والراغبة في ارساء دولة المؤسسات القائمة على قيم الديمقراطية والكرامة والحرية وحقوق الإنسان.
توظيف الدول الخليجية لخدمة مصالح الدول الغربية
ولا بد من التذكير في هذا الصدد بقمة مجموعة السبع للدول الصناعية الكبرى المنعقدة في ماي 2011 بمدينة دوفيل الفرنسية حيث تعهدت هذه الدول بدعم من حلفائها الخليجيين، ومنهم خاصة السعودية والإمارات وقطر، بمساعدة تونس ومصر ماليا وإقتصاديا على تخطي صعوباتها الإقتصادية وتحقيق إنتقالها السياسي والإقتصادي في ظروف سلسة، ومن ضمن هذه التعهدات، التي لم يقع إحترامها، تمكين تونس من برنامج ضخم للمساعدات المالية وكذلك تمكينها من إسترداد أموالها المنهوبة.
والملاحظ ان هذه «الشراكة الجديدة من أجل الديمقراطية» التي أطلقتها مجموعة السبع في قمة دوفيل باتجاه بلدان «الربيع العربي» تكتسي أهمية إستراتيجية بالغة من حيث أن هدفها الأساسي غير المعلن كان يتمثل في إحتواء الإنتفاضة العارمة التي أطلقتها الثورة التونسية في العالم العربي وتوجيهها وفقا لمصالحها وأهدافها المتمثلة في الحفاظ على مناطق نفوذها وأسواقها وذلك من خلال ضمان استمرارية السياسات الإقتصادية والتجارية الإنفتاحية للنظم السابقة . لذلك كانت المساعدات المشار إليها مشروطة بمواصلة العمل باتفاقات التبادل الحر وتوسيع نطاقها بإرساء التبادل الحر الشامل والمعمق ومواصلة تسديد المديونية في إطار ما يسمى باستمرارية الدولة وهو ما حصل بالفعل.
وفي الجانب الجيوسياسي كان هدف مجموعة السبع إستغلال هذا الحراك للتخلص عسكريا من بعض النظم المزعجة خاصة في ليبيا وسوريا وإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط وذلك بتنسيق مع الدول الخليجية الرئيسية التي دأبت الدول الغربية على توظيفها في مثل هذه المهمات منذ الحرب الأولى على العراق بهدف تأمين الغطاء السياسي والتمويل العربي لما يسمى بالحرب على الإرهاب. وكل ذلك لإضفاء المشروعية على ما يسمى بـ«حق التدخل الإنساني» وهو مفهوم جديد فرضته الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيين بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي لتبرير تدخلاتها العسكرية خارج إطار الشرعية الدولية حتى في الحالات التي يتعذر عليها الحصول على تزكية من الأمم المتحدة.
وفي ظل هذا التراجع الخطير لدور الأمم المتحدة في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين تزامنا مع الإنهيار القيمي والأخلاقي في العلاقات الدولية أصبح التدخل في الشؤون الداخلية للدول وإستباحة سيادتها والقيام بأعمال عسكرية أحادية خارج إطار الشرعية الدولية أمرا شائعا طالما أنه يخدم مصالح القوى العظمى ويحظى بتزكيتها فضلا عن وجود أطراف داخلية مأجورة أو متواطئة كما هو الحال بالنسبة لتونس.
وهكذا يتضح أن الثورة التونسية كانت ضحية المناخ العالمي الذي برزت فيه حيث أنها إندلعت في ظل ظرفية دولية متأزمة إقتصاديا تمر فيها المبادئ والقيم الديمقراطية بأسوإ مراحلها وذلك نتيجة هيمنة التجمعات الكبرى كمجموعة السبع والإتحاد الأوروبي التي تسعى إلى إلغاء الحدود واستباحة سيادة الدول وأسواقها دون قيود أو حدود كما تسعى لإرساء مفاهيم وأسس جديدة لإدارة شؤون الدول من خارج حدودها ودون أي إعتبار لنظمها السياسية ومؤسساتها الديمقراطية.
الإستراتيجية الإماراتية للتعامل مع تطور الأوضاع بتونس
هذه الإستراتيجية المنشورة على الأنترنات تم إعدادها بداية جوان 2017 من قبل «مركز الإمارات للسياسات» وهي تتضمن اقتراحات موجهة إلى السلطات الحاكمة بالدولة حول سبل التحرك على الساحة التونسية لكسب الولاءات والأتباع بهدف التأثير في المشهد السياسي بما يخدم مصالح الإمارات وأهدافها الأساسية ومنها خاصة مواجهة النفوذ القطري الداعم لحركة النهضة وللإسلام السياسي المصنف بالمتطرف والراديكالي، ومن أبرز الخطوات المقترحة «بناء كتلة سياسية موالية» بالإعتماد على أطراف سياسية ومنها خاصة حزب مشروع تونس ورئيسه محسن مرزوق والإنفتاح على الحساسيات والشخصيات والأحزاب «الدستورية» المعارضة للتحالف مع النهضة.
هذا وتوصي الدراسة بـ«تبني» بعض الشخصيات السياسية التي يمكن أن تشكل بديلا للسلطة لما تحظى به من إحترام في تونس وذكر منها احمد نجيب الشابي، كما تقترح التواصل مع أبرز مكونات المجتمع المدني وخاصة إتحاد الشغال وإتحاد الصناعة والتجارة.
وحول سبل «كبح النفوذ القطري» بتونس تقترح الدراسة بناء شراكات إقتصادية ومالية منافسة للحضور الإقتصادي القطري وبناء قطب إعلامي منافس ودعم المؤسسات الثقافية كبيت الحكمة التي يمكن ان تنافس المؤسسات المدعومة من قطر. وتندرج هذه الخطوة في إطار» محاربة التطرف الراديكالي في أبعاده الأمنية والسياسية والفكرية».
والملاحظ أن هذه الوثيقة الإماراتية الأصل تتقاطع مع عديد الوثائق المكتوبة والسمعية البصرية المتداولة والصادرة خاصة عن الموقع الإلكتروني «أسرار عربية» ومفادها أن الإمارات نجحت في بناء شبكات من الأتباع والعملاء وحتى «الجواسيس» التونسيين والأجانب المجندين لخدمة أهدافها بتونس، وينتمي هؤلاء إلى أحزاب بما فيها حزب النهضة وكتل برلمانية ويعتمدون على سياسيين ورجال أعمال وأذرع إعلامية معروفة. ووفقا لنفس المصادر تخطط الإمارات للتدخل في الإنتخابات البلدية المقبلة، كما حصل في الانتخابات السابقة، وذلك للتأثير على نتائجها وقطع الطريق على حركة النهضة وضمان فوز الأحزاب المنافسة لها.
إستخلاصات
لا شك أن التدخل الإماراتي والخارجي بتونس هو أمر قائم ويتجاوز في مضامينه وأهدافه ما تسمح به المواثيق والأعراف الديبلوماسية والدولية ولكنه جزء من ظاهرة خطيرة ما انفكت تتضخم بعد الثورة وهي التدخل الأجنبي بتونس الغربي والعربي والخليجي الذي أثر دون شك على جوهر الإنتقال الديمقراطي والإقتصادي وكاد يفرغه من أي مضمون خاصة إذا سمحت السلطات التونسية باستمرار هذه الإختراقات في المستقبل.
وبالتالي لا يجوز التعامل مع هذا الموضوع برؤية ضيقة وكأنه حكر على دولة الإمارات وغض الطرف عن الأطراف الخارجية الأخرى الأوروبية والغربية والخليجية التي تستبيح السيادة التونسية دون رقيب أو حسيب وتتخطى ممارساتها كل الخطوط الحمراء من حيث أنها تتجاوز شراء الذمم والأتباع بل تصادر إستقلالية القرار التونسي في رسم اختياراته الإستراتيجية الكبرى الإقتصادية وحتى السياسية والديبلوماسية.
يبقى أن نشير إلى أن الطبقة السياسية الحاكمة منذ الثورة بكافة أطيافها وتوجهاتها هي التي تتحمل المسؤولية الأولى عن هذا الوضع الذي أفسد المشهد السياسي التونسي، لأنها تغاضت عن هذه الممارسات بل قد تكون قد تواطأت معها وشجعتها طالما أنها كانت تخدم أهدافها الحزبية الضيقة والمصالح الخارجية المتواطئة معها على حساب المصلحة الوطنية التونسية.
وبالتالي وفي أفق المواعيد الإنتخابية القادمة، لا بد من طرح هذه القضية الأساسية على النقاش العام بكافة أبعادها وتفرعاتها مع السعي الجماعي لمعالجتها برؤية شاملة وبما يحيي الأمل بإمكانية إنقاذ المسار الديمقراطي بتونس وإستعادة الشعب التونسي عبر الانتخابات سيادته المستباحة وحقه في تقرير مصيره.
توظيف الدول الخليجية لخدمة مصالح الدول الغربية ولا بد من التذكير في هذا الصدد بقمة مجموعة السبع للدول الصناعية الكبرى المنعقدة في ماي 2011 بمدينة دوفيل الفرنسية حيث تعهدت هذه الدول بدعم من حلفائها الخليجيين، ومنهم خاصة السعودية والإمارات وقطر، بمساعدة تونس ومصر ماليا وإقتصاديا على تخطي صعوباتها الإقتصادية وتحقيق إنتقالها السياسي والإقتصادي في ظروف سلسة، ومن ضمن هذه التعهدات، التي لم يقع إحترامها، تمكين تونس من برنامج ضخم للمساعدات المالية وكذلك تمكينها من إسترداد أموالها المنهوبة.
والملاحظ ان هذه «الشراكة الجديدة من أجل الديمقراطية» التي أطلقتها مجموعة السبع في قمة دوفيل باتجاه بلدان «الربيع العربي» تكتسي أهمية إستراتيجية بالغة من حيث أن هدفها الأساسي غير المعلن كان يتمثل في إحتواء الإنتفاضة العارمة التي أطلقتها الثورة التونسية في العالم العربي وتوجيهها وفقا لمصالحها وأهدافها المتمثلة في الحفاظ على مناطق نفوذها وأسواقها وذلك من خلال ضمان استمرارية السياسات الإقتصادية والتجارية الإنفتاحية للنظم السابقة . لذلك كانت المساعدات المشار إليها مشروطة بمواصلة العمل باتفاقات التبادل الحر وتوسيع نطاقها بإرساء التبادل الحر الشامل والمعمق ومواصلة تسديد المديونية في إطار ما يسمى باستمرارية الدولة وهو ما حصل بالفعل.
وفي الجانب الجيوسياسي كان هدف مجموعة السبع إستغلال هذا الحراك للتخلص عسكريا من بعض النظم المزعجة خاصة في ليبيا وسوريا وإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط وذلك بتنسيق مع الدول الخليجية الرئيسية التي دأبت الدول الغربية على توظيفها في مثل هذه المهمات منذ الحرب الأولى على العراق بهدف تأمين الغطاء السياسي والتمويل العربي لما يسمى بالحرب على الإرهاب.
وكل ذلك لإضفاء المشروعية على ما يسمى بـ«حق التدخل الإنساني» وهو مفهوم جديد فرضته الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيين بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي لتبرير تدخلاتها العسكرية خارج إطار الشرعية الدولية حتى في الحالات التي يتعذر عليها الحصول على تزكية من الأمم المتحدة. وفي ظل هذا التراجع الخطير لدور الأمم المتحدة في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين تزامنا مع الإنهيار القيمي والأخلاقي في العلاقات الدولية أصبح التدخل في الشؤون الداخلية للدول وإستباحة سيادتها والقيام بأعمال عسكرية أحادية خارج إطار الشرعية الدولية أمرا شائعا طالما أنه يخدم مصالح القوى العظمى ويحظى بتزكيتها فضلا عن وجود أطراف داخلية مأجورة أو متواطئة كما هو الحال بالنسبة لتونس.
وهكذا يتضح أن الثورة التونسية كانت ضحية المناخ العالمي الذي برزت فيه حيث أنها إندلعت في ظل ظرفية دولية متأزمة إقتصاديا تمر فيها المبادئ والقيم الديمقراطية بأسوإ مراحلها وذلك نتيجة هيمنة التجمعات الكبرى كمجموعة السبع والإتحاد الأوروبي التي تسعى إلى إلغاء الحدود واستباحة سيادة الدول وأسواقها دون قيود أو حدود كما تسعى لإرساء مفاهيم وأسس جديدة لإدارة شؤون الدول من خارج حدودها ودون أي إعتبار لنظمها السياسية ومؤسساتها الديمقراطية.
الإستراتيجية الإماراتية للتعامل مع تطور الأوضاع بتونس هذه الإستراتيجية المنشورة على الأنترنات تم إعدادها بداية جوان 2017 من قبل «مركز الإمارات للسياسات» وهي تتضمن اقتراحات موجهة إلى السلطات الحاكمة بالدولة حول سبل التحرك على الساحة التونسية لكسب الولاءات والأتباع بهدف التأثير في المشهد السياسي بما يخدم مصالح الإمارات وأهدافها الأساسية ومنها خاصة مواجهة النفوذ القطري الداعم لحركة النهضة وللإسلام السياسي المصنف بالمتطرف والراديكالي، ومن أبرز الخطوات المقترحة «بناء كتلة سياسية موالية» بالإعتماد على أطراف سياسية ومنها خاصة حزب مشروع تونس ورئيسه محسن مرزوق والإنفتاح على الحساسيات والشخصيات والأحزاب «الدستورية» المعارضة للتحالف مع النهضة.
هذا وتوصي الدراسة بـ«تبني» بعض الشخصيات السياسية التي يمكن أن تشكل بديلا للسلطة لما تحظى به من إحترام في تونس وذكر منها احمد نجيب الشابي، كما تقترح التواصل مع أبرز مكونات المجتمع المدني وخاصة إتحاد الشغال وإتحاد الصناعة والتجارة.
وحول سبل «كبح النفوذ القطري» بتونس تقترح الدراسة بناء شراكات إقتصادية ومالية منافسة للحضور الإقتصادي القطري وبناء قطب إعلامي منافس ودعم المؤسسات الثقافية كبيت الحكمة التي يمكن ان تنافس المؤسسات المدعومة من قطر. وتندرج هذه الخطوة في إطار» محاربة التطرف الراديكالي في أبعاده الأمنية والسياسية والفكرية».
والملاحظ أن هذه الوثيقة الإماراتية الأصل تتقاطع مع عديد الوثائق المكتوبة والسمعية البصرية المتداولة والصادرة خاصة عن الموقع الإلكتروني «أسرار عربية» ومفادها أن الإمارات نجحت في بناء شبكات من الأتباع والعملاء وحتى «الجواسيس» التونسيين والأجانب المجندين لخدمة أهدافها بتونس، وينتمي هؤلاء إلى أحزاب بما فيها حزب النهضة وكتل برلمانية ويعتمدون على سياسيين ورجال أعمال وأذرع إعلامية معروفة.
ووفقا لنفس المصادر تخطط الإمارات للتدخل في الإنتخابات البلدية المقبلة، كما حصل في الانتخابات السابقة، وذلك للتأثير على نتائجها وقطع الطريق على حركة النهضة وضمان فوز الأحزاب المنافسة لها.
إستخلاصات لا شك أن التدخل الإماراتي والخارجي بتونس هو أمر قائم ويتجاوز في مضامينه وأهدافه ما تسمح به المواثيق والأعراف الديبلوماسية والدولية ولكنه جزء من ظاهرة خطيرة ما انفكت تتضخم بعد الثورة وهي التدخل الأجنبي بتونس الغربي والعربي والخليجي الذي أثر دون شك على جوهر الإنتقال الديمقراطي والإقتصادي وكاد يفرغه من أي مضمون خاصة إذا سمحت السلطات التونسية باستمرار هذه الإختراقات في المستقبل.
وبالتالي لا يجوز التعامل مع هذا الموضوع برؤية ضيقة وكأنه حكر على دولة الإمارات وغض الطرف عن الأطراف الخارجية الأخرى الأوروبية والغربية والخليجية التي تستبيح السيادة التونسية دون رقيب أو حسيب وتتخطى ممارساتها كل الخطوط الحمراء من حيث أنها تتجاوز شراء الذمم والأتباع بل تصادر إستقلالية القرار التونسي في رسم اختياراته الإستراتيجية الكبرى الإقتصادية وحتى السياسية والديبلوماسية.
يبقى أن نشير إلى أن الطبقة السياسية الحاكمة منذ الثورة بكافة أطيافها وتوجهاتها هي التي تتحمل المسؤولية الأولى عن هذا الوضع الذي أفسد المشهد السياسي التونسي، لأنها تغاضت عن هذه الممارسات بل قد تكون قد تواطأت معها وشجعتها طالما أنها كانت تخدم أهدافها الحزبية الضيقة والمصالح الخارجية المتواطئة معها على حساب المصلحة الوطنية التونسية.
وبالتالي وفي أفق المواعيد الإنتخابية القادمة، لا بد من طرح هذه القضية الأساسية على النقاش العام بكافة أبعادها وتفرعاتها مع السعي الجماعي لمعالجتها برؤية شاملة وبما يحيي الأمل بإمكانية إنقاذ المسار الديمقراطي بتونس وإستعادة الشعب التونسي عبر الانتخابات سيادته المستباحة وحقه في تقرير مصيره.
بقلم : أحمد بن مصطفى
سفير سابق باحث في القضايا الإستراتيحية