الشارع المغاربي : تعرضنا في مقال نشر يوم 5 افريل الجاري على موقع «الشارع المغاربي» إلى اعترافات خبراء من داخل صندوق النقد الدولي بفشل الإصلاحات الهيكلية التي يفرضها على دول العالم منذ أربعة عقود.
و للتأكيد على ما يجري داخل هذه المؤسسة المالية الدولية التي تُقدّم وصفاتها لعامة المواطنين وكأنها مُنزّلة وغير قابلة للنقاش، نريد أن نذكر أن صندوق النقد الدولي قدم في الخامس من جوان 2013 اعتذارات رسمية فاجأت الجميع حول طريقة معالجته للأزمة اليونانية منذ سنة 2010 . فقد ذكرت وثائق داخلية تم تسريبها ذكرت أن صندوق النقد الدولي قام “بإخفاقات كبرى” (L’institution parle d’échecs notables, à la fois sur le choix de l’austérité et sur le rôle des équipes chargées de la mettre en œuvre) بمعنى واضح إخفاقات على مستوى اختيار سياسة التقشف لمعالجة الأزمة عبر الضغط على الأجور والزيادة المشطة في نسبة الضرائب وفي أسعار المواد الضرورية (مثلما يجري منذ سنة 2013 إلى اليوم بتونس) التي أدت إلى تعميق الأزمة والدخول في حالة ركود اقتصادي. كما أخفق على مستوى كفاءة ودور الفريق المكلف بمتابعة تطبيق هذه السياسة الذي تم وصفه بأنه غير متمكن ولا يملك التجربة المطلوبة (هكذا بكل بساطة). نتيجة لذلك تم التبشير بنسبة نمو محترمة بداية من سنة 2012 غير أن البلاد عرفت حتى سنة 2013 مزيد من الركود الاقتصادي.
أخطر من ذلك في هذا الموضوع ما صرح به فليب فايشتر مدير البحوث الاقتصادية بشركة ناتيكسيس لإدارة الأصول المالية (Natixis Asset Managment) وهي فرع من بنك ناتيكسيس الفرنسية حيث أكد أن “هذا الاعتراف يطرح مشكلا حقيقيا حول الحوكمة العامة داخل صندوق النقد الدولي، وحول الطريقة التي تتخذ بها القرارات أي بمعنى التساؤل على الخلفيات السياسية وليس فقط الخلفيات الاقتصادية، كل هذه المسائل لابد أن تطرح“. ثم يضيف “ما هو غريب في هذه المسألة اليونانية أن صندوق النقد الدولي قام بهذه الأخطاء بطريقة متعمدة“.
أردنا الوقوف على ما يجري داخل هذه المؤسسة المالية العالمية لنتوجه للحكومة التونسية وخاصة للسيد توفيق الراجحي الذي دخل قصر الحكومة بالقصبة بصفة مستشار منذ حكومة الترويكا الأولى برئاسة حمادي الجبالي ولم يخرج منها إلى اليوم بصفته الحالية وزيرا مكلفا بالإصلاحات الكبرى أي مكلفا بتطبيق إملاءات صندوق النقد الدولي ومن ورائه الاتحاد الأوروبي ولم نسمع له أي موقف نقدي بالسؤال: إذا كنتم على بينة بما يجري داخل هذه المؤسسة العالمية من أخطاء جسيمة تهدد مستقبل الشعوب وهو ما تؤكده الوثائق التي قدمناها فلماذا تصرون على تمرير هذه الإصلاحات التي لا تتناسب مع ما يقتضي وضع البلاد؟ وما هي إذا الأسباب الكامنة وراء هذا التعنت ولصالح من؟ المطلوب الجواب على هذه التساؤلات المشروعة لأن المسألة ليست بالهينة إذا علمنا مدى خطورة الوضع الاقتصادي و الاجتماعي وإذا تأكدنا أن الإجراءات المزمع تطبيقها لا تمثل الحل لهذه الأزمة الهيكلية.
للتأكيد على مانقول نستعرض في مايلي محتوى أهم فصول الإصلاحات التي تقترح الحكومة القيام بها بدعوى تنشيط الاقتصاد الوطني.
1/ في إصلاح الصناديق الاجتماعية: المعضلة في ظاهرة تفشي البطالة والقطاع الموازي والتي حرمت الصناديق من مداخيل جيل كامل أو جيلين من شباب تونس
كل المطّلعين على الشأن الاقتصادي يعلمون أن الصناديق الاجتماعية كانت مصادر تمويل كبيرة للدولة في حالات الاحتياج نظرا لوفرة السيولة المالية التي كانت تتمتع بها. كلنا يعلم أيضا أن الحكومات المتتالية لم تنشر أي تدقيق مفصل حول الوضع الحقيقي لهذه المؤسسات المؤتمنة على معاش الأجراء بجميع أصنافهم.
من ذلك يحق لنا أن نتساءل كيف يمكن الحديث عن الموازنات في الصناديق الاجتماعية في بلاد يوجد بها ما يناهز المليون عاطل عن العمل و أكثر من مليون شخص يشتغل في القطاع الموازي غير مصرح به لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وهم من فئة الشباب. لذلك توفير الشغل في القطاع المنظم هو الضامن الأساسي لإصلاح الصناديق الاجتماعية.
كذلك يحق لنا أن نتساءل حول مستحقات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي لدى الشركات الأجنبية الغير مقيمة والمصدرة كليا والتي لم يكشف عنها بطريقة واضحة والحال أنها معفية من دفع الضرائب ومن استرجاع مداخيل التصدير إلى البلاد التونسية. كما أن السلطات القضائية لا تستطيع تطبيق القانون في حالة صدور حكم قضائي ضد هذه المؤسسات لأنها تبقى رهينة إذن خاص من الديوانة صعب المنال لعدة أسباب.
2/ في إصلاح الوظيفة العمومية: المعضلة في محدودية الميزانية نظرا لتعثر الاقتصاد المنتج في البلاد و لتفشي الفساد والاقتصاد الموازي والتهرب الجبائي
تبينالإحصائياتالمقاربةالرسميةأنعددالموظفين في القطاع العمومي في تونس يمثل 5,1 بالمائة (620 ألف موظف تقريبا) من عدد السكان مقابل 8,5 بالمائة في فرنسا (5,2 ملايين موظف) و 6,1 بالمائة في ألمانيا (4,9 ملايين موظف) هذا زيادة على حسن التأطير والتجهيز لدى الدولتين الأوروبيتين.
من خلال هذه الأرقام يتبين أن المعضلة الحقيقية تتعلق بركود الاقتصاد المنتج بتزامن مع تفشي التهرب الجبائي والاقتصاد الموازي اللذين حرما خزينة الدولة من مداخيل لا تقل عن 10 مليارات دينار سنويا. كما أن الدولة بمقتضى توقيع اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي فقدت مداخيل هامة اثر تفكيك المعاليم الديوانية الموظفة على المنتوجات الصناعية. في دراسة أولية تم القيام بها مؤخرا تبين أن الخسائر التي تكبّدتها الخزينة منذ 1996 إلى اليوم تفوق 40 مليار دينار ما يمثل أكثر من 57 بالمائة من المديونية الحالية.
كذلك لابد من الملاحظة أن نسبة الأجور مقارنة بالناتج الإجمالي المحلي تعتمد بالدينار الجاري و الحال أن العملة الوطنية فقدت ما يقارب 50 بالمائة من قيمتها مقارنة بسنة 2010. و هذا أيضا يجب التعرض له بكل جدية في موضوع ميزانية الدولة التي لو اعتمد احتسابها بالدينار القار على أساس قيمة الدينار في تلك سنة 2010 لتبين حقيقة الركود الاقتصادي الذي تعاني منه البلاد.
3/ في إصلاح المؤسسات العمومية
قبل الحديث عن إصلاح المؤسسات العمومية يحق لنا أيضا أن نتساءل لماذا لم تقم أية حكومة منذ 2011 إلى اليوم بدراسة تقييمية موضوعية وشفافة حول مآل خوصصة أكثر من 250 مؤسسة عمومية التي كانت تدر مداخيل كبيرة للدولة في قطاعات مربحة مثل قطاع الاتصالات و قطاع شركات توريد السيارات ومصانع الاسمنت والقطاع البنكي وغيرها التي أصبحت مصدرا لاستنزاف رصيدنا من العملة الأجنبية عبر تحويل كامل مرابيح الشركات الأجنبية التي تم التفويت لها في هذه المؤسسات وقد كان بالإمكان فرض تحويل 50 بالمائة فقط من المرابيح وتسخير النصف الثاني للاستثمار في داخل البلاد ملثما يجري في عديد البلدان.
في هذا الباب يجب التذكير بأن صندوق النقد الدولي فرض على الحكومة التونسية في إطار برنامج الإصلاح الهيكلي لسنة 1986 أن تتخلى عن القطاع العمومي سواء بالتفويت للمستثمرين من خارج البلاد وهو ما وقع لعديد القطاعات المربحة المذكورة أعلاه أو للقطاع الخاص المحلي أو إن لزم الأمر بغلق المؤسسة وتعطيل نشاطها. وهو ما أدى إلى غلق عديد المؤسسات الكبرى نذكر منها مصنع المركب الميكانيكي بماطر الذي كلف الدولة أكثر من 100 مليون دينار استثمار في أواسط الثمانيات لإنتاج الجرارات الفلاحية تم غلقه و إجهاضه تحت ضغط المحتكرين في التوريد.
كما لا يسعنا أن نُذكّر بتفكيك الأجهزة الفاعلة في الديوان الوطني للصناعات التقليدية وهي أجهزتي الإنتاج والتسويق. بالرجوع لعديد الشهادات حول هذا الموضوع كان نشاط الديوان الوطني للصناعات التقليدية بصيغته الأصلية يساهم في خلق أكثر من 25 ألف موطن شغل للحرفيين سنويا متفرقة في كامل أنحاء الجمهورية.
من هذا المنطلق علينا إذا أن نتساءل عن مدى جدية برنامج خوصصة المؤسسات المعروضة في برنامج الحكومة خاصة إذا علمنا الطابع الاستراتيجي لهذه المؤسسات مثل الكهرباء والغاز وتونس الجوية وغيرها.
4/ حول صندوق الدعم
عادة ما يكثر الجدل حول هذا الموضوع خاصة عند استفحال الأزمات الاقتصادية. ومن الغريب أن نلاحظ أن المتتبع للإشهار الذي اعتمدته الحكومة حول موضوع الدعم في النقل العمومي مثلا يذكر أن هذا الدعم الذي بلغ 450 مليون دينار في سنة 2017 لا يوجه لمستحقيه. وكأن الطبقات المتيسرة ولو نسبيا ناهيك عن الطبقات الثرية تستعمل الحافلات والقطار لتستفيد من هذا النقل العمومي الذي تردت خدماته إلى درجة كبيرة نتيجة لنقص الموارد للاستثمار في هذا القطاع الهام. رفع الدعم يتطلب احتساب الأسعار والأجور حسب مبدأ قيمة العملة وتأثيرها على القدرة الشرائية (Parité au pouvoir d’achat PPA). من ذلك لو قارنا الأسعار والأجور بين تونس وفرنسا باحتساب قيمة العملة و رغم الدعم في تونس لوجدنا أنه نسبيا هناك تقاربا في أسعار المواد الأساسية بينما تكون الأفضلية للمستهلك الفرنسي في كل المواد الأخرى مثل سعر السيارات مثلا.
أمام هذا الإخفاق المتعدد الأسباب ماهو البديل اليوم؟
لقد سبق أن أكدنا في عديد المناسبات أن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها البلاد اليوم هي أزمة أخلاقية وهيكلية بالدرجة الأولى في علاقة بمنوال تنمية وصل إلى محدوديته كما أكد ذلك البنك المركزي التونسي في عديد تقاريره الأخيرة وكما أكد ذلك البنك الدولي في تقريره الصادر في سنة 2014 تحت عنوان “الثورة الغير مكتملة“. انطلاقا من ذلك يجب المبادرة باتخاذ إجراءات عاجلة تتعلق بترشيد التوريد وتشجيع الاقتصاد المنتج. كما يجب وضع خطة وطنية لرد الاعتبار للقطاع الصناعي الذي يبقى العمود الفقري والأساسي مثله مثل القطاع الفلاحي وقطاع الخدمات المتطورة لنمو اقتصادي وطني يخلق القيمة المضافة والثروة الوطنية في كنف السلم الاجتماعي الذي يضمن العيش الكريم لكل الفئات. إن التوجه الذي تتوخاه الحكومة الحالية بعيدا كل البعد عن معالجة وطنية للأزمة الاقتصادية في البلاد وإن ما يجري حاليا من تصادم مع متطلبات الاستحقاقات الوطنية والشعبية لينذر بمخاطر كبيرة على البلاد. فهل من تعقل وتبصر ومراجعة قبل فوات الأوان؟