الشارع المغاربي : تُعرّف الأوليغارشية بصفتها فئة مضيقة و متنفذة اقتصاديا و ماليا عادة ما تتكون من بعض العائلات و التي تسيطر على أغلبية السلطة في البلاد بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.و تكمن مصادر القوة و السلطة لديها فيقوة الثراء المالي الذي تتمتع به عبر سيطرتها على القطاعات الاقتصادية بما فيها المؤسسات المالية و مسالك التوزيع و التوريد و الفضاءات التجارية.هذه الفئة تعتمد على التحكم في السلطة سواء بطريقة متقاسمة بين أعضائهافي شكل تدخل شخصي و مباشر في تحديد التوجهات الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية و في تسمية المسؤولين السياسيين و الإداريين أو عبر منظمات و وسائل إعلام تسيطر عليها و تجعل منها وسيلة ضغط لفرض توجهاتها و لرفض أي تغيير تعتبره يتضارب مع مصالحها الخاصة و الضيقة حتى و لو كان ذلك على حساب السلم الاجتماعية و المصالح المشروعة لغالبية الشعب و على حساب المصالح العليا للبلاد و السيادة الوطنية.
ما يجري اليوم في تونس سياسيا و اقتصاديا و اجتماعيا يبدو مشهدا سرياليا درامياو مثيرا بامتياز. من ذلك فإن كل المؤشرات الاقتصادية تنذر بوضع شديد الخطورة خاصة على مستوى المديونية التي ناهزت الثمانين مليار دينار مقابل 25 مليار دينار في سنة 2010. و على مستوى انهيار قيمة الدينار التونسي الذي يتجه نحو المجهول حيث تعدى 3,5 دينار مقابل اليورو الواحد في المبادلات البنكية بينما تخطى أيضا 3 دينار مقابل الدولار الأمريكي الواحد. كما ارتفع العجز التجاري إلى مستوى قياسي سوف يكون بين 28 و 29 مليار دينار في سنة 2018 مقابل 25 مليار في سنة 2017 بنسبة تغطية للواردات بالصادرات لا تتعدى 27 بالمائة وهو أمر كما أكدنا في عديد المناسبات خطير و لا يوجد مثيله في العالم. كما أن الزيادات المُشطّة و المفرطة في نسبة الفائدة الرئيسية للبنك المركزي فاقت كل تصور في حدود 125 نقطة في سنة 2018 بدعوى مقاومة التضخم وهي دعوى باطلة حيث ثبت أن نسبة التضخم ارتفعت كثيرا في سنة 2018 مقارنة بالسنوات السابقة. كذلك الزيادات المُشطّة التي عرفتها البلاد في أسعار الطاقة للمؤسسات التي ارتفعت إلى حدود 54 بالمائة بين شهر ديسمبر 2017 و شهر ديسمبر 2018 في حركة أحادية غير مدروسة و التي ستؤدي حتما إلى اشتعال الأسعار و مزيد من التضخم كما ستؤدي كذلك إلى غلق عديد المؤسسات و مزيد من البطالة خاصة في قطاع الصناعات الغذائية و قطاع مواد البناء الذي يعتبر من بين القطاعات التي مازالت توفر مواطن الشغل و تدفع بقدر المستطاع الحركية الاقتصادية الضئيلة المنتجة في البلاد حيث بدأنا نلاحظ تراجعا خطيرا في الاستثمار و في إنتاج هذا القطاع الاستراتيجي.
و كنتيجة حتمية لتدهور كل هذه المؤشرات انهارت القدرة الشرائية لكل فئات المجتمع التونسي و تآكلت الطبقة الوسطى التي تُعتبر عالميا الضمانة الأساسية للسلم الاجتماعية في كل البلدان زيادة على عجز المنوال الاقتصادي عن خلق مواطن شغل للشباب العاطل عن العمل بكل فئاته المؤهلة و الغير مؤهلة. هذا الوضع المتفجر أدى إلى انتشار ظواهر مؤلمة مثل تعدد حالات الانتحار و محاولات الانتحار في الأوساط الفقيرة و المحبطة و ارتفاع خطير في نسبة الإجرام زيادة على الهجرة السرية و كذلك الهجرة المنظمة للطاقات الشبابية المثقفة التي تستنزف قدرات البلاد التي طالما راهن عليها زعماء الدولة التونسية المستقلة منذ الاستقلال و التي تفرط فيها الدولة التونسية المعاصرة تحت ضغط مصالح فئات ضيقة أصبحت تتحكم في مفاصل الدولة و تدفع نحو تصادم اجتماعي خطير سوف يجر البلاد إلى ما لا يحمد عقباه.
هذه النتائج السلبية، البديهية و الخطيرة كان من المفروض أن تؤدي إلى مقاربة وطنية موضوعية و مسؤولة و حمالة لمراجعات عديدة و مُعمّقة على مستوى الخيارات التنموية للبلاد تنطلق من ضرورة وضع حد للمديونية التي تهدد السيادة الوطنية و ترهن مستقبل أجيالنا. و ذلك عبر اتخاذ قرارات جريئة و عاجلة لوضع حد لانخرام التوازنات المالية الخارجية نتيجة التوريد الفوضوي و المُكثّف. كما يستدعي الأمر ضرورة وضع خطة تنموية جديدة ترمي إلى رد الاعتبار لكل القطاعات المنتجة في البلاد و من أهمها القطاع الفلاحي و القطاع الصناعي الذي شهد تصحرا خطيرا جاء كنتيجةمباشرة لتداعيات اتفاق الشراكة الذي تم توقيعه مع الاتحاد الأوروبي منذ سنة 1995. حيث استحوذت الشركات الأوروبية على السوق الوطنية عبر الممارسات المخلة بقواعد المنافسة و أدت إلى غلق المصانع و استفحال نسبة البطالة في البلاد.
غير أن الغريب في الأمر أن الحكومات التي تداولت على السلطة منذ جانفي 2011 إلى اليوم ما زالت متمسكة بلغة خشبية ترفض الاعتراف بواقع الفشل الذي تشهده البلاد في جميع المجالات و تعارض كل اقتراح بناء و واقعي يمكن أن يُخرج البلاد من هذا الوضع الخطير في إطار احترام الدولة لكل الاتفاقيات الدولية و الإقليمية التي التزمت بها رغم طابعها التعسفي الذي فروض على الشعب التونسي بطريقة أحادية.
الأحزاب التي تداولت على السلطة منذ 2011 إلى اليوم أصبحت رهينة “الأوليغارشية ” المحلية و الخارجية غير أن الغريب في الأمر أن الأحزاب التي تداولت على السلطة منذ 2011 إلى اليوم سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة و الأحزاب المنبثقة عنها بما فيها المبادرة السياسية الأخيرة لرئيس الحكومة الحالي تستعد لخوض الانتخابات القادمة وهي تجر فشلا ذريعاعلى جميع المستويات الاقتصادية و الاجتماعية و ذلك في مشهد سريالي و درامي أمام معارضة ضعيفة و مشتتة و أمام شعب عاجز عن ردة فعل منظمة و مهيكلة وهو يتخبط أمام هول غلاء المعيشة و أمام تسارع بث العديد من الأخبار المفزعة حول نقص في الأدوية و نقص في المواد الغذائية الأساسية كالحليب و البيض و غيرها. هذه الأخبار الصادمة عادة ما أصبحت مصحوبة كذلك بأخبار حول تسارع العمليات الإرهابية مما يذكرنا حقيقة “باستراتيجية الصدمة” التي تتبعها الليبرالية المتوحشة لفرض سياستها الموالية “للأوليغارشية ” المهيمنة على السلطة الحقيقية في البلاد. وهي تحمل رسائل مفادها “إما أن تقبلوا بما نمليه عليكم و تتركوننا نتصرف في البلاد طبقا لما تمليه مصالحنا الشخصية و إلا سوف تفتقدون لكل المواد الأساسية لحياتكم في هذا البلد”. بمعنى أن يصبح الشعب رهينة لهذه الفئة التي استكبرت في البلاد و التي تسعى للسيطرة على كل القطاعات الاقتصادية حصريا لها دون غيرها.
و تكريسا لهذه السياسة نلاحظعبر عديد تدخلات الجهات الحكومية و كذلك الجهات التي تدور في فلك هذا الأقلية المتنفذة خاصة على مستوى وسائل الإعلام الموالية لها نفس الخطاب الخشبي الذي يردد بصفة آلية و بدون أي تحفظ. من ذلك عندما نطرح مشكل العجز التجاري يكون الجواب جاهزا في صيغة “يجب تنمية الصادرات و الأمر ليس مرتبطا بالتوريد”. طيب فليكن الأمر كذلك و لكن ماذا تنتظرون لتنمية هذه الصادرات. و هنا يعجز الطرف المسؤول عن الرد لسبب بسيط وهو أن البلاد لم تعد تنتج و ليس لها ما تصدره خارج قطاع الفسفاط و زيت الزيتون و بعض التمور و القوارص. و لكن في الأثناء تتسارع المجموعات المتنفذة في فتح الفضاءات التجارية الخاصة بالعلامات الفرنسية التي احتكرت كل المنتوجات الموردة و بطريقة عبثية غير مكترثة بمصادر توفير العملة الأجنبية لمجابهة سيل التوريد المتواصل و أمام سلطة تقوم بتقديم التراخيص المطلوبة بدون قيد و لا شرط هدفها الوحيد توفير الموارد المالية لتمويل حملاتها الانتخابية و الفوز بكرسي سلطة صوري.
الاتحاد العام التونسي للشغل يبادر بعقد ندوة وطنية سعيا لإيجاد حلول عاجلة للأزمة الحالية و شبح الانتفاضة الشعبية في فرنسا يخيم على الوضع الاجتماعي في تونس في ظل تعنت الأوليغارشية
في هذا الخضم بادرت المنظمة الشغيلة بعقد ندوة يوم الجمعة 4 جانفي الحالي استدعت لها عديد الأطراف المعنية و عديد الكفاءات المختصة بما فيها عدة وزراء سابقين. وهي في نظرنا تعتبر مبادرة طيبة لو يكتب لها الخروج بنتيجة إيجابية. وهي أيضا مبادرة تؤكد حاجة البلاد لمنظمات وطنية شعبية و مسؤولة تساعد على تهدئة الأوضاع و تبقى صمام أمان يمكن أن يحيل دون انفلات اجتماعي خطير على شاكلة الحركة الاجتماعية الفرنسية. وهي التي تحمل اسم “السترات الصفراء” و التي أعلنت فقدان ثقتها في الحكومات المنتخبة التي صُنّفت حكومات “الأغنياء” و لا في البرلمان و لا حتى في المعارضة و في المنظمات الوطنية بما فيها النقابات العمالية. مما يدل على إعلان نهاية العقد الاجتماعي و تهديد للسلم و الأمن القومي في البلاد.
أخشى ما نخشاه حقيقة هو أن بلادنا أصبحت مهددة لمثل هذا الوضع المتفجر و الخطير نتيجة تهور جشع هذه الفئات المتنفذة و استسلام الجهات السياسية لجبروتها و كل المؤشرات تدل على ذلك.
صدر بأسبوعية “الشارع المغاربي”في عددها الصادر يوم الثلاثاء 8 جانفي 2019.