الشارع المغاربي- الحبيب القيزاني: لم يكن مفاجئا لمتابعي خفايا مسار العلاقات الجزائرية–المغربية أن تحشر المملكة المغربية الجزائر في قرارها بقطع العلاقات الديبلوماسية مع ايران عبر اتهام جارتها الشرقية بتحويل سفارتها الى “وكر” للتنسيق مع طهران لدعم جبهة البوليساريو بالمال والسلاح بما يعني واقعيا التآمر على أمن المملكة في ملف طالما سمّم الأجواء بين الطرفين منذ “حرب الرمال” في ستينات القرن الماضي وعطّل مسار بناء الاتحاد المغاربي.
والحقيقة أن الاتهام المغربي يدخل في اطار مؤامرة اقليمية ذات أبعاد دولية هدفها النهائي وضع ترتيبات لمحاصرة الجزائر تنفيذا لمؤامرة تحاك ضدها بأياد عربية خدمة لأجندات غربية تقودها فرنسا وحليفيها الغربيين الرئيسيين الولايات المتحدة وبريطانيا.
مؤامرة دولية لا تبدو بعيدة عن الدور الذي تلعبه العربية السعودية بالوكالة في التجييش ضد ايران وسعيها الحثيث لحشد الدول العربية السنية ضد ما تسميه “الخطر الشيعي” في اصطفاف مفضوح وراء المشروع الاسرائيلي–الغربي للتخلص من قوة اقليمية تقف وراء مخططات تل أبيب في الهيمنة على الشرق الأوسط بدعم من أمريكا وبريطانيا وفرنسا.
وليس سرا أن الحشد السعودي ضد ايران وأذرعتها في لبنان (حزب الله) والحوثيين في اليمن انطلق منذ اجتماع شرم الشيخ بمصر عام 2008 الذي كرّس ميلاد جبهة سنّية تضم أساسا السعودية والامارات العربية المتحدة والاردن ومصر لمواجهة “التهديد الايراني“.
ومنذ ذلك التاريخ قطعت هذه الدول علاقاتها الديبلوماسية مع ايران بما فيها المغرب (عام 2009) قبل أن يعيد علاقاته مع طهران عام 2014. فما الذي تغير منذ ذلك التاريخ حتى تقطع الرباط مجددا علاقاتها مع ايران و“تستورد” الازمة السعودية–الايرانية الى منطقة المغرب العربي مع ما يمكن أن يكون لذلك من تداعيات على استقرارها؟
لا يبدو اتهام الجزائر بالضلوع في مؤامرة ايرانية على المغرب بعيدا عمّا يطبخ سرا بين باريس ولندن وواشنطن في اطار مخطط يبدأ بالتضييق على دول ترفض الانصياع لسياسة عربية تقودها الرياض ومعاقبتها وصولا الى اسقاط انظمتها ان لزم الأمر.
وفي هذا الاطار لم تكن الجولة الماراطونية التي قادت مؤخرا ولي العهد السعودي الى كل من فرنسا وبريطانيا وأمريكا بعيدة عن هذا المخطط.
واذا كان وجود الاسطول الامريكي الخامس في قطر قد شفع لهذه الدولة بعدم تنفيذ تهديدات سعودية–اماراتية بغزوها انتقاما لرفضها قطع العلاقات مع ايران فإن الحال مع الجزائر تختلف بفعل بعدها الجغرافي عما تراه الرياض منطقة نفوذ (الخليج العربي) لا يجب أن تنازعها فيه أية دولة عربية الزعامة.
فقد رفضت الجزائر سواء على مستوى وزراء الداخلية العرب أو بمناسبة قمة الظهران الاخيرة الطروحات السعودية والخضوع لاملاءاتها وهي بلا شك تعرف خفايا الادوار الخفية التي رسمتها كل من باريس ولندن وواشنطن مع الرياض خلال زيارات ولي العهد السعودي لهذه البلدان والتي لم يكن العاهل المغربي بعيدا عنها بفعل اقامته تزامنا مع هذه الزيارة في العاصمة الفرنسية تحت غطاء اجراء فحوصات طبية اذ اتضح انه التقى بولي العهد السعودي مثلما كشف عن ذلك رئيس وزراء لبنان سعد الحريري في صور سلفي نشرها على صفحته بفايسبوك والتي تبعث على التساؤل عما اذا لم يكن الملف الايراني غائبا عن اللقاء.
ولعلّ ما يؤكد الدور الذي تلعبه السعودية بالوكالة لحشد دول عربية واسلامية ضد ايران تزامن زيارة ولي العهد السعودي تقريبا مع لقاء جمع وزير خارجية فرنسا جان لوك لودريان بنظيره الجزائري عبد القادر مساهل، لقاء دار في جو غير ودي بفعل رفض الجزائر الانسياق في لعبة التورط خارج حدودها في مكافحة تنظيمات ارهابية بمالي والنيجر والتشاد. هذا الى جانب ادراك الجزائر ان تواجد قوات خاصة فرنسية وبريطانية على حدودها الجنوبية بتعلة مكافحة الارهاب ليس بريئا ولا بعيدا عن نوايا خفية لتشتيت انتشار جيشها خاصة بعد اعطاء باريس المغرب ضوءا أخضر لتنفيذ ضربات جوية ضد قواعد جبهة البوليساريو ومحاولة اشعال حرب جديدة بالمنطقة ربما تُجر اليها الجزائر جرا وتتحول الى مواجهة عسكرية مغربية–جزائرية.
واذا كان اصطفاف المغرب وراء السياسة السعودية يدخل في اطار تحالف بين نظامين ملكيين لهما علاقات ولاء قديمة للمعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة فإنه يبدو أن تشابك مصالحهما مع هذا المعسكر بات يفرض عليهما الدخول في صفقات استراتيجية وتوزيع أدوار استعدادا لاعادة رسم خريطة المنطقة بناء على معاداة ايران والمحور الذي تتبعه ونقصد هنا روسيا والحوثيين باليمن وحزب الله في لبنان وحركة حماس في فلسطين الى جانب سوريا آخر معاقل “جبهة الرفض والصمود” التي يحاول المعسكر الغربي منذ 7 سنوات تركيعها خدمة لمخطط الشرق الاوسط الجديد الذي تنظر اليه اسرائيل.
واذا كانت فرنسا بحكم قربها الجغرافي من منطقة المغرب العربي وبحكم انها تعتبر هذه المنطقة –الى جانب افريقيا– منطقة نفوذ تابعة لها ترى أنها المؤهلة قبل لندن وواشنطن للعب دور في تنفيذ مخطط بناء تحالف ضد ايران والدول التي تقيم معها علاقات طبيعية فليس غريبا أن يكون من أهداف زيارة ماكرون الاخيرة الى واشنطن التنسيق لتنفيذ المخطط المذكور وربما مؤامرة تصل الى حدّ تحويل الجزائر الى بؤرة عنف شبيهة بتلك التي فُرضت على سوريا.
وحتى الساعة لا يظهر بوضوح ما هو الثمن الذي يكون الرئيس الفرنسي ماكرون قد طلبه لذلك الانبطاح المفضوح أمام ترامب، والانقلاب على مواقف فرنسا من الملف النووي الإيراني، في ما يشبه الخيانة الموصوفة لشركائه الأوروبيين، سوى ما ظهر بعد حين من تغيير لافت في الموقف الأمريكي من النزاع في الصحراء الغربية، وتفضيل الولايات المتحدة إرضاء الحليف الفرنسي بصيغة منحازة للمغرب، وتفخيخ الملف بما قد يتدحرج بالنزاع إلى حرب مفتوحة في الإقليم تروج لها فرنسا من أكثر من جبهة على امتداد حدود الجزائر.
ومن الواضح أن الموقف الأمريكي التقليدي في ملف الصحراء قد انقلب بـ180 درجة، وربما قد يكون محض ترضية أمريكية للرئيس الفرنسي الذي انقلب على مواقفه السابقة في الملف الإيراني، وخرج عن الإجماع الأوروبي في ما يشبه الرشوة لاستحلاب موقف أمريكي مؤيد للأطروحات التي تسوّق لها فرنسا في ملف الصحراء منذ نشأة الأزمة، كما لا يُستبعد أن تكون الولايات المتحدة قد أرادت مناكفة روسيا كعقاب لها على استعمال الفيتو في الملف السوري، أو إنما تكون قد اختارت توسيع ساحة المواجهة مع روسيا والصين لتشمل الحوض الغربي للبحر الأبيض المتوسط بوضع منطقة شمال إفريقيا على صفيح ساخن وضمها إلى أوراق التفاوض في الأزمات الدولية الثلاث.
وفي كل الأحوال لا يمكن للجزائر أن تتجاهل أن اختيار شهر أكتوبر القادم كموعد لعودة ملف النزاع في الصحراء الغربية إلى مجلس الأمن إنما يضمر نوعا من المكر والضغط المبطن عليها ستة أشهر قبل موعد الانتخابات الرئاسية المحفوف بكثير من التهديدات على أمن البلد واستقراره، كما ليس من الحكمة تجاهل تصعيد وتيرة المناورات العسكرية التي تقودها الولايات المتحدة في المغرب وفي النيجر بسيناريوهات مستبطنة لـ”حرب رمال” لا صلة لها بما ترفعه أمريكا وفرنسا من رايات كاذبة لمحاربة الإرهاب، أو تجاهل تحريك ضغوط اقتصادية أوروبية على الجزائر بتحريض فرنسي مكشوف، ناهيك عن مناوراتها المفضوحة لتشجيع الهجرة غير الشرعية بكثافة من دول الساحل، ومحاولة تأليب دول الجوار على الجزائر.
وحتى مع هذا التغيير المفاجئ في الموقف الأمريكي، الذي قد نتفهم خلفياته المتصلة بالمواجهة المفتوحة مع روسيا في أكثر من ملف، فإن ما ينبغي للجزائر دولة وشعبا أن تضعه في الحسبان هو هذا الارتماء الفرنسي المفضوح في أحضان الإمبراطورية الأمريكية، وتنكُّرها للسياسة الخارجية الديغولية منذ وصول ساركوزي لقصر الإيليزي، مع بروز شبح غير عادي في خطب وسلوك الرئيس الفرنسي ماكرون لتجديد مجد عسكري للقوة الفرنسية المهمَّشة في المحافل الدولية بعد رحيل ديغول، المقيدة بالضعف السياسي والعسكري لأوروبا، المتراجعة في القارة الإفريقية أمام التمدد الصيني والأمريكي، والتي تريد أن تسوِّق نفسها لنظرائها الأوربيين كقوة عسكرية في الميدان تحمي حصة أوربا في الكعكة الإفريقية وتقدم نفسها للولايات المتحدة كمقاول حذق من الباطن ولو بالأكل الفتات تحت الطاولة.
ولا شك أن مسعى استعادة مجد القوة الاستعمارية القديمة قد يغري الرئيس الفرنسي الشاب بالسعي لانتزاع موافقة أمريكية، وتضامن اطلسي، لمسار ينتهي بتفجير الأوضاع في المغرب العربي، بوضع النزاع في الصحراء الغربية على صفيح ساخن، كان قد أشعل “فتيله الطويل” منذ اللحظة التي أمر فيها ملك المغرب بتصعيد اللهجة انطلاقا من باريس تجاه الجزائر كما لم يسبق له ولا لوالده أن اقترب منه منذ بداية النزاع. ثم إن فرنسا قد فقدت الأمل في استدراج الجزائر إلى المستنقع المالي، وفشلت منذ حادثة “تغنتورين” في ليِّ ذراع الجزائر بالتهديد الإرهابي الوافد من ليبيا، كما فشلت في تحويل عودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي إلى فرصة لتعميد المغرب كحصان طروادة، ولم يبق أمامها سوى البؤرة النائمة في نزاع الصحراء الغربية كآخر ورقة لاستعادة المبادرة المعطلة، وحماية النفوذ المتراجع في شمال وغرب إفريقيا، حتى لو اقتضى الأمر تفجير حرب بين الجزائر والمغرب، تبرر لها تجديد المغامرة الليبية أو الصيغة السورية.