الشارع المغاربي: “النهضة والنداء يأكلان مع الذئب ويبكيان مع الراعي“!، هذا العنوان حفظناه بعد أن طاف كثيرا، منذ سنوات، لأنّه يُعبّر بوضوح عن السياسة التي يعتمدها حزبا الحكم إزاء قضايا الصراع في الشرق الأوسط. فمقابل ما يُبديانه من بكائيات على عذابات الشعبين الفلسطيني والسوري، فإنّهما يسيران في اتّجاه التطبيع مع الكيان الصهيوني ولا يكترثان بضرب سوريا وتدميرها… للموضوع مؤشرات عدّة لا تحتاج إلاّ لإبرازها.
من تحصيل الحاصل وأبسط نوافل الفهم اليوم أنّ من رحّب مؤخرا بالضربة العسكرية لواشنطن وتوابعها في أوروبا ضدّ سوريا، إنّما لا يُمانع في التطبيع مع الكيان الصهيوني، في زمن يكاد يبتلع فيه ما تبقّى الأراضي الفلسطينية. ليس هذا بمجرّد شعار أيديولوجي، بل تدعمه مؤشرات لا تشكيك في وضوحها. ولن نتوقّف هنا كثيرا عند الدول الخليجيّة، وتحديدا السعودية والإمارات وقطر التي قدّمت كلّ الدعم المادي والسياسي واللوجستي المطلوب منها أمريكيًا للدفع في اتّجاه العدوان الثلاثي الأخير ضدّ سيادة سوريا والاستمرار فيه، وإنّما تهمّنا بالأساس مواقف حزبي تونس الكبيرين.
المواقف المواربة للنداء!
في شهر فيفري الماضي نجح نوّاب الائتلاف الحاكم بمجلس نوّاب الشعب في تأجيل النظر في مقترح القانون المتعلق بتجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني الذي قدّمته كتلة الجبهة الشعبية ودعّمته الكتلة الديمقراطية. ورغم أنّ حوالي تسعين نائبا دعّموا طلب استعجال النظر في مشروع القانون المذكور فقد سقط هذا السعي إلى أجل غير مسمّى، بعد أن كان عرضه مبرمجا على الجلسة العامّة للبرلمان يوم 20 فيفري 2018.
هذا التعطيل بدا نهجًا واضحًا ومستندا إلى تعليمات حزبيّة فوقيّة، فقد تغيّبت رئاسة الجمهوريّة عن اجتماع لجنة الحقوق والحريّات المخصّص للنظر في مشروع قانون تجريم التطبيع، وأبت من خلال ذلك أن تُبدي رأيها في الملف برمّته وقضيّة التطبيع تحديدا، رغم أنّ السياسة الخارجيّة للبلاد هي من صلاحيات رئاسة الجمهوريّة دستوريا.
والأكثر من ذلك أنّ كتلة نداء تونس تقدّمت بمشروع قانون مواز حول الملفّ ذاته. وهو ما يعني أنّ حزب قايد السبسي تحرّك سريعا لإعداد مشروع قانون من شأنه أن يؤدّي إلى إثارة الخلافات بهدف تعويم الموضوع. ومن ثمّة تحقيق الغاية غير المعلنة في إجهاض مبادرة الجبهة الشعبيّة وداعميها. وفي هذا الصدد كانت النائبة الجبهوية مباركة عواينية البراهمي قد اعتبرت، في تصريحات صحفيّة بالمناسبة، أنّ تقديم كتلة نداء تونس مشروع قانون يتعارض في مضمونه مع مقترح الجبهة الشعبية يندرج ضمن “محاولات محمومة” لتعطيل تمرير قانون تجريم التطبيع، مؤكّدة أنّ هذا المشروع الجديد “الغرض منه السعي إلى تعطيل تمرير مشروع القانون خدمة لأجندات خارجية“. كلّ ذلك حوّل اجتماع لجنة الحقوق والحريّات إلى حلبة صراع واتّهامات وُجّهت إلى رئيس مجلس نواب الشعب الندائي محمد الناصر بمحاولة تعطيل مناقشة مشروع القانون، ولاسيما بعد تغيّب رئاسة الجمهوريّة عن الاجتماع المذكور.
والواضح أنّ هذا الجدل ينطلق من أنّ الإمعان في رفض تجريم التطبيع يُجسّد في لبّه إقبالا على التطبيع في حدّ ذاته، باعتبار أنّه ينتصر بالأساس لمطالب غربيّة أمريكيّة وأوروبيّة ومدافعة عن الصهيونية في مضمونها عموما. وللإشارة في هذا الصدد فإنّ النائب المنجي الرحوي كان قدّ ذكّر بأنّه عند مناقشة المجلس الوطني التأسيسي قضيّة تجريم التطبيع لمحاولة التنصيص عليه في الدستور، تلقّى المجلس آنذاك رسالة وجّهها إليه رئيس البرلمان الألماني يُحذّره فيها من هذا الاتّجاه.
من الأهميّة في هذا السياق التذكير أيضا بأنّ لجنة الشؤون الخارجية بالكونغرس الأمريكي كانت قد أصدرت “لائحة” خلال زيارة رئيس الحكومة يوسف الشاهد إلى الولايات المتحدة، في شهر جويلية 2017، دعت تونس في إحدى نقاطها إلى الامتناع عن التصويت على أيّة قرارات تُدين “إسرائيل” في الأمم المتحدة أو “تستهدفها” في المنظمات التابعة لها كاليونسكو وغيرها. وفي المقابل حثّت الإدارة الأمريكيّة على تأمين الدعم المالي للحكومة التونسيّة. وعلى العكس من ذلك تمامًا أعلن البيت الأبيض عن اعتزامه تقليص المساعدة المالية الأمريكيّة لتونس، لا رفعها، بسبب الموقف التونسي الرافض لإعلان الرئيس دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة أبدية للصهاينة ونقل سفارة بلاده إليها.
لا أحد في قدرته اليوم إذن أن يُقنع حتى محدوديّ الفهم بغياب تلك الضغوط الغربيّة المفرطة المفروضة على تونس لدفعها إلى تطبيع علاقاتها بإسرائيل. كما لا نستثني طبعًا مدى تأثير هذا الملفّ في إدراج تونس بالقائمات السوداء للاتّحاد الأوروبي. وبصرف النظر عن حيثيّات البيروقراطيّة الحكوميّة التي أسهمت في ذلك، فإنّ الاطّلاع على النقاشات التي دارت في المجلس والبرلمان الأوروبيين بشأن تونس و“ظرفيّتها” واللوبيات الواقفة وراء ذلك التصنيف يؤكّد عمليّة المقايضة السياسيّة اللاأخلاقيّة التي يحاول الأوروبيّون فرضها على البلاد.
النهضة والتطبيع المغلّف!
من المعلوم اليوم أنّ حركة النهضة كانت رأس الحربة، زمن المجلس الوطني التأسيسي، في رفض التنصيص على تجريم التطبيع في دستور 2014، ومع ذلك حاولت تبرير موقفها المذكور بشتّى السبل. فعلى سبيل الذكر اعترف رئيس كتلة حركة النهضة بمجلس نواب الشعب نور الدين البحيري، في حوار سابق مع إذاعة “شمس” (بتاريخ 26 ديسمبر 2016)، أنّ الحركة رفضت التنصيص الدستوري المذكور، زاعما أنّه “لا يوجد دستور لأيّ دولة يتضمّن التنصيص على موضوع ظرفي“، باعتبار أنّ مسألة تجريم التطبيع ظرفيّة أمّا الدستور فهو “أمّ القوانين التي تتضمّن القواعد الكبرى“، متسائلا: “يمكن أن ينتهي الكيان الصهيوني فماذا نفعل؟ هل نغيّر القانون؟“. وأضاف “لذلك نحن رفضنا، اعتبرنا أنّ موضوع تجريم التطبيع لا يهمّ الدستور. حاليا التوانسة كلّهم ضدّ التطبيع وحركة النهضة جزء من التوانسة وقانون تجريم التطبيع موجود لدى اللجنة وسنناقش تفاصيله في حينه“…
يبدو هذا التصريح الكلامي مجرّد خطاب للاستهلاك المحلّي نظرا إلى إمكانيّة تعديل الدستور كما هو الحال في سائر بلاد العالم. وما يؤكّد ذلك أنّ توطئة الدستور التونسي الحالي نفسه قد نصّت على الانتصار “لحركات التحرّر العادلة وفي مقدّمتها حركة التحرّر الفلسطيني“. والسؤال المضادّ المطروح هنا على البحيري وأصحاب هذا التبرير هو: كيف العمل عند الإعلان عن إقامة الدولة الفلسطينية، ألن يضطر برلماننا الموقّر عندها لتعديل الدستور بغية حذف عبارة “حركة التحرّر الفلسطيني“؟!.
ومن التبريرات الأخرى التي قدّمها قياديون آخرون بحركة النهضة أنّ الفلسطينيين أنفسهم لم يطلبوا من تونس تجريم التطبيع أو مقاطعة إسرائيل. وقد رُوّج عن رئيس كتلة النهضة بالمجلس التأسيسي الصحبي عتيق تأكيده بأنّ حركة حماس أبلغت النهضة عدم رغبتها في تجريم التطبيع مع الصهيونية. وهو ما كُذّب حمساويا إثر ذلك. ويبدو أنّه لم يبق سوى الترويج لكون القيادة الفلسطينية بشقيهما الفتحاوي والحمساوي قد طلبت من تونس أن تُناصر إسرائيل في المحافل الدوليّة، عملا بالنصائح والمطالب الأمريكيّة والألمانيّة!.
والمثير في كلّ ذلك هذا التضاد بين المعلن من تصريحات والمضمر من أفعال، فلا يخفى عن الدوائر العالمة بخفايا العلاقات التونسيّة الأمريكيّة أنّ العديد من قيادات حركة النهضة وكوادرها سبق أن أدّوا زيارات متواترة إلى الولايات المتحدة، لمحاولة حشد التأييد لحركة النهضة وإظهار وجهها السياسي المدني الجديد واعتدالها بالمقارنة مع سائر تيّارات الإسلام السياسي.
ويمكن الإشارة في هذا الصدد إلى لقاء رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي وعدد من أعضاده برئيس لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ الأمريكي جون ماك كاين. فهذا السيناتور الجمهوري لا يحطّ بقدميه بأرض ما إلاّ وكشف عن دوره في خدمة النهج التطبيعي. وليس سرّا أنّ ماك كاين يُصنّف ضمن الشخصيات النافذة في دعم اللوبي الصهيوني بالعالم، على غرار الكاتب الفرنسي الصهيوني برنار هنري ليفي BHL، وربّما يكون السيناتور الأمريكي أقوى وأخطر منه بالنظر إلى موقعه في صنع القرار بواشنطن.
ومن المعلوم أيضا أنّ عددا من قيادات حركة النهضة، على غرار قيادات أخرى حالية وسابقة من نداء تونس، لا تجد أدنى حرج في المشاركة في بعض المحافل الدوليّة، جنبا إلى جنب مع ممثلي الكيان الإسرائيلي. وهنا يُمكن الإشارة إلى الجدل الذي أثير أواسط شهر 2017 بسبب مشاركة النائبة النهضويّة إيمان بن محمد في الجلسة العامة البرلمانية للاتحاد من أجل المتوسط، إلى جانب نواب من الكنيست الإسرائيلي، لاسيما أنّ منصب نائب رئيس الجمعية العمومية لهذه المنظمة يشغله الوزير الصهيوني السابق عمير بيريتس…
دعم العدوان من أوجه التطبيع
لا يخفى أنّ قايد السبسي كان قد أكّد، في خطابه بمناسبة انعقاد الدورة الـ29 للقمة العربية، على الثوابت التونسيّة المتعلّقة بالقضيّة الفلسطينيّة على غرار وضع حدّ للاستيطان الإسرائيلي ودعم كافة حقوق الشعب الفلسطيني وتمكينه من إقامة دولته المستقلّة وعاصمتها القدس.
ومع ذلك لم يتطرّق رئيس الجمهوريّة لقرار ترامب الأخير بشأن نقل السفارة الأمريكيّة إلى القدس واعتبارها عاصمة أبديّة لإسرائيل. والواضح أنّه قد تجنّب طرح ذلك قصدًا من أجل محاولة تفادي ضغوط سياسيّة وماليّة أمريكيّة جديدة على تونس. والشيء الإيجابي في هذا الاتّجاه أنّه جنّب توريط البلاد في دعم ما يُسمّى بـ“صفقة القرن” التي أعدّها البيت الأبيض لمحاولة غلق القضيّة الفلسطينية نهائيا، وذلك بتشريع الاحتلال وفرض الخنوع بمباركة عدد من دول الخليج ودعمها، لاسيما أنّ ضغوطها على تونس لا تخفى عن رقيب رغم اختلاف بعض أجنداتها البينيّة.
في المقابل، لاح التوجّه الخانع والموارب في مواقف تونس بوضوح، قبيل القمّة العربيّة وخلالها، بشأن العدوان العسكري الغربي الثلاثي على سوريا. فقد اكتفى قايد السبسي بتكرار الإعراب عن “انشغال تونس” بهذا التصعيد، قائلا “نُعبّر عن انشغالنا البالغ لتدهور الأوضاع على الساحة السورية بعد الضربات العسكرية التي جدت يوم أمس ضدّ أهداف سورية“. والملفت للانتباه أنّه ربط هذا الموقف الذي لا يزيد عن “الانشغال” بالتأكيد على رفض “استعمال كلّ الأسلحة المحظورة دوليّا من أيّ جهة كانت“. وقد أراد بهذا الموقف الملتبس التلميح إلى تبرير الدول الغربيّة عدوانها بمزاعم استخدام نظام بشار الأسد لأسلحة كيميائيّة في مدينة دوما بالغوطة الشرقية. وهذا على الرغم من أنّ بعض الدول المشاركة في العدوان نفسها لم تتمكّن من تقديم أيّة تأكيدات على اتّهاماتها. فقد صرّحت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي قبيل استجوابها، أمس الاثنين 16 أفريل 2018، في برلمان بلادها على خلفيّة المشاركة في تلك الضربات الجوية، بأنّها “واثقة من تقييم بريطانيا قرارها الذي اتخذته، إذ من المحتمل أن يكون النظام السوري هو من استعمل الأسلحة الكيميائية“!.
وحتّى لا نبتعد عن موضوعنا فمن الأهميّة الإشارة إلى أنّ حركة “حماس” الفلسطينيّة اعتبرت، في حدّ ذاتها، أنّ ضرب سوريا يندرج في نطاق دفع الأنظمة العربية إلى التطبيع مع إسرائيل، قائلة في تصريح للناطق الرسمي باسمها فوزي برهوم إنّ “ما حصل ضدّ سوريا عدوان سافر على الأمّة يهدف إلى استباحة أراضيها وتدمير مقدراتها حفاظا على وجود الكيان الصهيوني وتمرير مخططاته“.
والغريب، في المقابل، أنّ رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي كان قد وصف العدوان الغربي على سوريا، في كلمة ألقاها اليوم الأحد 15 أفريل 2018 بمناسبة افتتاح الحملة الانتخابية البلديّة للحركة بمنطقة الحرايرية بالعاصمة، بـ“الحدث العظيم“. وقال حرفيّا: “البارحة منتصف الليل انطلق شيء عظيم، انطلق حدثان عظيمان متباينان، انطلقت في تونس حملة الانتخابات البلديّة… وانطلقت في سوريا صواريخ تدكّ مناطق في سوريا. هذا الفرق بين تونس وسوريا، بين نجاح وفشل“.. وحتّى إن كان زعيم حركة النهضة يقصد أنّ قيادات الدول الأخرى فشلت في صياغة توافقات سياسيّة مثل تونس تُجنّبها الحرب والدمار، فإنّ لا أحد طبعا يُمكنه أنّ يُشكّك كذلك في متانة لغة الغنوشي وفي إدراكه للمعنى الإيجابي لعبارة “حدث عظيم” في سياقها المذكور ابتهاجًا وتنفيسًا.
والواقع أنّ هذا الموقف المبتهج بتوجّه الأمريكان إلى تدمير سوريا ليس بخفيّ عن عموم المنتسبين للتيار الإسلامي عموما والنهضوي خصوصا نظرا للعداء الأيديولوجي التاريخي الذي يكنه الإخوان المسلمون لنظام الأسد. وفي هذا النطاق، كان القيادي بالحركة محمد بن سالم قد أعرب عن استغرابه لتعاطف التونسيين مع دولة سوريا إثر العدوان الثلاثي، قائلا في تصريح صحفي إنه يستغرب ممّن يعتبرون أن إبادة بشار الأسد لأطفال أمر عادي، ويندّدون بضرب مواقع عسكرية استخدمت لقتل الشعب السوري، على حدّ تعبيره، وكأنّ بن سالم كان شاهد عيانٍ على قصف النظام السوري منطقة “دوما” بالكيميائي، وهو ما لم تؤكّده حتى بريطانيا التي شاركت في العدوان، بل وكأنّ انتهاك السيادة مباح في مواضع معينة وحرام في مواضع أخرى…
وفي كلمة هي تلك الإيديولوجيا الهجينة التي تسمح لحزبي الائتلاف الحاكم المذكورين بالخنوع للوبيات الصهيونية في العالم والتطبيع وراء الستار، مقابل تصريف خطاب مغاير تمامًا يوجهونه إلى من يرونه شعبًا مسكينا…