الشارع المغاربي : اثر محاضرة مميزة قام بها رئيس جمهورية الإكوادور السابق “رفائيل كوريا” في جامعة السربون الفرنسية بحضور متميز “لفرانسوا فايل” مستشار جامعات باريس و” بارتيليمي جوبار” رئيس جامعة السربون و عدد من الأساتذة المختصين في الاقتصاد و بحضور الطلبة، تمحورت حول تقديم إنجازات رفائيل كوريا طيلة المدة التي قضاها في السلطة منذ تسلمه الرئاسة في جانفي 2007.
اثر النقاش سأله طالب إسباني متعجبا “كيف وصلتم إلى تقليص نسبة البطالة من 18 بالمائة في سنة 2006 إلى 4,3 بالمائة في سنة 2013 والحال أن نسبة البطالة في إسبانيا كانت آنذاك في حدود 26 بالمائة”. فأجابه رفائيل كوريا مبتسما “الأمر سهل جدا لم أطبق إملاءات صندوق النقد الدولي”.
لقد تطرقنا في عدة مناسبات لموضوع إملاءات صندوق النقد الدولي التي أضرت تقريبا بكل البلدان التي استسلمت لهذه الإجراءات التي تُقدّم ظاهريا بأنها إصلاحات بل و إصلاحات هيكلية و التي اتضح باطنيا أنها تدمير لاقتصاد البلدان المستهدفة لتسهيل السطو السياسي و الاقتصادي عليها. ما تعيشه تونس اليوم من أزمات هيكلية عميقة هو بالأساس نتاجا لبرنامج الإصلاح الهيكلي التي فرضه صندوق النقد الدولي منذ سنة 1986 في ثاني تدخل له في تونس.
ما زاد في الطين بلة هو السماح لتدخل هذه المؤسسة المالية من طرف كل الشخصيات و الأحزاب السياسية التي حكمت البلاد منذ سنة 2011 إلى اليوم. هذا التدخل الذي مهّدت له قمة السبعة دول الكبرى المجتمعة “بدوفيل” بفرنسا و خاصة منها بلدان الاتحاد الأوروبي و الولايات المتحدة الأمريكية و كندا في شهر ماي 2011 أضحى كارثيا بكل المعايير على الوضع الاقتصادي و الاجتماعي في البلاد. حيث أدخل البلاد في دوامة المديونية و تسبب في انهيار قيمة الدينار و شلّ كل القطاعات المنتجة الوطنية الفلاحية منها و الصناعية و الخدماتية. كما فتح المجال للاتحاد الأوروبي لتثبيت اتفاق الشراكة الموقع في سنة 1995 و الذي دمر القطاع الصناعي الوطني زيادة على فرض شراكاته المتتالية و خاصة منها مشروع اتفاق التبادل الحر الشامل و المعمق الذي سوف يشمل كل القطاعات المتبقية الفلاحية منها و الخدماتية.
كل هذه السياسة الاستسلامية التي ثبت بالنتائج الملموسة و حسب كل المؤشرات الاقتصادية و الاجتماعية أنها مدمرة للمسيرة التنموية للبلاد. كما ثبت أيضا أن هذه السياسة تعمل لصالح أقليات متنفذة داخلية تتعامل مع الأطراف الخارجية لتسهيل تسويق منتوجاتها في تونس على حساب المنتوج الوطني و على حساب مواطن الشغل لأبنائنا و على حساب توازناتنا المالية الخارجية التي أصبحت في درجة خطيرة من الانخرام تهدد سيادة و استقلال و أمن البلاد. و ما تزايد تواجد العلامات التجارية الفرنسية الموردة في كل القطاعات إلا دليل على ذلك.
عملا بالمثل التونسي صندوق النقد الدولي “يُشعل النار و يتساءل من أين يأتي الدخان”
انطلاقا من هذا التقييم التاريخي و المُوثّق سوف نضيف المزيد من الإثباتات إن لزم الأمر لنبين سياسة هذه المؤسسة العالمية و مسؤولياتها في تدمير مستقبل الشعوب و ذلك بالرجوع إلى البيان الأخير حول تونس الصادر عن صندوق النقد الدولي اثر زيارة وفده الأخيرة إلى تونس من 27 مارس إلى التاسع من أفريل 2019 و الذي يعتبر ضربا من ضروب التلاعب بالمصطلحات حيث يذكر الشيء و نقيضه في خطوة لا تخلو من سفسطة تُعتبر استغباء لذكاء الشعب التونسي و لكل الشعوب المستهدفة. و هذه بعض الأمثلة.
1/ حيث يُذكّر صندوق النقد الدولي منذ البداية ” أن البيان الصادر في ختام بعثة خبراء الصندوق مثله مثل كل البيانات الصحفية التي تصدر في ختام بعثات صندوق النقد الدولي تضم تصريحات صادرة عن فرق خبراء الصندوق بشأن الاستنتاجات المستخلصة عقب زيارة احد البلدان لا تُمثّل بالضرورة آراء مجلسه التنفيذي”. وهي خطوة تبدو واضحة لترك المجال للهيئة المديرة للصندوق للتنصّل من مسؤولياتها و تغيير موقفها في حالة نشوب اي ردة فعل في البلدان المستهدفة. هذا التلاعب إن دلّ على شيء فهو يدل على عدم مبالاة الإدارة العامة لصندوق النقد بما تعانيه الشعوب التي تمارس عليها سياسات التقشف التي تمليها على الحكومات و استعدادها للتنصل من مسؤولياتها حتى و لو لزم الأمر توريط بعثاتها التابعة لها قانونيا و إداريا.
2/ أن البيان اعتمد التعتيم إلى أقصى درجة حيث جاء في مقدمته أنه ” تم التوصل إلى تفاهمات مشتركة بين السلطات التونسية و خبراء الصندوق حول معظم القضايا” بدون ذكر هذه القضايا و يضيف البيان نفس التعتيم المشدد ” و اتفقوا على أن السلطات بحاجة لمزيد من الوقت لبلورة مقترحاتها بشأن السياسات حول بضعة مجالات” في تلميح واضح بأن الحكومة التونسية التمست من صندوق النقد مهلة لما بعد انتخابات 2019 لكي تُنفذ كل الإملاءات التي التزمت بها السلطة التونسية بمقتضى رسالة النوايا المُوقّعة من طرف محافظ البنك المركزي السابق الشاذلي العياري و وزير المالية الأسبق المرحوم سليم شاكر في شهر ماي 2016 و الموجهة لمديرة صندوق النقد الدولي “كريستين لقارد” و التي توالتها رسالة ثانية في نفس المضمار.
حيث تضمنت هذه الرسائل تعهدا بتطبيق كل القرارات المتعلقة بخصخصة المؤسسات الوطنية الإستراتيجية التي شملتها “مذكرة السياسات الاقتصادية و المالية” المرافقة لرسالة النوايا و التي تضمنت الشركة التونسية للكهرباء و الغاز و شركة تكرير النفط و ديوان الحبوب و شركة تونس الجوية والوكالة الوطنية للتبغ علاوة على متابعة وضعية البنوك الوطنية الثلاثة المتبقية وهي الشركة التونسية للبنك و البنك الوطني الفلاحي و بنك الإسكان.
كما تعهدت السلطة التونسية حرفيا في هذه المذكرة بتاريخ ماي 2016 لصندوق النقد الدولي بوقف الانتدابات بكل القطاعات العمومية بما فيها قطاع التعليم و قطاع الصحة. و قد رأينا النتيجة الوخيمة لهذه السياسة المُدمرة حيث فقدت تونس مؤخرا فلذات أكبادها نتيجة سياسة التقشف المفروضة من الصندوق الدولي. كما دفعت هذه السياسة بأطبائنا و كل كفاءاتنا الأخرى إلى الهجرة إلى الخارج لتستفيد منها خاصة فرنسا و كندا و هما بلدين من الذين يدفعان إلى تشديد قبضة صندوق النقد الدولي على الوضع في تونس.
3/ ما ذكره صندوق النقد الدولي في النقطة الموالية يعتبر حقيقة ضربا من ضروب التعتيم و التلاعب حيث يؤكد أن “جهود السلطات (بدون ذكرها لشناعتها و لمغالطتها لكل المبادئ الاقتصادية) لدعم النمو باحتواء التضخم و تثبيت مستوى الدين العام بدأت تؤتي ثمارها، و لكن الاقتصاد لا يزال ضعيفا”.هكذا بكل سذاجة و استخفاف بالشعب التونسي يقدم صندوق النقد الدولي جهود السلطة. حيث إذا ما تمعنا في مضمون “جهود السلطات لدعم النمو باحتواء التضخم” نجد بالدرجة الأولى الزيادات المتتالية في نسبة الفائدة الرئيسية للبنك المركزي حيث ارتفعت إلى مستوى 7,75 بالمائة بعد ما كانت في حدود 3,75 بالمائة بضع سنوات سابقة. و كذلك الزيادات المُشطّة في سعر الطاقة من كهرباء و غاز طبيعي على المؤسسات الوطنية العمومية منها و الخاصة بنسبة فاقت 50 بالمائة بين ديسمبر 2017 و ديسمبر 2018 و بنسبة 13 بالمائة على كافة المواطنين. علاوة على الزيادات في سعر المحروقات التي تواترت بصفة كبيرة في سنة 2018 و بلغت بين 2017 و 2019 معدل 20 بالمائة في كامل المحروقات. كل هذه الزيادات المغذية أساسا للتضخم يعتبرها صندوق النقد الدولي إجراءات لاحتواء التضخم؟
كما أن هذه الزيادات المفزعة التي أشلّت ما تبقى من النشاط الاقتصادي الفلاحي و الصناعي المنتج و قوضت القدرة التنافسية للمنتوج الوطني مقارنة بالمنتوجات المستوردة يعتبرها الطرفان إجراءات سليمة لتنشيط الاقتصاد الوطني؟
4/ كما يعتبر صندوق النقد الدولي أن “تونس تشهد تعافيا… محدودا” حيث ذكر “أن النمو ارتفع 2,7 بالمائة في سنة 2019 (و نحن ما زلنا في الثلاثي الأول من السنة) مقابل 2,6 بالمائة في 2018. و يعلل ذلك بأن هذا التعافي هو “مدعوما بقوة أداء قطاع الزراعة و قطاع الخدمات لا سيما السياحة”. وهو بالملاحظ ما تردده الأطراف الحكومية و كذلك رئيس منظمة الأعراف في إحدى تصريحاته الأخيرة التي نشرت في الصحافة الإلكترونية؟ كيف يمكن الحديث عن تعافي اقتصاد بنسبة 2,7 بالمائة و الحال أن القطاعين الأساسيين المحركين للنمو و هما القطاع الصناعي الذي بالمناسبة تناسى صندوق النقد الدولي و كذلك الحكومة عن ذكره في كل البيانات و الدراسات الخاصة بالاقتصاد التونسي و الحال أنه في حالة تصحر كامل. كيف يمكن الحديث عن قوة أداء قطاع الزراعة و الحال أن هذا القطاع يتهاوى من سنة إلى أخرى و الذي ما زال مردوده رهين الأحوال الجوية السنوية و لم يعرف إصلاح فلاحي جذري لتعقّب هذا المعضلة عبر سياسة ري محكمة و فعالة.
كيف يمكن كذلك الحديث عن تعافي الاقتصاد التونسي و الحال أن تونس يجب أن تفوق نسبة النمو فيها أكثر من 5 بالمائة و تشمل القطاعات المنتجة بالدرجة الأولى لخلق القيمة المضافة و الثروة الوطنية و لخلق مواطن شغل ذات قيمة علمية و مستديمة لوقف سيل الهجرة المنظمة و المضرة لكفاءاتنا الوطنية التي استثمرت فيها البلاد ثروات مالية كبيرة و التي أصبحت تستفيد منها الدول الغنية بالدرجة الأولي.
سياسة التقشف و التجويع أصبحت تُهدّد المواطن التونسي في قوته و تهدد السلم الاجتماعية
ما تشهده البلاد من كوارث فادحة في المرافق الاجتماعية الأساسية مثل الصحة و التعليم و النقل و البنية التحتية و ما نشهده من غلاء المعيشة نتيجة التضخم المنفلت أساسه التضخم المستورد الناتج عن انهيار قيمة الدينار و نتيجة الزيادات المُشطّة التي تتوالى بدون هوادة من طرف حكومة تعاني من شح الموارد المالية طالت كل القطاعات بما فيها الصناديق الاجتماعية أصبح لا يطاق و بدأ ينذر بانفجار الوضع الاجتماعي خاصة في ظل ما يجري من حراك اجتماعي في المنطقة و ما يجري في الشقيقة ليبيا من بداية حرب أهلية نسأل الله السلامة منها بأسرع وقت للشعب الليبي الشقيق.
كل هذا الوضع المتفجر و الخطير و الذي طال كل فئات المجتمع و التي تؤكده عديد التدخلات الشعبية في الفضاءات الاجتماعية على المباشر و هي صرخات عفوية تثبت القطيعة بين الشعب و السلطة و التي تتزايد و تنمو من يوم لآخر تجابهه الحكومة بكل أسف بعدم المبالاة و بدون حكمة و تبصرة و بسياسة الهروب إلى المجهول. حيث أصبحت كل الأطراف السياسية خاصة منها الحكومية تسعى لنيل السلطة في الانتخابات القادمة بدون تقديم اي بديل وطني قادر على بعث الأمل في الشعب التونسي و قادر على إخراج البلاد من هذا المستنقع الخطير.
صدر بالعدد الأخير من “الشارع المغاربي”.