الشارع المغاربي : كان على رئيس الجمهورية أن يواجه في ندوته الصحفية اكراهات ثلاثة من الدقة بمكان : أزمة التحوير الوزاري وأزمة علاقته برئيس الحكومةوالتهديد المبطّن بسحب الثقة منه.
لمواجهة الأزمة الأولى اختار رئيس الدولة الحلّ الأسلم له وللبلاد : التسامي عمّا هو عرضي وسياسوي ومفتعل والارتقاء إلى روح الدستور ونصّه فحمى نفسه من السوء والبلاد ممّا هو أسوأ. أفرغ أزمة التحوير من محتواها الدرامي ولسان حاله يقول : “رجل الدولة الباجي قائد السبسي لن يسمح لنفسه بأن يكون سببا في تعطيل عمل الحكومة أو شلّ دواليب الدولة”.
نجح اذن في امتصاص الأزمة التي كانت مرشحة أن تتحوّل إلى حرب مفتوحة بين رأسي السلطة. لحظات بعد نهاية الندوة الصحفية أصبحت الأزمة في خبر كان على الأقل في طورها المتعلق بالتحوير على معنى مقولة الأستاذ جحا البليغة : “طاح في البير وطلّعوه”.بالتوازي تحدّث رئيس الدولة عن علاقته بـ”صنيعته” يوسف الشاهد (أنا اخترته) بمنهجية التقزيم الضمني. نعته تلميحا بقلّة الذوق واستأنس بالسموأل لقذفه باللؤم واستنجد بحشاد ودمه المهدور لاتهامه ب “التخلويض”.
نمّق خطابه بحكم وبآيات قرآنية وبأبيات شعر وبمفردات شعبية (صانع متاع شطيح) لإنْزال رئيس الحكومة – الذي لم يشرفه ولو مرة واحدة بذكر اسمه – منزلة المراهق السياسي الفاقد لثقافة الدولة والذي لا يمكن أن يرتقي إلى رتبة “ندّا لندّه في كل الأحوال”.
صريح كلام الرئيس عن الشاهد مديح وتلميحه قبيح. في المحصلة حقّق نوعا من الإجماع على “تفرفيش” رئيس الحكومة الحالي الذي نسي حتى استشارة مجلس الوزراء قبل حذف وزارة أو إحداث أخرى مثلما ينصّ على ذلك الفصل 92 من الدستور فضلا عن الأسلوب المستخفّ بمقام رئيس الجمهورية في التمشي المعتمد لإعلامه بالتحوير Un chef d’oeuvre de discours dichotomique.
في المقابل بدا على ملامح رئيس الدولة ومن تعثّر كلامه نوع من الارتباك عند الحديث عن فرضية سحب الثقة منه المُلَوّح بها إذا عمد إلى رفض التحوير الوزاري. فرضية لم يكن ليتحدث عنها لو لم تزعجه! استوقفه هذا التهديد أكثر من مرة : تارة منتبها مسبقا لتهيّئ البعض للتخطيط له بتأكيدهم على “الخطإ الجسيم”(نفس العبارة الواردة في نص الدستور) الذي كان يمكن أن يرتكبه لو اعترض على انتصاب الحكومة الجديدة، وتارة محذّرا ضدّ مغبّة العصف بإرادة الشعب الذي انتخبه وتارة أخرى مستعطفا الحسّ الشعبي لمّا أفصح، مرتين، عن استعداده لإخلاء القصر الرئاسي إذا شعر بعجز ما أو إذا اقتضى الأمر ذلك.
تبقى فرضية سحب الثقة منه واردة سياسيا ودستوريا إذا تمادت البلاد التونسية في انحدارها الخطير مثلما هو الشأن اليوم نحو المجهول السياسي والمالي والأمني.
من الارتباك مرّ الاستاذ الباجي قائد السبسي إلى الرداءة والمستوى الصفر في التدبير السياسي عند الحديث عن علاقته بحركة النهضة ورئيسها. زعم بمكر أنه لم تكن تربطه بحركة النهضة سوى علاقته الشخصية براشد الغنوشي وأن هذه العلاقة فُكّت ولم يبق منها سوىشعرة “جويّدة” لمعاوية! “ما عنديش علاقة مع النهضة لا في الماضي ولا في الحاضر”. هكذا! بكلّ صلف! ما هكذا يا أستاذ وبهذه السهولة والاستخفاف بالرأي العام التونسي تتنصّل من
مسؤوليتك التاريخية في التحالف الاستراتيجي الاختياري الذي عقدته مع الغنوشي قبل الانتخابات لاقتسام السلطة وحكم البلاد معا! ألم تفتتح بمعية الغنوشي المؤتمر العاشر لحركة النهضة وباركت أعماله؟ ألم تستقبل في رحاب القصر وفدا عن شباب حركة النهضة؟ كلام فارغ يا سي الباجي !
خلاصة القول : لا شكّ أن للأستاذ الباجي قائد السبسي مفهوما معرفيا وتجريبيا كبيرا للدولة ولثقافتها، ولا شكّ أن له من الدهاء والذكاء السياسي -أشهد على ذلك شخصيا- ما وفّقه في امتصاص أزمة التحوير وفي تقزيم خصمه، إلا أنه، اجمالا، لم يوظّف هذه الثقافة في خدمة تونس بقدر ما وظّفها لخدمة آل السبسي. مع الأسف!