الشارع المغاربي : صباح الخبر! تحياتي الحارة لكم جميعا أيها التونسيون نساء ورجالا، من الصغير إلى الكبير!
كلماتي هذه موجهة إلى كلّ من يحب تونسنا العزيزة الجميلة بقطع النظر عن طبقته، وعن مهنته، وعن المنطقة التي ينتمي إليها. أمّا من يكرهونها، ويحقدون عليها ويعملون على تخريبها، وتمزيق أوصالها، وحرقها إن كانت النيران تخدم مصالحهم وأغراضهم الدنيئة فمستثنون منها. وأنا على يقين أنها ستُغيظهم، وتزيدهم حنقا ،وحقدا عليّ وعليها!
أكتب هذه الرسالة والفجر يطلع أحمر على جبهة بحر الحمّامات، مُبشرا بيوم كئيب كآبة الحياة التي نعيشها راهنا. حياة موسومة بمحن وأوجاع تزداد قسوة وحدة يوما بعد آخر من دون أن يظهر في الأفق القريب أو البعيد ما يمكن أن يبشر بالأمل والخلاص.
ورغم كل هذا تواصل الأحزاب والمنظمات التي فّرختها «ثورة الكرامة والحرية » صراعاتها ونزاعاتها لتسميم الحياة السياسية، وفتح المزيد من الجراح، ومواصلة العبث بمصالح الشعب، وتدمير مؤسسات الدولة ، وإقصاء الكفاءات في جميع المجالات ، لينعم الجهلة والخونة والفاسدون والمرتزقة بخيراتها، ويحكمون قبضتهم عليها فتموت خنقا ودوسا تحت أقدامهم السوداء، هم الذين لا يعرفون معنى للوطن، ولا يبهجهم سوى المزيد من الخراب!
أكتب هذه الرسالة والأخبار تتوالى مخيفة، منذرة بالمزيد من المخاطر الجسيمة. فالبلاد على وشك الإفلاس، والإضرابات العشوائية تزيد الأوضاع الإقتصادية
سوءا، وقيادة الاتحاد العام التونسي للشغل لا تنقطع عن التهديد والوعيد بمزيد من الإضرابات والاحتجاجات. وبسبب الإرهاب وتبييض الأموال، لا تزال تونس على لائحة الإتحاد الأوروبي السوداء، والدينار يتهاوى إلى أدنى المستويات، ومدخراتنا من العملة الصعبة في تدنّ لم يسبق له مثيل. وبين وقت وآخر، يشتد الصراع على السلطة بين الأحزاب، وبين الأجنحة داخل الأحزاب، وبين قصر قرطاج وقصر القصبة، ليزداد الإحتضار المرير طولا. وما أظن أن هذا العدد الهائل من الأحزاب قادرا على انقاذ تونس من محنتها سواء على المدى القصير أو البعيد. فمنذ سبع سنوات عجاف، وتونس تبدو شبيهة بسيارة تعطلت عجلاتها في لطين. وجميع الذين يهبون لإخراجها يستعملون وسائل وأدوات لا تنفع لا تفيد، بل قد تزيد الطين بلّة.
ويعود ذلك إلى أن هذه الأحزاب تخشى مصارحة التونسيين بحقيقة المأساة التي يعيشونها، والكشف عن أسبابها. وأول هذه الأسباب هو الدستور الذين استغرقت كتابته ثلاث سنوات، وكلف الميزانية غاليا، ليكون دستورا إنشائيا مليئا بالثقوب والثغرات، مُقسما السلطات إلى ثلاثة رؤوس. وكل رأس لا يستطيع أن يتحرك إلاّ بموافقة الرأس الآخر لتكون الرؤوس الثلاثة في النهاية مكبلة بالقيود، وعاجزة بالتا ي عن اتخاذ القرارات المناسبة لهذا الوضع أو ذاك. ثم أن نواب
ما أصبح يسمى بمجلس الشعب يعتقدون أن العمل البرلماني هو الثرثرة الفارغة، والتنديد، والإحتجاج، والصراخ، وتبادل التهم لتنتهي الجلسات البرلمانية
أحيانا باشتباكات عنيفة على طريقة الديكة المكسيكية.
وباسم الحرية هم يسمحون لأنفسهم بالدوس على القوانين الداخلية للمجلس نفسه، وبشتم الوزراء والمسؤولين، وبالتحريض على العنف والتخريب. .
وهم يبالغون في سلوكياتهم المشينة هذه بهدف التستر على جهلهم بأوضاع البلاد، وبقضاياها الحارقة. والإثارة، وحب الظهور، والتبجح، وكل هذا هو ما يبتغونه في النهاية. وتحت تأثير شعبويتهم المحمومة، هم يسمحون لأنفسهم بتحويل المجالس البرلمانية إلى مسرحية مبتذلة يكثر فيها التهريج، والضجيج، وتكاد تنعدم فيها الجدية ،والكفاءة، والرغبة في إصلاح ما فسد، وما عَطُبَ. والشعبوية من الآفات الأخرى التي ابتليت بها تونس خلال السنوات السبع الماضية. وقد تأججت نيران الشعبوية إثر السقوط المدوي لنظام بن علي ليشمل حريقها الهائل كامل مناطق البلاد. وكانت البداية الإعتصامات التي دبرّها اليسار المتطرف في ما يسمى ب «القصبة »1 و «القصبة »2 .
فعلى مدى أشهر طويلة، عطلت تلك الإعتصامات الحركة الإقتصادية، متحدية هيبة الدولة ومؤسساتها الأمنية، وسامحة للمتطرفين بنشر التسيب والفوضى والهمجيّة. وتلك الشعبوية هي التي يتسلح بها المتطرفون في جميع انحاء البلاد راهنا لتحدي الدولة، وأجهزتها الأمنية والعسكرية، ولعرقلة النشاط الإقتصادي، وإفساد الحياة السياسية والإجتماعية. كما أن هذه الشعبوية هي التي أذكت الأحقاد والضغائن، وأحيت من جديد العروشية والقبلية لتهدد الوحدة الوطنية، وتفرق بين التونسيين، وتفسد العلاقات حتى بين أفررد العائلة الواحدة.
والشعبوية هي التي أفرزت «ثورجيين »، وأشباه سياسيين يطلقون الوعود الفارغة، ويبشرون بالخير والنعمة في حين أنهم مفتقدون للحنكة، وللتجربة، وللقدرة على تقديم أدنى الحلول للمشاكل والأزمات التي تتخبط فيها تونس … وهيئة الحقيقة والكرامة هي ثمرة هذه الشعبوية الحاقدة. والسيدة التي تديرها ومن معها، جاهلون بأطوار التاريخ التونسي القديم والحديث. ولا همّ لهم سوى إذكاء ثقافة الإنتقام، وجرّ التونسيين إلى الفتن القاتلة. وهذا ما ترغب فيه البعض من الأحزاب والمنظمات المعادية للوحدة الوطنية، والساعية إلى «صوملة » البلاد، وإغراقها في النزاعات القاتلة والمدمرة.
وقد تمكنت الشعبوية من غرس أشواكها في جميع المجالات، خصوصا في لغة الخطاب السياسي ليكون هذا الخطاب مزيفا، وسطحيا، ومنافيا لواقع البلاد
والعباد. وجميع الذين صعدوا إلى السلطة بجميع فصائلهم السياسية في تونس عام 2011 ، كانوا ولا يزالون يسخرون من لغة الخطاب السياسي في زمن نظام بن علي. وهم يصفونه ب «الخشبي »، وبـ «المسطح »، وبـ «الفقير »، وبـ «المضَلّل »، زاعمين أنه يجمّلُ الواقع لإخفاء عيوبه، ومساوئه، مراكما الأكاذيب والأوهام ولا هدف له من كل ذلك سوى تلميع صورته. ورغم أنهم يختلفون سياسيا وايديولوجيا، فإننا لا نكاد نجد فروقا بينّة وواضحة في توصيف الخطاب المذكور بين الإسلاميين الذين تمثلهم حركة النهضة، وبين الفصائل الأخرى المعارضة لها مثل الجبهة الشعبية ذات الاتجاه الشيوعي والقوميين البعثيين أو الناصريين وغيرهم ممن ينتسبون إلى حركات وأحزاب لها ملامح ليبيرالية أو اشتراكية.
لكن هل أفلح هؤلاء حقا في ابتكار خطاب مضاد فعليا للخطاب الذي كان سائدا في زمن بن علي، ليكون خطابا صريحا، عاكسا للواقع في تجلياته وفي مواصفاته الحقيقية، خاليا من الأكاذيب، ومن الوعود المزيفة؟ ذلك هو السؤال الذي يطرحه الكثير من التونسيين بعد مرور أزيد من سبعة أعوام على انهيار نظام بن علي.
ولنبدأ ب «حرية التعبير » التي تعتبرها الأحزاب والمنظمات الجديدة من أعظم المكاسب التي حققتها لها «ثورة الكرامة والحرية » التي أطاحت بنظام بن علي. وصحيح أن الرقابة رُفعت عن الألسن، وعن الأقلام، وبات من حق الجميع الخوض في أي شأن من الشؤون، وفي أي قضية من القضايا من دون ردع أو خوف. إلا أن الفوضى التي سادت وتسود المشهد السياسي في تونس حجبت فوائد «حرية التعبير « لتتحول هذه الحرية إلى مونولوجات مطولة ومضجرة
،وإلى هذيانات موجعة للرأس على أمواج الأثير، أو على شاشات الفضائيات، أو على صفحات الجرائد.
وتحت قبة مجلس الشعب، يغيب الحوار الجاد والصريح الذي يتطرق إلى القضايا الحارقة ليسود الإنفعال والتشنج في خرق واضح للقانون الداخلي للمجلس. بل أن بعض النواب الذين يكثرون من استعمال كلمة «الديمقراطية »، يدفعهم الغضب في لحظة ما إلى التنكر ل «الدستور الديمقراطي » الذي صادقوا عليه، والذي نعته راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة الإسلامية بأنه «أفضل دستور في العالم »، ليهددوا معارضيهم ب «السحل »، و «الدفن أحياء »، وب «نصب المشانق لهم في قلب العاصمة. بل لعلهم ينذرونهم ب «حرب أهلية تحرق الأخضر واليابس .» ومعنى كل هذا أن الحرية المكتسبة بعد انهيار نظام بن علي ليست تلك الحرية التي تتيح للمجتمع التحرر من القيود القديمة، وتطلق قواه الخامدة، والمهملة والمحبوسة لكي يحقق الإنطلاقة للبناء المنشود، وإنما هي «حرية سلبية » بحسب تعبير الفيلسوف الألماني هايدغر. حرية تغرق المجتمع في النزاعات والمناقشات البيزنطية، وتبعثر قواه، وتفتت ارادته لتجعله مُكبّلا بقيود جديدة تعيقه عن تحقيق طموحاته وآماله، وتربكه أمام تحديات الحاضر والمستقبل وعكس ما كان منتظرا منها، لم تفض «حرية التعبير » على الطريقة التونسية إلى بروز خطاب سياسي صريح وواضح ومفيد يساعد على النهوض الذي تتطلع إليه البلاد، بل هي ولّدت خطبا عامة، وديماغوجية وتقريبية، ومجانبة للواقع. وإذا ما نحن استندنا إلى الكاتب الإيطالي الكبير ايطالو كافينو، فإنه لا يجوز لنا القول بأن الخطاب » العام »، أو «التقريبي » حتى وإن صيغا بلغة تجنح إلى التبسيط والوضوح، فإنهما ينتهيان بأن يكونا خطابين كاذبين، ومُلفقين.
ويرى كالفينو أن الهدف الأساسي للذين يميلون إلى الخطب «العامة »، و «التقريبية » هو تجنب الخطاب المعقد الذي يحتاجه الواقع المعقد بطبيعتة. ومن أصول وثوابت الخطاب المعقد هي أنه يسعى دائما وأبدا إلى التطرق إلى القضايا بدقة، وإلى الجهر بالحقيقة حتى ولو كانت موجعة.
وتعكس لغة الخطاب السياسي في تونس عجزا في الإبتكار، وفقرا مدقعا في الخيال، وسطحية في تحليل معطيات الواقع، وجهلا بتاريخ تونس القديم والحديث على حد السواء. من هنا ندرك خلوّ الكثير من الخطب من المرجعياّت التونسية في هذا المجال أو ذاك. كما ندرك تعمد أصحاب هذه الخطب في كثير من الأحيان إلى تزوير التاريخ لصالحهم، ونفي العناصر الإيجابية لدى معارضيهم، كما لدى الأنظمة التي سبقتهم، وتحديدا نظامي بورقيبة وبن علي. ولأنهم يعلمون جيدا أنهم عاجزون عن تقديم حلول ناجعة للأزمات التي تتخبط فيها البلاد، فإنهم يلجؤون إلى لغة الترهيب، محرضين على العنف والتخريب، ومحملين مسؤولية تردي الأوضاع إلى الآخرين. ومعنى هذا أن النقد الذاتي الذي هو أحد فضائل «حرية التعبير » منعدم في الخطاب السياسي الجديد.
الأمر الآخر الذي يتوجب الوقوف عنده هو أن حرية التعبير أبرزت صحافيين ومنشطين لبرامج ترفيهية وسياسية يبيحون لأنفسهم العبث باللغة، وتشويهها، وافسادها. وها أن الواحد منهم ينطق بجملة هي خليط من العربية الفصحى، واللهجة الدارجة، واللغة الفرنسية. والغريب في الأمر أن المؤسسات التعليمية تبدو غير معنية بالتخريب اللغوي الذي يحدث في تونس راهنا، والذي ستكون له تداعيات خطيرة للغاية على الأجيال الحاضرة والقادمة.
والعفو التشريعي العام هو الأمر الآخر الذي تتوجب الإشارة إليه. وقد اتخذ القرار بشأنه على عجلة، ومن دون التثبت في الملفات، وفحصها بدقة. لذلك شمل العفو آلافا من المجرمين، ومن مقترفي جرائم ارهابية. وقد استغلت أحزاب مثل حركة النهضة هذا الوضع لتكسب أنصارا جددا، مانحة هذا الصنف من المتمتعين بالعفو التشريعي تعويضات مادية هامة، وسامحة لهم بالعمل في الوزارات، وفي الشركات الخاصة والعامة، وفي مختلف مؤسسات الدولة . وعلينا أن نشير إلى أن عدا كبيرا من المورطين في جرائم ارهابية سرعان ما اختفوا عائدين إلى الجبال لترويع الناس وقتلهم وذبحهم ليكون ضحاياهم بالعشرات من المدنيين، ومن الجنود، ورجال الأمن.
وهذا ما أثبتته العديد من التحقيقات. كما أثبت هذه التحقيقات التي غالبا ما يتمّ التستر عليها أن البعض من المتعين بالعفو التشريعي العام مورطون في جرائم الاغتصاب، والتهريب، والتحيل . وكان للدعاة المتشددين من التونسيين، ومن العرب دور كبير في استفحال العنف والإرهاب. فباسم «نصرة الإسلام » بحسب تعبير زعيم النهضة راشد الغنوشي ، تم السماح لهؤلاء الدعاة بالخطب في المساجد محرضين على العنف والجهاد، مكفرين النخب المثققة، بل وسخروا منها، ومن علمانيتها «العرجاء «. وفي المطارت استقبلوا بالأحضان. كما فتحت لهم أبواب القصر الرئاسي بقرطاج على
مصراعيها. وتحت تأثير هؤلاء لا تزال خطب الجمعة تحرض على الكراهية والعنف، ولا تزال فتاوي التحريم، والدعوات إلى ضرورة «احترام الأخلاق الحميدة » تتهاطل على الناس في خرق واضح لمبادئ الدستور المصادق عليه. ومثل حرية التعبير كانت التعددية السياسية مكسبا آخر من مكاسب «ثورة الكرامة والحرية ».
إلاّ أن ما عاشته تونس على مدى السبع سنوات الماضية دلت على أن هذه التعددية سلبية، وعقيمة، ومضرة بالحياة السياسية إذ كيف يمكن لبلد صغير مثل تونس التي يبلغ عدد سكانها 12 مليون نسمة أن يتحمل 217 حزبا؟؟؟ مع العلم أن الأغلبية الساحقة من هذه الأحزاب لا تمتلك قاعدة شعبية، ولا برامج واضحة. لهذا السبب، باتت التعددية السياسية مجرد لعبة طفولية من نوع » حك راسك واعمل حزب .» وأدنى انشقاق أو سوء تفاهم يدفع هذا أو ذاك لفتح دكان حزبي منه يطلق الوعود الكاذبة، والشعارات الجوفاء، موهما التونسيين بأنه قادر على إيجاد الحلول الناجعة والعاجلة لمشاكلهم ومحنهم. والحال أن المرحلة العصيبة التي تمرّ بها تونس راهنا تتطلب من الجميع توحيد صفوفهم لإنجاز المشروع الذي يجنب البلاد السقوط في هاوية لا قرار لها، ويعيد للوحدة الوطنية صلابتها، وللدولة هيبتها.
وكان الفساد أحد الأسباب الرئيسية التي أدت إلى سقوط نظام بن علي. وكان التونسيون يعتقدون أن الحكام الجدد الذين صعدوا إلى السلطة مبشرين بـ”عهد جديد ” سيضعون حدا لكل مظاهر الفساد والمحسوبية. غير أن ذلك كان مجرد وهم سرعان ما تبخر ليتحول الفساد إلى غول مخيف ينخر المجتمع من تحت إلى فوق، ومن فوق إلى تحت، بخيراته ينعم الإنتهازيون، وتجار البلاغة «الثورجية »، والشعرات الجوفاء، والمتسترون ب » مبادئ الدين الحنيف ،» والفاقدون للحس الوطني، المتخصصون في النهب والغدر، وفي بيع ضمائرهم بأبخس لأثمان … ولم يعد الاتحاد التونسي للشغل قوة ضامنة لتقدم البلاد ورقيها ولوحدتها الوطنية بحسب الأسس التي والمبادئ التي وضعها له مؤسساه الكبيران فرحات حشاد، ومحمد علي الحامي. فمنذ أن اخترقه المتطرفون من كل الممل والنحل، أصبح ساحة للمعارك الايديولوجية والعقائدية، ومصدرا للفوضى والتفرقة، ومؤسسة لتفريخ الشعبوية الهدامة التي لا همّ لها سوى تحريض العمال على الإضرابات والاحتجاجات، وتجريدهم من كل ما يمت بصلة لثقافة العمل الوطني.
إن جل الجوانب السلبية التي أشرت إليها تقدم دلائل واضحة وموجعة على تونس التي طالما افتخرت برصيدها الحضاري الذي يمتدّ إلى قرابة 3000 سنة، قد تفقد الموروث التنويري الذي تربت عليه أجيال وأجيال. ففي منتصف القرن التاسع عشر، برزت نخبة تونسية بزعامة المصلح خير الدين باشا، صاحب كتاب » أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك .» وقد قامت تلك النخبة التي كان أبرز رموزها شيوخا ورجال دين مرموقين بسن أول دستور تونسي، داعية إلى الإنفتاح على الحضارة الغربية، ورافضة كل أشكال التزمت والإنغلاق. ولتجسيد مشروعها الإصلاحي والتحديثي، أنشأت تلك النخبة المدرسة الصادقية » ممهدة لبروز نخب جديدة سوف تلعب أدورا هامة في معركة الإصلاح والتحديث، وأيضا في مقاومة الإستعمار. وبعد حصول تونس على استقلالها في عام 1956 ، شرع النظام الجمهوري بزعامة الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة في تطبيق اصلاحات اجتماعية عميقة أفضت إلى صدور «مجلة الأحوال الشخصيةّ الضامن لحرية المرأة، ولدورها في المجتمع، وإلى جعل التعليم اجباريا ومجانيا.
كما أدت تلك الإصلاحات إلى تقلص النزعات العشائرية والقبلية التي كانت متفشية في البلاد، مهددة الوحدة الوطنية. لكن يبدو أن كل تلك الإنجازات العظيمة التي تحققت لتونس ولشعبها، بدأت تشهد تراجعا مخيفا خلال السبع سنوات الماضية. وهذا ما عكسته وتعكسه العديد من الأحداث السياسية والإجتماعية والثقافية. فقد سعت أحزاب ومنظمات إلى التشكيك في شرعية وأهمية تلك الإنجازات. ولم تكتف بذلك، بل راحت تنشر في الخفاء والعلن، وتحت أقنعة مختلفة، ثقافة العنف والتخريب لتسمح للنعرات القبلية والعشائرية بالظهور من جديد في مناطق مختلفة من البلاد. وتحت تأثير الخطب الأصولية المتطرفة، انتشرت في كامل أنحاء البلاد مظاهر التزمت والإنغلاق، والدعوات المعادية للإنفتاح. لذا قد يكونون على حق اولئك الذين يعتقدون أن تونس تراجعت إلى الوراء لتكون على نفس الصورة التي كانت عليها عندما كان الجهل متفشيا، والأمية طاغية، والتزمت سائدا . وقد يكونون هؤلاء على حق أيضا عندما يرون أن القوى الرجعية والظلامية التي أبرزها اّلربيع العربي » الزائف، قد كسبت معركتها ضد قوى الإصلاح لتغرق تونس في الظلمات من جديد. ما العمل إذن؟
أول ما يتوجب القيام به قبل فوات الأوان ونحن على أبواب انتخابات 2019 ، هو اعادة النظر في الدستور الجديد، وإبطال العمل به خصوصا في ما يتعلق بنظام الحكم، وبالتعددية السياسية . من دون ذلك ستظل الفوضى سائدة لتزداد الأوضاع السياسية والإقتصادية سوءا وخطرا. وفي أي عملية انتخابية، سيكون الفوز دائما للشعبويين، ولعديمي الخبرة والكفاءة مثلما كان الحال بالنسبة للمجلس التأسيسي ولمجلس الشعب ولرؤساء البلديات. وسوف تستغل القوى الأصولية والرجعية المعادية للديمقراطية والحرية مثل هذه الأوضاع لتحكم قبضتها على البلاد والعباد، ناسفة ما تبقى من المشروع الإصلاحي
والحداثي. كما يتوجب إعادة الإعتبار لهيبة الدولة، وتطبيق القوانين بكل حزم وصرامة لمواجهة من يسعون لنشر الفوضى والخراب باسم الحرية السلبية والتعددية المزيفة والمدمرة…
ويتوجب على القوى المتمسكة بالوحدة الوطنية، وبالمشروع التنويري أن تكف عن الصراعات الجانبية، وعن النقد السلبي لتعمل على توحيد صفوفها لمواجهة حركة النهضة وذيولها لما تمثله هذه الحركة من مخاطر جسيمة على مصير البلاد، وعلى مستقبل الأجيال القادمة !