الشارع المغاربي-جمال الدين العويديدي: اثر التصنيف الثاني على التوالي الذي صدر عن الاتحاد الأوروبي والذي أدرج تونس ضمن القائمة السوداء للدول الأكثر عرضة لمخاطر غسل الأموال وتمويل الإرهاب اهتز الرأي العام التونسي وتعددت التداعيات بسرعة فائقة مما نتج عنه ارتباك في تصرف الحكومة مع هذه الأحداث مما جعلها تلجأ إلى تقديم كبش فداء يُهوّن عليها وقع هذا التصنيف الذي كشف الغطاء عن واقع الاقتصاد التونسي المرير ويمكنها من التخلص من شخص محافظ البنك المركزي الذي كثر الحديث عن نية الحكومة تغيره والحال أن نيابته شارفت على الانتهاء حيث سارع رئيس الحكومة مباشرة بعد هذا التصنيف إلى الإعلان عن إقالة محافظ البنك المركزي في حركة ترمي بالأساس إلى تحويل وجهة نظر الرأي العام التونسي عن أصل الموضوع وهو موضوع الأزمة العميقة الأخلاقية والاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها البلاد والمتعلقة بانتشار الفساد وتهريب الأموال وتعطيل المسيرة التنموية ورهن السيادة الوطنية تحت وصاية القوى الدولية والإقليمية إلى مجرد موضوع يحوم حول شخصية محافظ البنك المركزي.
منوال تنمية تآكل وانتهت مردوديته
ولتوضيح الرؤيا يجب علينا الرجوع إلى جوهر الموضوع المتعلق بطبيعة النظام الاقتصادي في تونس وتداعياته المحلية والخارجية على البلاد. من ذاك نلاحظ أن المنوال التنموي الذي اختارته تونس منذ بداية السبعينات بمقتضى قانون 1972 يعتمد أساسا على المناولة في القطاع الصناعي لفائدة الشركات الأجنبية التي أصبحت في حاجة إلى اللجوء للانتصاب في البلدان النامية لتعزيز قدراتها التنافسية عبر التمتع بالامتيازات الجبائية والأجور المتدنية التي توفرها هذه البلدان خاصة في القطاعات ذات القيمة المضافة المتدنية نظرا لأنها تقوم بآخر حلقة للإنتاج داخل هذه البلدان عبر استعمال يد عاملة وافرة العدد وغير مؤهلة علميا وهذا موضوع في علاقة لمنع تحويل التكنولوجيا. هذا المنوال، الذي اعتبره عديد المختصين انتحارا اقتصاديا لأنه لا يمكن أن يؤدي إلى تنمية حقيقية بقدر ما يمثل مجرد حل مؤقت للتقليص من نسبة البطالة داخل هذه البلدان ويجعلها في نفس الوقت رهينة مواطن شغل غير مستديمة، نجده اليوم في صميم الأزمة التي تعيشها تونس بتصنيفها ملاذا جبائيا حيث أصبح محل نقد من طرف عديد الشركات الأوروبية والعالمية بصفته يمثل ممارسات مخلة بقواعد المنافسة ويكرس نوعا من إغراق السوق الجبائي والاجتماعي الممنوعة دوليا. غير أن المصيبة في تونس تكمن في أن هذا المنوال أصبح عقيدة سياسية واقتصادية غير قابلة لأي
نقاش تربت عليها أجيال من المسؤولين في الدولة ومن عديد أرباب الأعمال التي تنشط داخل منظمة الأعراف والتي تمنع فتح هذا الملف لأسباب عديدة في علاقة بالمصالح الضيقة وبالقصور في التفكير لبديل تنموي جديد يشمل كل الفئات وكامل جهات البلاد. وبالمناسبة لابد من التنويه بالمقال الأخير الذي نشره الأستاذ عبد الحفيظ الهرقام حول هذا الموضوع بعنوان «تونس والإملاءات الخارجية » والذي تساءل فيه قائلا «ألم يحن الوقت لتُقيّم تونس مردوديّة قانون أفريل 1972 ، مقارنة بالحوافز والمزايا الجبائية الهامة الممنوحة للصناعيين الأجانب الذين يستغلون يدا عاملة رخيصة، محققين أرباحا طائلة؟ أليس من المهم أن تؤمن تونس أكثر من أي وقت مضى، بقدراتها لخلق الثروة، معوّلة في ذلك على مهارات شبابها وذكائه؟ »
وتأكيدا على ذلك نذكر أن تقرير البنك الدولي الصادر في أفريل من سنة 2014 تحت عنوان «الثورة الغير مكتملة » تعرض بالنقد الشديد لهذا المنوال المؤسس على نظامين الأول خاص بالمؤسسات التي تنشط في السوق المحلية وهي مؤسسات اضمحل أكثر من ثلثيها في علاقة بالضرر الذي لحقها من جراء تفكيك المعاليم الديوانية بمقتضى تطبيق اتفاق شراكة غير متكافئ مع الاتحاد الأوروبي بداية من 1996 في تونس والحال أنها كانت توفر مواطن شغل هامة وذات قيمة علمية )تم فقدان أكثر من 400 ألف موطن شغل مستديمة بين 1996 و 2016 (وتعزز خزينة الدولة عبر دفع الضرائب كما تعزز رصيدنا من العملة الأجنبية لأنها مطالبة جبرا بإرجاع مداخيل التصدير عكس ما هو الحال مع الشركات الغير مقيمة والمصدرة كليا التي تمثل النظام الثاني الذي انتقده البنك الدولي بصفته مُعفى من دفع الضرائب مما قلّص القاعدة الجبائية في البلاد و «عمق التفاوت الجهوي نظرا الى أن ما يقارب التسعين بالمائة من هذه المؤسسات اختارت الانتصاب في الجهات الساحلية التي تضم بنية تحتية أفضل من الجهات الداخلية ». هذا طبعا علاوة على أنها تتحصل حسب ما جاء حرفيا في تقرير البنك الدولي على «منح سخية تصرف لها من الميزانية السنوية للدولة التونسية وقُدرت في حدود مليار دولار سنويا » أي ما يعادل حاليا 2,5 مليار دينار تونسي وهي منح تُصرف بعنوان التأهيل والتشغيل وحتى بعنوان الشحن البري والجوي للمنتوجات التي يتم إرجاعها إلى بلدان مصدر هذه الشركات؟ وقد جاء هذا التقرير بمثابة دعوة ملحة للدولة التونسية للتخلي عن إهدار المال العام الوطني عبر تعليق صرف هذه المنح حيث أضاف البنك الدولي حرفيا «أن 79 بالمائة من هذه المنح يعني ما قيمته 790 مليون دولار (أي ما قيمته حاليا تقريبا 1,9 مليار دينار تونسي) قد صُفت لمؤسسات أجنبية غير مقيمة كانت سوف تستثمر في تونس حتى ولو لم تُصرف لها هذه المبالغ .» فالدعوة كانت إذا واضحة للتخلي على هذا النظام عبر توحيد الجباية وتعميمها على كل المؤسسات المنتصبة في بلادنا مما سيُوسّع القاعدة الجبائية في البلاد ويُنهي الجدل الذي تتبناه عديد الشركات الأجنبية بالدعوة عبر بلدانها لتصنيف تونس ملاذا جبائيا. الغريب في الأمر أن هذا التقرير غضب منه أحد الوزراء السابقين وهو السيد عفيف شلبي الذي تولى منصب وزير الصناعة لعدة سنوات بداية من سنة 2004 والذي كان يترأس منتدى خير الدين باشا في سنة 2014 حيث أصدر ردا ينتقد في محتواه تقرير البنك الدولي ويصر على الدفاع عن قانون 1972 مؤكدا على صلاحيته كما صرح بضرورة الزيادة في صرف المنح لأنه يعتقد أن ما تقدمه تونس غير كاف. وفي علاقة مع هذا الموقف الغريب عٌيّ السيد عفيف شلبي في أواخر سنة 2017 بصفته مستشارا لرئيس الحكومة رئيسا لمجلس التحاليل الاقتصادية. وفي هذا التعيين معنى واضح يدل على أن الحكومة مصرة على تطبيق نفس المنوال التنموي وغير معنية بأي تغيير أو إصلاح اقتصادي طبقا لما تقتضيه التغيرات العالمية حول هذا الموضوع.
المنعرج
هذه السياسة الاقتصادية عرفت منعرجا خطيرا منذ التوقيع على اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي وتطبيق برنامج الإصلاح الهيكلي المتعلق بخوصصة القطاع العمومي الذي أدى إلى الاستيلاء على أهم مؤسساته من طرف أقلية مقربة من النظام السابق التي أصبحت تتحكم في أكثر من تسعين بالمائة من الاقتصاد الوطني. هذه الأقلية في علاقة مع القوى الخارجية العالمية والإقليمية منها استعادت مكانتها بعد الثورة في إطار النظام البرلماني بتواطئ مع أهم الأحزاب المتواجدة في السلطة وفرضت وجوب الاحتفاظ بنفس المنوال التنموي الذي يهدف إلى المزيد من الخوصصة لتعم تقريبا كل القطاعات العمومية بما فيها قطاعي التعليم والصحة. في هذا الإطار يمكن قراءة تعيين كل الشخصيات التي تساند هذا التمشي في المراكز الحساسة ذات الصلة.
بالرجوع إلى آخر تقرير سنوي صادر عن البنك المركزي التونسي لسنة 2016 يتبين أن مجموع القروض الجارية الموزعة من طرف القطاع المصرفي حسب النشاط الاقتصادي وحسب قطاع المؤسسات العمومية والمؤسسات الخاصة كان في حدود 51,4 مليار دينار من بينها 2,3 مليار دينار فقط لقطاع الفلاحة والصيد البحري أي بنسبة 4,5 بالمائة لهذا القطاع الواعد ونصيب القطاع العمومي لا يتعدى مبلغ 96 مليون دينار أي 4 بالمائة بينما تحصل القطاع الخاص الفلاحي على 96 بالمائة.
أما القطاع الصناعي فقد تحصل على 18,3 مليار دينار أي بنسبة 35 بالمائة من مجموع القروض الجارية، استأثر القطاع الخاص ب 17,3 مليار دينار منها أي بنسبة 95 بالمائة بينما لم يتحصل القطاع العمومي إلا على 0,936 مليار دينار. بمعنى أن كلا من مصنع الفولاذ، وشركة تكرير النفط والمجمع الكيميائي، وشركة فسفاط قفصة، وشركتي صناعة الإسمنت ببنزرت وأم الكليل ومصنع الورق بالقصرين ومصنع السكر بباجة وكل بقية الشركات العمومية تتحصل على قروض جارية بقيمة 936 مليون دينار فقط، مقابل 17,4 مليار دينار للمؤسسات الخاصة؟ ولكن الغريب أن هذه المبالغ الهامة التي تحصلت عليها المؤسسات الخاصة لم تأت بنسبة نمو حيث ذكر تقرير البنك المركزي أن نسبة نمو الصناعات التحويلية كانت في حدود 0,1 بالمائة في سنة 2016 أي عشر النسبة الوطنية العامة وكذلك الشأن بالنسبة لسنة 2015 . أما على مستوى التشغيل فكانت نسبة خلق مواطن الشغل في قطاع المؤسسات الخاصة كانت سلبية حيث تقلص العدد بسبعة آلاف موطن شغل في سنة 2016 وبألف وست مائة موطن شغل في سنة 2015 مما يعني أن هذه المؤسسات لا توفر فرص تشغيل والحال أن عدد المعطلين عن العمل يرتفع سنويا. وهذه السياسة التي تعتمد قطع التمويلات على القطاع العمومي لخنقه ماليا وجره للإفلاس طريقة معتمدة عالميا لتهيئة الرأي العام لطرح مسألة خوصصة المؤسسات العمومية. لذلك نلاحظ أن هذا التوزيع للقروض المالية يبين مدى تغول القطاع الخاص على القطاع العام بما فيها قطاعي التعليم والصحة وهو تمشي لا يخدم السلم والعدالة الاجتماعية والذي تجلت نتائجه من خلال تعميق الفوارق الاجتماعية حيث أصبحت قلة قلية تعد أقل من واحد بالمائة من السكان تسيطر على أكثر من تسعين بالمائة من ثروات البلاد مما قضى على الطبقة المتوسطة التي كانت تمثل الركيزة الأساسية للسلم الاجتماعية في البلاد. هده النتيجة تعتبر من مخلفات العولمة السلبية التي انتشرت نتائجها في غالبية بلدان العالم بما فيها داخل البلدان الغنية.
لا بد
والسؤال المطروح على الحكومة : أين صُرفت هذه المبالغ الهامة الممنوحة للمؤسسات الخاصة إذا لم تخلق نسبة نمو بمعنى عدم وجود إنتاج ولم تخلق مواطن شغل ولم تساهم في التصدير لتعزيز الميزان التجاري الوطني والحد من العجز المهول الذي ارتفع إلى مستوى 25,2 مليار دينار في سنة 2017 أي بنسبة تغطية للتوريد بالتصدير لا تتعدى 25,7 بالمائة. وهي نسبة مرعبة لا يوجد مثيلها في العالم؟. وعلى المسؤول عن مجلس التحاليل الاقتصادية الإجابة عن هذا السؤال الخطير. أما بالنسبة لنا فنعتقد أن الشركات الغير مقيمة والمصدرة كليا أصبحت نافذة للقروض البنكية من البنوك التونسية على حساب المؤسسات الوطنية العمومية والخاصة منذ توقيع اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي في سنة 1995 بعدما كانت سابقا غير مؤهلة للحصول على القروض المحلية بما أنها لا تدفع الضرائب ولا تسترجع مداخيل التصدير كما أصبحت كذلك تتحصل على منح التأهيل والتشغيل واسترجاع تكاليف الشحن البحري والجوي لمنتوجاتها وذلك تحت ضغط الاتحاد الأوروبي.
لذلك إذا كان لابد من فتح ملف القطاع العمومي فلا بد أيضا من فتح ملف القطاع الخاص وفتح ملف المؤسسات العمومية التي تمت خوصصتها والتي أجبرت على تعطيل نشاطها وهي تعد بالمئات. كما لابد من فتح ملف تجارب الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص التي تأسست منذ بداية الألفينيات في قطاع توليد الكهرباء مع شركة «قرطاج باور » على حساب مؤسستنا الوطنية الشركة التونسية للكهرباء والغاز والتي لا يعرف عن تفاصيلها شيء إلى اليوم رغم ما يشاع من تكاليف باهظة لهذا المشروع علاوة على شروطها لبيع كل المنتوج للمؤسسة الوطنية حتى وإن كانت في غنى عنها في أوقات ضعف الاستهلاك كما أنها تتمتع بسعر تفاضلي جدا لاقتناء الغاز الطبيعي من الشركة التونسية للكهرباء والغاز. كما لابد أيضا من فتح ملف الشراكة العامة والخاصة المتعلق ببناء مطار النفيضة مع الشركة التركية «تاف » للإطلاع على تفاصيل إنجازه وتصرفه والذي بقي ملفا مغلقا لا يتمتع بالشفافية المطلوبة. نقول هذا الكلام خاصة بعد ما صدرت تقارير رسمية سواء في فرنسا أو في بريطانيا حول موضوع الشراكة الخاصة والعامة والتي أثبتت وجود شبهات فساد كبرى رفّعت في تكلفة المشاريع التي تم تنفيذها في إطار هذا النوع من الشراكات.
كل هذه المعطيات تبين بوضوح أن الحكومة التونسية الحالية كسابقاتها لا تملك برنامجا اقتصاديا وطنيا يرد الاعتبار للقطاعات الأساسية المنتجة في البلاد كما تبين أنها رهينة اللوبيات المحلية والخارجية التي تسيطر على مفاصل القرار الوطني.