الشارع المغاربي : مما لا شك فيه ان تونس تعيش تحت وطأة ازمة اقتصادية واجتماعية خانقة : ارتفاع نسبة المديونية، عجز ثقيل للميزان التجاري، انهيار متسارع للدينار، بطالة مرتفعة، تضخم متسارع وتدهور للمقدرة الشرائية لعموم التونسيين….وفي الازمات تجد الحكومات نفسها عادة امام خيارين: مصارحة المواطنين بواقع الازمة والاعتراف بفشل الحكومة والتحالف السياسي الذي يدعمها (والامثلة عديدة عن حكومات استقالت لفشلها في ادارة الازمة) او تجاهل الازمة وتزييف الحقائق وتقديم صورة مغايرة تماما للواقع. الخيار الثاني هو الذي تنتهجه حكومة النداء والنهضة.
في مناسبات متعددة ( منتدى تونس الاقتصادي بتاريخ 28 جوان، الجلسة البرلمانية لمنح الثقة لوزير الداخلية بتاريخ 28 جويلية، الندوة الوطنية حول مشروع قانون المالية 2019 بتاريخ 14 سبتمبر…) اكد رئيس الحكومة، يوسف الشاهد، ان المؤشرات الاقتصادية المسجلة تثبت تحسن الوضع الاقتصادي في تونس. رئيس الحكومة اشار الى ان نسبة النمو قد ارتفعت الى 2،5 % خلال الثلاثي الاول من سنة 2018 مقارنة بنفس الفترة من سنة 2017 وإلى أنه من المتوقع ان تبلغ 3 % خلال الثلاثي الثالث وأن ذلك مكن من التخفيض في بطالة اصحاب الشهائد بنسبة 2،6 % .
ويرتبط هذا “الانجاز” حسب رئيس الحكومة بارتفاع الاستثمار خلال السداسي الاول من سنة 2018 مقارنة بنفس الفترة من سنة 2016 بنسبة 24 % في الصناعة و 63 % في قطاع الخدمات الى جانب ارتفاع الصادرات بنسبة 43 % .
وهنا تكمن المغالطة والتلاعب بالمؤشرات. منهجيا، على اعتبار ان نسبة النمو ( 2،5 او 3 %) تعتمد على المقارنة بين السداسي الاول من سنة 2018 ونفس الفترة من سنة 2017 فان كل المؤشرات يجب ان تعتمد على نفس المقارنة ونفس الفترة المرجعية. لذلك بالرجوع الى معطيات وكالة النهوض بالصناعة والتجديد ( APII ) التي تشير الى ارتفاع الاستثمار في الصناعة بنسبة 3،9 % مع نمو سلبي في الصناعات الغذائية (23 – % والنسيج والملابس % 15 – ) وتراجع الاستثمار في الخدمات بنسبة 32 % في الثمانية اشهر الاولى من سنة 2018 مقارنة بنفس الفترة من سنة 2017 فإن تحقيق نسب النمو المشار اليها يصبح امرا مستحيلا.
اما بالنسبة للصادرات فإن المؤشر الذي قدمه رئيس الحكومة ( 43 %) يتناقض تماما مع واقع تفاقم العجز التجاري والانهيار المستمر للدينار وتراجع احتياطي العملة الصعبة. رئيس الحكومة نسي أو تناسى أمرين: الاول ان الواردات قد ارتفعت في نفس الفترة بحوالي 45 % اما الامر الثاني فهو ان 63 % من الصادرات تدخل في اطار النظام غير المقيم اي ان عائداتها من العملة الصعبة لا تدخل الى تونس.
اخيرا في علاقة ببطالة اصحاب الشهائد فان معطيات المعهد الوطني للاحصاء تشير الى تراجع نسبة البطالة من 30،5 % في السداسي الاول لسنة 2016 الى 29 % خلال نفس الفترة من سنة 2018 ، اي انخفاض ب 1،5% فقط حتى وإن اعتمدنا النسبة المقدمة من طرف رئيس الحكومة ( 2،6% ) فهذا يعني انه تم تشغيل 6 آلاف فقط من اصحاب الشهائد خلال 3 سنوات وهو ما لا يمكن اعتباره انجازا.
مع العلم ان عدد المعطلين من حاملي الشهائد ارتفع من 237 الف الى 257 الفا خلال نفس الفترة. لا اعتقد ان رئيس الحكومة – وهو الحائز على دكتورا في الاقتصاد- يجهل ابجديات التعاطي مع المؤشرات الاقتصادية بل ان تزييف الحقائق والتلاعب بالمؤشرات ليسا الا سياسة ممنهجة للتسويق لشخصه ولحكومته وانجازاتها الوهمية. لكن يبدو ان الموظف السابق بالسفارة الامريكية والحائز على الدعم الاوروبي بعد تعبيره عن استعداده لإمضاء اتفاقية( اليكا ALECA ) ما زال يفتقد الى دعم داخلي للمحافظة على موقعه أو ربما الاعداد لمحطة انتخابية قادمة.
امام تفكك ووهن التحالف السياسي الداعم له لا بد لرئيس الحكومة من دعم شعبي ولو كان ذلك بالتلاعب بالمؤشرات والتسويق للأوهام. لكن ما فات السيد يوسف الشاهد ان المواطنين لا يتعاطون في اغلبهم مع الارقام والمؤشرات (التي تبقى الى حد ما شأن المختصين) بل يتعاطون مع واقعهم وما يلمسون يوميا من غلاء في الاسعار وانسداد افق التشغيل وتردي الخدمات الاجتماعية واستشراء الفساد….. والواقع عنيد وهو اكثر فصاحة واكثر تأثيرا من لغة الارقام والمؤشرات.
صدر باسبوعية الشارع المغاربي في عددها الصادر بتاريخ 25 سبتمبر 2018.